مواسم الفرح
رواية مواسم الفرح بفلم امل نصر
الفصل الثاني
باغتها بسؤاله حتى جعلها تصمت بتفكير وهي تشاهد، ملامح وجهه المشتدة ونظرته المتسائلة، فردت اَخيرًا بتردد:
-مش عيب فيها يا ولدي، نهال ماشاء الله عليها، حلوة وزي الجمر كمان، بس بدور عنيها زي الممثلين اللي بياجو في التلفزيون، دا غير إنها صغيرة وهتبقى تحت طوعك، مش زي نهال اللي باصة في العلالي، وعايزة تبجى دكتورة زيك وتناطحك.
صعق مدحت وبدت على ملامح وجهه الصدمة، يتمعن النظر بوالدته ولا يستوعب هذا المنطق الغريب منها في اختيار الزوجة المستقبلية له، ورد بانفعال:
-يعني يا أمي، إنتي فضلتي تختاري الصغيرة عشان تبجى طوع في إيدي، ورفضت المتعلمة اللي كان ممكن تبقى مناسبة ليا عشان ما تناطحنيش؟!
ردت والدته على تصميم باقتناع:
-ايوة يا والدي، لهو انت عايز واحدة تراعي راحتك وتاخد بالها منك ومن طلباتك، ولا واحدة ترد لك الكلمة بكلمة!
تبسم ساخرًا حتى اصبح يضحك بغرابة ليقول بعدم تصديق:
- مش عايزالى واحدة متعلمة عشان متردش عليا طيب ياامى دا انتى مخدتيش ابتدائى حتى وبتردى على ابويا الكلمة بكلمتين مش كلمه واحدة
عبس وجه راضية غير متقبلة لنقد ابنها، وخرج صوتها بعتب:
- وه يا مدحت، لهو انت عايز تخليني انا المــ رة الكبيرة، زي البنتة الصغيرة بتاعة الايام دي....
صمتت برهة لتكمل باستدراك وصل متأخر:
-ولا يكونش البت نهال عجبتك؟
باغتته بسؤالها حتى ظهر عليه الارتباك، والذي حاول أن يخفيه بالتهرب، فتوجه لحقيبته كي يضع فيها متعلقاته الشخصية دون ان يجيبها، فكررت بسؤالها:
-يا والدي قولي لو كان عجبتك، وانا ارجع تاني واقول لابوها.....
- تروحي فين يا أمي؟
قالها مقاطعًا بحدة، ليكمل لها بعصبية وملامح متغيرة:
-جفلي الله لا يسيئك ع الموضوع ده، وكفاية قلة قيمة لحد كدة .
حاولت برجاء:
-لكن يا والدي....
اوقفها بإشارة من يده:
-خلاص الله يخليكي كفاية بقى.
❈-❈-❈
في منزل راجح.
وبعد أن خفت قليلًا نوبة البكاء الشديد ل بدور، خاطبتها نهال للتأكد:
-خلاص هديتي عشان تقدري تتكلمي دلوقتي معايا.
ردت وهي تمسح بأطراف أناملها لتجفف الدمعات المتبقية على وجنتيها:
-والله انا ممكن اقول لابويا واخليه يردلوا على جدي، وهو اللي يتصرف معاه، ليه بيعمل كدة يعني معايا؟ جاي يزعجلي ويتعصب عليا، هو انا اللي اخترت، دا جدي هو اللي اختار، وحتى لو كان، برضوا مش من حقه يعمل معايا كدة، لهو انا كنت مكتوبة بإسمه وانا مش عارفة، ولا إيه يعني بالظبط؟
ردت نهال بلهجة متأثرة:
-رغم إني متأكدة إن اللي عمله غلط، لكن بصراحة مش قادرة اكرهه ولا اشيل منه، اصل دي اول مرة اشوف عاصم بالشكل ده، دا طول عمره رزين وحافظ مجامه، لكن إني يفقد أعصابه بالشكل ده أبدًا، دا انا شوفت عيونه بتلمع يا بنتي، ودي في حياتي مكنت اتصور انها تحصل مع عاصم بالذات.
ردت بدور بعدم إستيعاب:
-بتلمع يعني أيه؟ يعني كان هيبكي؟!
مطت بشفتيها نهال وقد اكتنفتها الحيرة لتردف بتفكير:
-بصراحة انا طول عمري واخدة بالي من نظراته ليكي، بس دي اول مرة اشوفها بكل الوضوح ده، دا باين الجزين بيحبك يا بت؟...
توقفت لتسئل بفضول شقيقتها المحدقة بها:
-طب إنتي إيه رأيك فيه يا بدور، بغض النظر يعني عن إنه خلاص موضوعك اتحسم؟
فكرت قليلًا بدور قبل أن تجيبها:
-معرفاش اقولك أيه؟ بس بصراحة طول عمري بخاف منه عشان طبعه شديد وعصبي مع اي حد يكلمه، بس بيعجبني وهو راكب الحصان .
