مواسم الفرح
مواسم الفرح بفلم امل نصر
الفصل الحادي عشر والثاني عشر
الفصل الحادي عشر
ذهب العمدة هاشم بصحبة ابنه الساخط معتصم، وظل هو لعدة دقائق يحاول الإنتظار او منع جنوح نفسه بالدخول إلى منزل عمه راجح، حتى لا يظهر بصورة سيئة أمامهم، ولكن الفضول كاد أن يقتله، يريد معرفة ما قد تم، وماذا فعل جده في الجلسة مع هذا الرجل الداهية وعمه الطيب راجح؟ ترى من نجح وكيف سارت الجلسة وما الذي تم؟ غضب معتصم وهو خارج مع ابيه يجعل بعض الأمل يتسلل إليه، ولكن هذا لا يكفي، لابد له من أن يتأكد بنفسه، لذلك لم يجد بدًا من التحرك نحو المنزل، بحجة العودة بجده إلى المنزل.
- عمي راجح.
هتف بها كنداء وهو يصفق بكفيه، ف جاء رد الاَخر يدعوه:
- ادخل يا عاصم، مفيش حد غريب يا ولدي
ولج على قول الاَخير يتحمحم بخشونة، وهو يخطو بحرج، ويردف بتصنع:
- انا جيت اخد جدي يا عمي اللي اتأخر ده.
قطع جملته وتوقف فجأة متسمرًا بذهول، وهو يراها تحتضن جده وتضحك بانطلاق غريب عنها، بشكل اثار جنونه، ليجبر نفسه للإشاحة بأنظاره عنها بصعوبة، وخرج صوته نحو عمه راجح الجالس بجوارهم بسكون:
- إيه اللي حصل يا عمي؟
تكلفت نعمات بالرد وقد كانت جالسة بالقرب منهما، وتتابعهم هي الأخرى:
- مفيش حاجة تجلج يا ولدى، اصل بت عمك فرحانة عشان اتفشكلت خطوبتها من معتصم .
سمع منها وشعر بتوقف دقات قلبه عن النبض لعدة لحظات قبل أن يتمالك، حتى لا يُظهر سعادته، أو يهدئ هذا الذي تحول للخفق داخله فجأة بغباء، ف خاطبه ياسين بلؤم:
- ما تيجى تشوف بت عمك اللى اتجننت يا عاصم، البت هتطلع روحي من الفرحة يا راجل.
اطرقت بدور محرجة بابتسامة خجلة، واضطرب عاصم من جرأة جده ومزاحه المكشوف، لدرجة اربكته عن الرد، ف تجاهل عن عمد واتجه نحو عمه الصامت، واضعًا كفه اسفل خده، ليخاطبه بتوجس:
- طب وانت ليه زعلان يا عم؟
رفع رأسهِ إليه راجح ليجيبه بقلق:
- لا بالعكس انا مش زعلان، انا بس خايف يا ولدى من اللي جاي، دا غير إني مضمنش غدر العمدة
- يجدر يفتح خشمه ولا يعمل معاك اى دجة نجص . عشان كنت دافينهم هما وولده مع بعض .
هتف بها عاصم بعصبية انسته حذره، وتلقفها ياسين بمشاكسة، متلاعبًا بحاجبيه:
- ايوه كده يا سبع، طالع لجدك يا واد
لم يقوى عاصم على إخفاء ابتسامته، مع الضحكات التي انطلقت من افواه الجميع حتى راجح، أزاح عن عقله القلق، وبدور التي كانت تخفي ثغرها الضاحك بخجل زاد على جنون الاَخر، حتى هتف على حين غفلة مخاطبًا جده:
- مش كفاية بجى يا جدى خلينا نمشى، الدنيا ليلت يا راجل.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
وداخل قاعة المحاضرات، ولج بهيبته التي تلجم الأفواه عن الكلام في حضوره، القى التحية سريعًا، وعينيه جالت تبحث عنها :
- صباح الخير.