رددت نهال من خلفها:
-بيعجبك وهو راكب الحصان! بس كدة؟.... ع العموم هو الكلام اساسًا دلوك مالهوش لازمة، عشان جدك اختار انك تتجوزي معتصم واد العمدة
-وه معتصم! بصراحة دا كان اَخر واحد اتوقعه.
قالتها بدور لتسألها نهال على الفور بشك:
-امال كنتي متوقعة مين،
ردت بدور بعفوية:
-عادي يعني أي واحد من عيلتي، اصل احنا بنات العيلة ما بنطلعش براها غير نادر.
أومأت لها برأسها، وعلى حالة الشك التي انتابتها لم تقوى نهال على كبح سؤالها المباشر
- اهو حصل، وبقيتي انتي من النادر ده، المهم بقى، انتي ليه ما قولتيش انك شوفتي الدكتور مدحت ابن عمك الجمعة اللي فاتت، ولا تكونيش اتوقعتي ان الإختيار يرسى عليه؟
تبسمت شقيقتها لتردف لها ببلاهة:
-الدكتور مدحت دا اكبر منى بسنين كتيره وانا اساساً بعد ما شوفته الجمعه اللى فاتت بصراحه نسيت اجولك، او اقول لأمي حتى.
طالعتها نهال بغيظ لتردد خلفها:
-نسيتي تقولي لامك، ونسيتي تقوليلي، تصدجي يا بدور، اهو الدكتور مدحت دا بالذات كان يستاهل واحدة زيك
❈-❈-❈
بعد يومين
وبعد وجبة العشاء التفت العائلة حول والدهم راجح لمعرفة تفاصيل الاتفاق الذي تم بين ابيه وعائلة العمدة الخاطب الجديد لابنة راجح، البنات ووالدتهم على أريكة والصبي الصغير ياسين على حجر أبيه
سألته نعمات:
- يعنى على كده الخطوبة هتبجى فى قاعة افراح فى المحافظة، طيب واحنا هنجدر ع المصاريف دى كلها يا ابو ياسين؟
أجابها الرجل:
- انا جولت كده بس بجى العمده اصر انه هيجوم بالمصاريف كلها، مش هو اللى عايز يتفشخر خليه يتحمل بجى انا عن نفسى كنت عايز حاجة ع الضيق فى بيتى او بيت جدها، وبلاها المنظرة الفارغة، لكن تجولي أيه بجى؟
هللت نهال تقول بفرح:
- طب ما هو حلو يابوى خلينا نشوف افراح البندر ونبجى زيهم، هو انا أقل منها يعني؟
ضحك الجميع على نبرة الحماس التي تخللت صوتها، التفت نعمات لتسأل صاحبة الشأن ابنتها الأخرى، والتى كانت صامتة ولا تندمج معهم.
-وانتي إيه رأيك يا بدور، فرحانة انتي كمان بالقاعة.
هزت المذكورة بكتفيها، لتجيب وكان الأمر لا يعنيها:
- عادى يعنى كله واحد معايا خطوبة ع الضيق ولا ع الواسع ماتفرجش .
-رددت نعمات بعدم استيعاب:
- متفرجش! كيف متفرجش؟ دي خطوبتك يا بتي، ولازم يبقى ليكي رأي فيها، يعني تجولي عايزاها تتعمل كيف؟
للمرة الثانية كان رد بدور أن تحرك كتفيها، وتمط بشقتيها، بما يدل على صدق قولها، في أن الأمر بالنسبة لها سيان، أو لا يمثل أهمية لها، لتثير الإندهاش بقلب والدتها وشقيقتها التي أصبحت تلاحظ شيئًا من التغيير بها.
غير راجح دفة الحديث بتوجيهه للسؤال نحو ابنته الصغيرة نهلة:
-وانتى ياست العرايس هاتكملى تعليم زى نهال ولا تتجوزى صغيرة زى اخواتك الباقين ؟
جلجلت نهلة بضحكة طفولية تجيبه:
- لا هاتجوز صغيره يابوى.
ضحك الجميع على صراحة الصغيرة والنابعة من شقاوتها، ليوجه راجح سؤاله هذه المرة لأصغر الأبناء، ياسين الجالس على حجره:
-وانت ياحبيب ابوك معندكاش اختيار زيهم انت لازم تتعلم وتبقى ظابط كبير او دكتور زى واد عمك .
صاح ياسين بلهفة:
- أنا هابقى ظابط يابوى.
ضمه راجح إليه بفرحة قوية:
- تعيش ياحبيب ابوك وتبقى احسن ظابط، ربنا يديني العمر يا ولدي واشوف اليوم ده.
تمتم الجميع خلفه بالدعاء، ثم هتفت نهال بحماسة:
- طيب على كده الخطوبه مش فاضل عليها غير كام يوم ، ومدام ميعادها الخميس دا كدا مفيش وقت معانا شد حيلك معانا يابوى فى الفلوس احنا عايزين نشرفك .
غمغم راجح بعدم فهم:
- فلوس اللي هتشرفوني بيها دي؟ هو انتوا عايزين إيه،
ضحكت نهال تخاطبه بشقاوة:
- وه يا بوي، كيف مش عارف قصدي، دا احنا عايزين نأجر فساتين سهرة، ونحجز في الكوافير والمكياج واللي زمنه، شد حيلك معانا يا عم راجح.
سمع منها راجح ليتمتم بقلة حيلة.
- اااه دا اللى كنت عامل حسابه هكفيكوم كساوى.
ولا جهاز للبت اللى هاتتجوز ولا مصاريف الكلية بتاعتك ياست البنات.
ربتت على كتفه نعمات تؤازره بضحكة بشوشة:
- ربنا يخيلك ليهم وتعيش مكفيهم العمر كله يارب
تمتم إليها راجح متصنع الغضب:
- أيوة يا ختي، هو دا اللي انتي فالحة انتي وبناتك.
هتفت نعمات ضاحكة:
- الحمد لله اني فالحة في حاجة.
❈-❈-❈
يوم الخميس.
في القاعة الفخمة في المحافظة، تم إقامة حفل الخطبة، لتجمع العائلتين، عائلة أهل العروس ومعهم بعض الأقارب والجيران وقد اتخذوا الجهة اليمنى بها، أما عن عائلة العريس والمتمثلة في أسرة العمدة وافراد من عائلته ومعارفه من رجال الاعمال والشخصيات السيادية في المحافظة، اتخذوا جهة اليسار.
أسرة سالم والتي اتخذ أفرادها طاولة لهم وحدهم بحالة من الوجوم تكتنف معظمهم، مما استفز الأب لتنبيههم:
-أفردي بوزك يا ولية انتي، جاعدة ولا اكنك في عزا .
ردت سميحة بغيظ:
- اعملك ايه يعنى اجوم ارجص مش كفايه خليتنى اجى بالغصب .
ضغط سالم يقول من تحت أسنانه:
- يعنى عايزه ماتجيش خطوبة بت اخوى عشان رفضوا ولدك انتى عايزه الناس تاكل وشنا؟
ردت سميحة تقول بحرقة:
- يغوروا الناس مش كفايه ولدى اللى اتكسر بخاطره وحالته لا تسر عدو ولا حبيب دا طول عمره مش شايف غيرها، عاصم زينة الشباب والبلد كلها.
شدد سالم بقوله لها:
- بجولك ايه ماحدش بيموت من العشج، بكره ربنا يكرمه بواحده تنسيه الدنيا بحالها، يعني انتى دلوكتى تفردى بوزك انتى والعيال وحاولى متبينيش مش كفايه ولدك مرضيش يجى معانا.
❈-❈-❈
وعلى طاولة أخرى، كانت أسرة محسن، والمتمثلة في زوجته هدية، وابنها حربي وبقية الأفراد من الأبناء.
فقالت هدية وعينيها تجول بلا هوادة على كل ارجاء القاعة، متتبعة حركة البشر والتجهيزات المبالغ فيها، لتعلق على كل شاردة وواردة:
- شايف يا سي محسن الهنا دا كله وكنت عايزهم يرضوا بولدك؟
رمقها زوجها بغيظ قائلًا:
-نصيب يا ختي، كل حاجة نصيب.
تدخل حربي يرد على والده بتهكم:
- نصيب برضوا يابوى؟ ولا هي لعبة، يعنى تبجى بت عمى ومتبجاش من نصيبى دا اكيد ترتيب على كبير من جدى وعمى راجح.
هم محسن للرد بحزم، ولكن اوقفه تغير الإضاءة بالألوان المبهجة، مع اشتعال الموسيقى بدخول العروسين.
دلفت بدور بصحبة عريسها ترتدي فستان من اللون الفوشيا، بقماشه الحريري والامع بشدة، مع لفة الحجاب التي زينها التاج الصغير في الأعلى، وزينة وجهها زادتها جمالًا، ورسمة العين التي اظهرت لونها المختلف بشكل خرافي، يجعل النظر إليها متعة، أما عريسها والذي ارتدي حلة باللون الكحلي، اظهرت نحافته الشديدة وصغر سنه، فمعتصم كان لا يفرق عن العروس سوى بثلاث سنوات
جمال الحفل بنتظيمه الرائع، مع جمال العروس المبهر، جعل الإنبهار يخيم على جميع الحضور، ولكن المفاجأة الأكبر كان هو طلة نهال شقيقة العروس، والتي ظهرت من خلفها، بفستان من اللون النبيتي محتشم ولكنه ناسب قدها الرشيق ببراعة، وزينة خفيفية وضحت ملامحها الرقيقة، لتسحر كل من يراها، حتى أثارت الأحاديث عنها، وعن جمالها الخاطف كشقيقتها .