حينما رد الطلاب عليه بالتحية، كان هو قد وجدها، في المكان اخر غير الذي اعتادت عليه مع صديقتيها الأخريات، بثينة ونهى، ورغم شوقه الذي اوجع قلبه في البداية، إلا أن ذلك لم ينسيه غضبه منها، لتجاهلها عن عمد، للرد على اتصالاته العديدة بها، بالإضافة إلى هذا المقلب السخيف، حينما تركته ينتظرها بالساعة في انتظارها في الصباح حتى يُقلها نحو الجامعة، قبل ان يكتشف ذهابها مع زميلاتها في السكن دون أن تخبره، صك على أسنانه من الغيظ ينفث دخان من أنفه، ليُلهي نفسه بالعمل، ويشرح المحاضرة، ولكن بداخله بركان يغلي ولابد له من الرد، ولابد من الحساب، يجب عليه الرد وبقسوة، يجب ان يريبها، لابد من تربيتها.
بعد انتهاء المحاضرة
همت ان تنسحب وتخرج كباقي الزملاء، ولكنه فاجأها بالنداء أمامهم:
- نهال، .... تعالى ورايا عايزك فى المكتب .
قالها على عجالة وخرج سريعًا، ف كشرت هي بغيظ وعينيها تتنقل بين صديقتيها، بأنفعال شديد من لأسلوبه المتحكم بجرأة اجفلتها امام الجميع:.
- شايفين الإستفزاز؟ عشان تبطلوا بس تدافعوا عنه.
قالتها للفتيات من تحت أسنانها، وردت بثينة:
- روحى شوفيه، دا باين قوى انه مش طبيعى .
نهى هي الأخرى
- ايوه يا نهال واد عمك باينه اتجنن لما مردتيش عليه النهاردة، دا وشه مدخن من اول ما دخل النهاردة.
ردت نهال بعند:
- ولا هعبره ولا هروحلوا حتى مكتبه .
قالت نهى بخوف:
- لا والنبى حن عليكى شوفيه عايز ايه واحنا هانستناكى.
زادت في العند قائلة:
- لا مش رايحة ولا معبراه ومطرح ما يحط راسه يحط رجليه .
تبسمت بثينة تنكافها بمكر:
- ما تقولى انك خايفة من مواجهته
التف إليها بصدمة تردد:
- انا خايفة من المواجهة؟
قالتها بتساؤل، لتصطدم بنظرات الاثنتين، فهتف بانفعال:
- ماشى يا بثينة، ماشي يا نهى، انا رايحة عشان اثبتلك انى مش خايفة ولا حتى جلجانة.
❈-❈-❈
بخطوات مسرعة ونفس يدفعها التحدي كانت مصممة على مقابلته كي تثبت لصديقتيها صحة ما اردفت به، ولكنها وبمجرد أن وصلت إلى باب حجرته تسمرت محلها لتخرج شهيق طويل وتخرجه لتهديء اضطرابًا تجاهد للسيطرة عليه، ابتعلت ريقها قبل أن ترفع قبضتها لتطرق على باب الحجرة، ليجفلها على الفور بصيحته:
-ادخل .
انتفضت فجأة ثم تداركت لتفتح الباب بهدوء، لتطل برأسها أمامها قائلة:
- حضرتك كنت عايزنى يا دكتور !!.
قالتها بعملية قبل أن تدلف إليه بجمود انتبه عليه هو وتغاضى ليرد بحسم:
- ادخلى كويس واجفلى الباب وراكى .
كتمت داخلها صيحة الرفض، وحاولت أن تتصرف بطبيعية معه، والتفت لتفعل ما أمرها به، ولكنها ترددت في غلقه بالكامل، فجعلته بمواربة قليلة، قبل أن تجفل على كف قوية تغلقة بقوة من خلفها، وصوت يردد
- الجفل يكون كدة، هو انتى خايفه ع الباب؟
قال الاَخيرة وعينيه تواصلت مع عينيها من مسافة قريبة جدا اربكتها لترتد للخلف صامتة بذهول، لرد فعله السريع، تتسائل بين نفسها، متى نهض ومتى وصل إليها بهذه السرعة؟ ويبدو انه فهم من نفسه، ف تركها على الفور ليعود إلى مكتبه، متسائلًا:
- هتفضلى واجفة مكانك كدة كتير؟
استجمعت شجاعتها لتسأله بدون تردد:
- انت كنت عايزنى ليه؟
وكأن بسؤالها اعطته الفرصة ليخرج شياطين غضبه، ف نهض عن مقعده بتحفز يسألها:
- انتى مالك ؟!