حربي والذي سحره الهيئة المختلفة لأبنة عمه، همس لوالدته:
- شايفه يا اما البت نهال اللى بتجول ان دماغها في التعليم وبس، ومش عايزة تتجوز بجت ازاى؟
ردت هدية محدقة بها بتفكير:
-شايفة يا حربي، شايفة قوي.
❈-❈-❈
اوقف مدحت سيارته في الصف الطويل بجوار القاعة، بعد أن انهى مواعيد فحصه في العيادة سريعًا حتى يفرغ للحفل ويحضره، وجد شقيقه على مقربة من المدخل واقفًا بتحفز، اقترب من يصافحه ثم سأله على عجالة:
- ايه أخبارك؟ واخبار الفرح اللي جوا ده إيه؟
ردد رائف بتهليل:
-الفرح هايل يا عم الحج ومشعلل كمان، دا بنات عمك راجح جالبين الدنيا جوا سوا العروسة ولا نهال كمان . دى النهاردة حاجة تانية خالص.
-حاجة تانية ازاي يعني؟ ما لهم بنات عمك؟
سأله مدحت باستفسار، ليجيبه الاَخر:
-يعني المكياج واللبس خلاهم حاجة تهبل، حاجة كدة زي اللي بتشوفها في التليفزيون، وهما أساسًا حلوين ع الطبيعة، يعني مش محتاجين .
لا يعلم لما اعتراه هذا الضيق المفاجئ بدون سبب، فرد ببرود يدعي يدعيه عكس ما بداخله:
-وانت واقف على باب القاعة ليه؟ ما تدخل تهيص في الفرح الهايل زي ما بتقول؟
رد رائف ضاحكُا:
- هدخل يا عم الدكتور وههيص كمان، بس العيال صحابي اللي انا واقف مستنيهم، عشان لما ياجو ندخل مع بعض مجموعة ونولعها، ادخل انت هتلاجى ابويا وجدى جاعدين على طرابيزة واحدة.
اومأ له مدحت ودلف لداخل القاعة بجمود، يصافح الاقارب والمعارف بابتسامة مجاملة لا تصل لعيناه، ليواصل طريقه، وكأنه يبحث عن شئ ما، حتى أنه لم يكلف نفسه بالنظر نحو ركن العروسين، من أجل المباركة والتهنئة التي أتى من أجلها خصيصا، لتظل عيناه تجول بين الحضور حتى وجدها على طاولة جده، بهذه الهيئة التي تخطف الأنفاس، بزينة وجهها وهذا الفستان الذي اظهر جمال قدها، تبدوا وكأنها حورية من الجنة، وصف شقيقه المبالغ فيه، لم يعطيها نصف حقها، غمغم بالسباب داخله واحتدت انظاره نحوها وهو يراها تتسامر مع جده بالضحكات وكأنها منفصلة عن العالم، ولا تعي بالعيون المصوبة نحوها.
- مساء الخير يا جدي
ألقى بالتحية فور أن وصل إليهما، وارتفعت رؤوس الاثنان نحوه، ليتلاقاه ياسين بالترحاب الشديد:
-اهلا بالغالى زينة الشباب، ادخل في حضن جدك.
اقترب مدحت يتناول كف جده ليقبلها:
-يا حبيبي يا جدي، ربنا يخليك لينا.
ارتجفت نهال وقد اجفلها اقترابه المفاجئ منها وهي بجوار جدها، ثم ارتفعت عيناه الصقرية نحوها، بنظرة غامضة اصابتها بالارتباك، وهو يكمل ترحيبه بجده
حاولت السيطرة على توترها، تنهض فجأة قائلة:
- طب انا هروح اشوف اصحابى ياجدى وانت عقبالك يادكتور .
قالتها بمجاملة على عجالة، لتكمل بمد يدها من اجل أن تصافحه وتذهب بعد ذلك سريعًا، استقام هو ليبادلها المصافحة بوجه مشتد مبهم الملامح:
- وانت كمان عقبالك.
أؤمأت بشبه ابتسامة مضطربة وهمت بالذهاب، ولكنها تفاجأت به يوقفها بالضغط على كفها بكفه ومنع نزعها عنه، طالعته باستفهام مستغربة، فخرج صوته يخاطبها بحدة ونظرة مشتعلة:
- ايه انتي عملاه فى نفسك ده؟
سؤاله المباغت جعلها ترتبك في البداية، وكأن عقلها أصابه الشلل عن التفكير، ولكنها استعادت تماسكها سريعًا، لترد بكل التحدي وهي تتطلع إليه بقوة:
- وانت مالك؟!
ضيق عينيه غير مستوعب الجملة في البداية لتزداد ضغطة كفه عليها، مع شعور الغيظ الذي تملكه لنظرة التحدي التي كانت تطالعه بها، فهدر كازًا على اسنانه:
-يعنى ايه انا مالى ؟ يعنى ايه انا مالى هه ؟؟
اجفلها فعله الغريب، وهي تشعر بكفها تعتصر بين يده، فقالت ببعض المهادنة، لأن وضعها وانظار الناس التي كانت مصوبة نحوها، جعلها تود فعل اي شئ لتذهب من امام هذا المعتوه الذي ينقدها بغير حق بملاحظاته الوقحة عما ترتديه أو تتزين به:
- انا مغلطتش فيك على فكرة، سيب أيدي.
- مدحت :
هتف بها ياسين يومئ له بعيناه حتى انتبه، فنزع كفه عنها، يتمتم بالاستغفار، ليقول بخشونة ليُخفي حرجه:
- معلش مكنتش واخد بالى، بس انتى استفزتينى لما جولتيلى انت مالك،
سمعت منه والتفت نحو جدها تدلك كفها المتألم، وهي تطالعه بأعين التمعت بالدموع وكأنها تعاتبه لسكوته عن فعل هذا المجنون، التقط ياسين بفراسته، ما تفكر به، فقال يراضيها:
معلش يابتى واد عمك بس بجالوا سنين بعيد عن البلد وميعرفش ان البلد اتطورت والبنته بتلبس ع الموضة دلوك
انتفضت نهال لتسدير قائلة قبل أن تغادر من أمامهم بعصبية:
- حتى لو كان انا محدش ليه حكم عليا غير ابويا ثم انا مش عيله صغيرة، انا بكره هبجى دكتورة زيه واحسن كمان
قالتها وذهبت سريعًا من أمامم، هم مدحت لملاحقتها ، ولكن ياسين أوقفه بأن جذبه من كفه، ليجلسه عنوة، فقال مدحت يخاطب جده بغضب:
- عاجبك كدة يا جدى جلة ادبها عليا ولا اللى عملاه فى وشها والفستان اللي هي لابساه؟
شدد ياسين على كفه يقول بحكمة:
-براحة يا ولدي، بلاش طبعك الشديد ده مع بت عمك،
البت فرحانة باختها والبنته بتعمل اكتر من كده دلوك.
رد مدحت بحدة:
- والفرحانه تهبب دا كله فى وشها، ليه بجى كانت العروسه هى.
قال ياسين بلوم:
- يا ولدى مش كده انت ماخدتش بالك وانت جارص على يدها، انت الدكتور المتعلم عمرك ماكنت عصبى كده يا مدحت !
نفض رأسه مدحت ليغير دفة الحديث بقوله:
- طيب انت جاعد لوحدك ليه يا جدى ؟ ابويا وامى راحوا فين ؟
ربت ياسين على كتفه بحنان يجيبه:
- راحوا يباركوا للعرسان فى الكوشه ياولدى
عجبالك ياحبيبى هى دى اللى هاتبجى الفرحة الكبيرة ليا
- جريب ياجدى ان شاء الله جريب
قالها مدحت وكأنه يؤكد الكلام لنفسه!
❈-❈-❈
نهال والتي كانت تغمغم بالكلمات الحانقة، وهي تدلك كفها التي فقدت الاحساس بها بعد عصرها من قبل ابن عمها المعتوه، اصطدمت بفتاة لتجدها نوها صديقتها، والتي خاطبتها باستغراب:
- انتي كنتي فين؟ ومال يدك؟ ماسكها كدة ووشك مقلوب
تمتمت نهال بعصبية ودون أن تفكر:
- رجعى، متخلف لا وعاملى فيها دكتور.
سألتها نوها بعدم فهم:
- مين دا يا بنتى اللى بتتكلمى عنه؟
وكأنها لم تسمعها، رفعت نهال رأسها إلى صديقتها تقول:
- طيب وانا هزعل نفسى ليه ؟ وهو مالو بيا اصلا !!
بت يا نوها تعالى معايا هروح اظبط مكياجى فى الحمام
قالتها لتسحب نوها، من يدها، ثم تأخذها نحو حمامات القاعة، اطاعتها نوها رغم استغراب حالة صديقتها
وكلماتها الغير مفهومة، بغرض الإستفهام بعد ذلك.
❈-❈-❈
بعد قليل وأمام المراَة، كانت نهال تعيد على زينة وجهها الخفيفة، ونوها من خلفها لا تكف عن البكاء.
- بجى الدكتور مدحت اللى بجالك سنين وانتى مصدعانى بيه ومش شايفه فى الدنيا حد غيره دلوكتى بجى رجعى ومتخلف ياشيخه دا انتى دخلتى الطب مخصوص عشانه !!!
ردت نهال بعصبية:
- ايوه صح كلامك واكتشفت انى كنت حماره عشان كنت معميه على عينى وبحبه بس من ساعة ما اتجدم لاختى الصغيره وانا بجيت شايفاه زين و انا دلوكتى مش هابص غير لمستجبلى وبس .
.❈-❈-❈
وعلى كرسيها بجوار خطيبها المزعوم ، كانت بدور وكأنها في دوامة، لا تستطيع ترجمتها لهذا الإحساس، لا تشعر بفرحة العرس كأي عروس، ولا حتى هذه الشبكة الغالية التي وضعت على يديها، كلمات الغزل التي كان يلقيها على اسماعها ليثني على جمالها، كانت ترد عليها بحساب، ومعظم الوقت لا تجيب،
خرجت من حالة الشرود التي تلبستها من اول اليوم، على هذا المشهد الغريب، حينما وجدت معتصم خطيبها ، يشعل سيجارة يدخنها بجوارها وأمام أعين الجميع، فخاطبته مستنكرة:
- ايه اللى انت بتشربه دا يا معتصم؟ ارمى السيجارة دى من يدك حتى عشان منظرك فى الكوشة
رد معتصم، وهو ينفث دخان السيجارة بعدم اكتراث:
- منظر ايه اللى بتتكلمى عنه؟ انا اجدر اعمل اى حاجة وفى اى وجت ومحدش يجدر يبصلى حتى مش يكلمنى.
اغتاظت بدور من لهجته المتعالية، وهذه الغرور، فعقبت على قوله باستهجان:
- طيب سيبك من كلام الناس مش خايف على صحتك انت يدوبك ٢٠ سنه دى كده غلط جدا عليك؟ انت امتى لحجت تشربها اساسا؟
ضحك معتصم حتى ظهرت جميع أسنانه، ليزيد من استفزازها بقوله:
-تجدري تقولي إني من ساعة ما تولدت وانا السيجارة فى يدى ههههه .
اشمأزت بدور من ضحكاته الغير مبررة، وهي ترا أسنانه الصفراء عن قرب، لتشيح بوجهه عنه بقرف، فاصطدمت عينيها، بهذا الذي كان واقفًا في أول القاعة، يطالعها بنظرات غامضة وليست مفهومة.
❈❈-❈
وإلى عاصم والذي غلبه الشوق ف أتى رغم تصميمه على ألا يأتي، حتى لا يراها بحوار أحد غيره، ولكنه لم يقوى على ان يتحكم في نفسه، واقدامه التي قادته،حتى دلف للقاعة ، كي يراها، يقهره العجز وقلبه من الوجع يعتصر وينزف ولا أحد يشعر به
وفي الجهة القريبة كان مدحت قد انتهى من تحية احد اصدقائه، وفي طريقه للعودة إلى طاولة عائلته، ولكنه انتبه على دخول عاصم، بهيئة مزرية لا تخفى على رجل مثله، يقف متسمرًا، وأنظاره مثبتة على العروسين، وكأنه في عالم اَخر.
اقترب منه من أجل أن يصافحه، ويتحدث معه، ولكن الاخر كان قد انتبه إليه، فرمقه بنظرة كارهة واستدار ليخرج، لحقه مدحت يمسك بمرفقه وهو يقول له:
- اجف استنى عندك يا عاصم، أنا عايز اسلم عليك.
توقف مدحت على هذه المنظرة المذبــ وحة من ابن عمه، ليكمل سائلًا نحوه بجزع:
- انت مالك يا عاصم؟ ايه اللى حصل يا واد عمى ؟
نفض عاصم ذراعه عنه بعنف قبل أن يجيبه بحدة:
- عمرى ما هسامحكم لا انت ولا واد عمك حربى، عشان انتوا السبب في كل اللي وصلنا ليه، لو مكنتوش ادخلتوا في نفس اللحظة اللي انا اتقدمت فيها، مكنش حصل دا كله.
تنهد مدحت يعقب على قوله باستخفاف:
- يعنى انت عامل فى نفسك كده عشان متجوزتش بدور، يا عم هو ايه اللى حصل يعنى؟ بكره تتجوز احلى منها كمان، روق نفسك يا واد عمى هو اللى خلقها مخلجش غيرها .
رد عاصم بشبه ابتسامة وهو يربت على ذراع مدحت بخفة:
-ساهل جوى الكلام منك يا واد عمى عشان انت مجربتش .
توقف قليلًا، ليضيف بحرقة
- عشان انت لو حبيت بجد، أكيد يعني مش هتتحمل تشوف حبيبك فى الكوشه مع حد تانى غيرك، سيبنى ياواد عمى خلينى امشى.
قالها واتجه للخارج على الفور، يعود بسيارته التي أتى بها، في سكون، ويترك مدحت وكلمات عاصم تطن بعقله، وتوجع قلبه حزنًا على ابن عمه والذي شارك بغباءه هو فيما وصل إليه.
❈-❈-❈
وفي جانب وحدهم وعلى قرب انتهاء حفل الخطبة، تجمع نساء العائلة تقريبا جميعهم على طاولة وحدهم، ليتسامروا مع الحج ياسين:
فقالت هدية:
- خلاص ياعمى، انت مدام مبسوط جوى كده يبجى احنا كمان نعمل فرح حربى فى القاعه يعنى هو احنا اقل من العمد ولا ايه؟
نعمات بحسن نيه؛
- وماله ياحبيبتى يارب يكرم حربى بالعروسه هو كمان
قالت هديه بتلميح :
- شدى حيلك انتى ياحبيبتى معانا واحنا نخلى الفرحة فرحتين
تطلعت إليها نعمات تسألها باستفهام:
- اشد حيلى! جصدك يعنى ادور معاكى على عروسه؟
تدخلت سميحة تخاطب هدية وهي ترمي على نعمات:
- اللحجى يا هديه دى عامله نفسها مش عارفه
- عيب يا سميحه بلاش تلجيح الكلام ده.
هدر بها الجد ياسين هامسًا بحدة يوقف الاثنتان، ولكن نعمات اصرت على المعرفة
- يعنى ايه؟ ما تخليهم يتكلموا، انا مش فاهمه حاجة يا عمى .
ردت راضية بخبث هي الآخرى:
- افهمك انا ياغاليه اصل هديه وولدها حربى النهاردة حاطين عينهم على نهال من أول الفرح ولا انتي مخدتيش بالك؟
- نعم؟ إيه اللي انتو بتجولوه ده؟
قالتها نهال باستغراب، والتي وصلت وقتها وسمعت حديثهم، صمتت نعمات كالعادة حينما تشعر بانفعال بسري بداخل نحو موقف ما، حتى لا يخرج من فمها الخطأ، وتكفلت راضية بالرد على نهال :
- زى ماسمعتى كده ياحبيبتى حربى واد عمك عينه ماتشلش من عليكى النهاردة بس سيبك منه انتى خلاص هتبجى عروسة ولدى الدكتور هو اللى يستاهلك.
تملك نهال الغيظ وهذه النبرة المستهينة بها وباختيارها، لترد باندفاع:
- حيلكم حيلكم هو بلاها سوسو خد توتو، لا بجى انا هبجى دكتوره يعنى ما يلزمتيش اتجوز الدكتور ولا غيره
- شدى حيلك وورينا شطارتك
قالها مدحت اللى وصل على حظها في هذا الوقت، حالا ليتفاجأ من طريقة حديثها عنه، لتجفل وتلتف برأسها إليه، فترى هذا الاشتعال بعينيه، ليخيم الصمت على الجميع وتسود ذبذبات توتر في الهواء حولهم غير مريحة، ثم قال مخاطبًا والدته وعيناه على نهال:
- مش يا للا بجى يا امى عشان اوصلك انا شايف ان الخطوبه قربت تختم وملهاش لازمه الجعدة اكتر من كده
نهضت راضية عن محلها تطيعه دون صوت، وتحركت لتسبقه بخطواته البطيئة، اما هو ف أبى ان يترك الحفل دون أن يرد، ف اقترب من نهال يهمس لها بغضب، جعل قلبها ينتفض
اما نشوف شطارتك ياست الدكتورة.
❈-❈-❈
بداخل السيارة وفي طريقهم للعودة، كان مدحت يقود السيارة بعقل شارد مع هذه المتمردة، يعتريه الغيظ بشدة منها ومن رفضها له، دون تقدير بمكانته، وكأنه شخص بلا قيمة، كلماتها كانت تتكرر على أسماعه، حتى انه لم يكن منتبهًا لحديث والدته وشقيقته، حتى نفسه لتخرج افكاره بصوت مسموع:
- ماشى، ان ما كنت ربيتك مبقاش انا .
- مين دى اللي هتربيها ؟!
هتف بها رائف من خلفه وهو جالس على الكنبة الخلفية، لينتظر الإجابة من مدحت الذي لفه الأرتباك، وزاد من حرجه بأن سُمعت أفكاره .
ردت راضية بذكائها المعهود وهي جالسة في الامام بجوار ابنها،
- متخدتش على خاطرك وتزعل يا حبيبي، ما انا جولتلك من الاول البت دى محدش مالى عينها
- مين دى ؟
هتف بها رائف من الخلف، وعيناه تتنقل ما بين والدته وشقيقه الذي كان يقود بوجه متجهم، والذي تجاهله ليقول بغضب واستياء:
- امى الله يخليكي، انا مش عايز افتح كلام لأن انتى اللى غلطانه من الاول .
ردت راضيه بملامح حزينة:
- انا يا ولدى ليه؟ عملت ايه بس ؟
رد مدحت وعيناه ارتكزت نحو الطريق، دون ان يلتف بنظره نحوها:
- يعنى مش عارفه عملتى ايه؟! انتى خدتى رأيى جبل ماتعرضى عليها الجواز ياما؟
صاحت ترد بدفاعية:
- يعنى الحق عليا يا ولدى، دا انا مكنتش عايزاها من الاول عشان راسها الناشفة وعقلها الشاطح في التعليم والكلام الفاضي، لكن لما شوفتها عجباك جولت اجوزهالك.
ضرب بقبضته على المقود بعصبية وهو يهدر كازًا على أسنانه:
-تاني برضوا بتنفذي اللي في دماغك من غير ما تشوريني، تمام زي ما عملتي المرة اللي فاتت وخليتني اتحط في موقف محرج مع عيال عمي، طب انتي عرفتى منين انها عجبانى؟ انا جولتلك؟
صاح رائف من الخلف:
- لا بجى افهم مين دى اللى بتتكلموا عليها انا مش هجعد على طول كده زى الاطرش فى الزفة،
لم تلتفت إليه راضية ولكنها واصلت الحديث مع مدحت بحنان الأم :
- يا ولدى انا شوفتها فى عينك مين غير ما تجول، فقولت اللحق قبل ما تروح لحد تاني زي اللي راحت.
هم مدحت لقطع حديثها ولكنها سبقته بتصميم
- ماتحاولش تنكر ياواد بطنى، نظرتك ليها كانت فضحاك الليله وانت عينك مانزلتش من عليها، دا انت ولدي اللي انا حفظاه اكتر من نفسه.
كلماتها القوية أجبرته على الصمت مع تفكيره الذي عاد إلى هذه المتمردة التي شغلته طوال الأيام الماضية، من وقت ان رأها ببيت جده، حتى شجاره معها الليلة، بعد ان شعر بتوقف دقات قلبه عن النبض مع رؤيتها بهذا الجمال الساحر، وعيون البشر التي تتاَكلها من حوله، حتى نسي اتزانه وكاد ان يفضح نفسه بانفعاله عليها، انتفض من شروده فزعًا على صوت رائف شقيقه من الخلف:
- وبعدين يعنى معاكم انتو هاتفضلوا كده كتير تتكلموا بالالغاز انا عايز اعرف الكلام دا كله على مين؟
صاحت بدورها راضية عليه ترد بعصبية نحوه:
- يخرب مطنك يا شيخ، خبر ايه يا واد؟ انت ايه اللى جابك معانا اساساً ماكنت جيت مع ابوك وعمامك فى عربية الرجاله، هاتبيض وتعرف مين هى؟ .... ما بنجيبش سيرة حد غريب، احنا بنتكلم على بت عمك المحروسة نهال يا سيدى، ست الحسن والجمال اللى شايفه نفسها ومحدش مالى عينها.
سمع منها رائف ليعود بظهره للخلف مسترخيًا يقول:
- اااه يعني انتوا بيتكلموا على نهال، جولو كده عشان ابقى معاكم في الحديت، طب وهي نهال شايفه نفسها ياما؟ دى عسل ودمها سكر كمان.
قالها وهو يبتسم ببلاهة، غافلًا بغباء عن نظرات شقيقه التي كان يحدجه بها بعنف في المراَة الأمامية، فقالت راضية تغير دفة الحديث:
- طب انت برضك هتوصلنا وتمشى فى الليلالى يا ولدى؟ مش ناوي تبيبت، حتى عشان تقضى الجمعة معانا، دا انت بجالك سنين ماخدتش اجازه .
هم ان يرد بالرفض ولكن سبقه رائف بقوله:
- ايوه صح يا دكتور، دا حتى الجمعه بكره اول الشهر، يعنى العيله كلها هتتجمع عند جدى واهى فرصه تغير جو وتفتكر زكرياتك مع الحصان العالى بتاع جدى ولا كمان اكل عمتى صباح انت عارفه بجى مش هاجولك
رد مدحت بتفكير:
- العيله كلها، طب اما اشوف وجتى يسمح ولا لأ.
... يتبع
#امل_نصر
#بنت_الجنوب