ادعت عدم الفهم لتجيب على سؤاله بسؤال:
- مالى كيف يعنى ؟! ما توضح؟
صاح بها بانفعال:
- انتى هتستهبلى وتعملى نفسك مش فاهمه؟ ارن عليكى متروديش، استناكى عشان اوصلك الكلية تسبينى اتلطع بالساعة وفى الآخر اعرف من بواب السكن عندكم انك مشيتى مع زميلاتك فى السكن من غير ما تعبرينى ولا تديلى فكرة حتى، وبعد دا كله عاملة نفسك مش فاهمة.
عقبت بكل البساطة:
- أنا أسفة انى مرديتش على تليفونك، بس احب اجولك انى من هنا ورايح مش هركب معاك تانى عربيتك ولا هسمحلك توصلنى.
افتر فاهه ينظارها بصدمة، ليميل برأسهِ نحوها يقول بتهكم ساخر:
- نعم يا ماما، سمعينى تاني، مش هتسمحيلى !
قال الاَخيرة ليصيح بوجهها وعينيه تطلق شررًا من الجحيم نحوها:
- هو مين بالظبط اللي هيسمح ولا ميسمحش؟ ولا انا لما حكمت ان مفيش روحة ولا رجعة للكلية غير معايا، كنت خدت إذنك؟
اسلوبه المتسلط في توجيه الخطاب بعنجهية نحوها زاد من جرعة السخط داخلها منه، لتردف بقوة:
- بصفتك إيه تحكم وتتحكم فيا؟
باغتته بردها حتى جعلته يرتبك في البداية قبل أن يجيبها بالرد النمطي المعتاد والمعروف:
- بصفتى واد عمك وانتى هنا مسؤليتى ولا انتي نسيتي دي كمان؟
استغلت لترد بقوة مصوبة عينيها في عينيه:
- والناس هتعرف منين انك واد عمى؟ مش يمكن يفتكرونى بنت مش كويسه أو ... يفتكرونى ساهلة؟
ارتد برأسها للخلف مجفلًا من إجابتها التي تتضمن تلميح صريح لما أدلى بها نحوها بالأمس، تذكر حجم خطئه من نظرتها المتألمة رغم حدة حديثها، ورسائل اللوم التي يقرأها بها، ليسألهًا اَخيرًا:
- هو دا بجى السبب اللى مخليكى زعلانة منى؟
ترقرقت الدموع بعينيها لتهتف بجرح قلبها:
- يعنى انت عايزنى ابجى مبسوطة لما تتهمنى انى ساهلة وبخلى الناس تاخد فكرة غلط عني.....
قالت الاَخيرة، وانطلقت ببكاء اليم اوجع قلبه، الذي تألم لألمها، فقال بنبرة نادمة:
- أنا أسف إن كنت جرحتك، بس انتي عارفة إن دا مش جاصد أكيد.
بعد اعتذاره والاعتراف بخطأه، زاد بكاءها، حتى امسكها من رسغها يسحبها، ليجلسها على اريكة موضوعة في جانب الغرفة، تنهد بألم يمسح بمحرمته الورقية دموعها التي كانت تتساقط بغزارة ودون توقف، وقال بأسف:
- خلاص بجى، اعملك ايه عشان تسامحى؟
خرجت منه بصوت ضعيف وحنون، جعلها ترفع رأسها إليه، ليقابلها بنظرة تجمعت بها كلمات الأسف والاعتذار وأشياء أخرى لم تفهمها، فقالت بشعور التوتر الذي اكتنفها:
- متعملش حاجه خلاص، بس انا عايزاك تفهم كويس انا عمرى ماهزرت مع حد غريب عليا ورائف ده انا متربية معاه، وبالنسبالى اكتر من اخ.
- انا عارف.
قالها باقتضاب مقاطعًا لها، ف سألته باندهاش:
- طيب ولما هو كدة، ليه بجى بتدايج لما تلاجيني اهزر معاه ؟
- عشان بغير!
قالها سريعًا وبدون تفكير، حتى ظنت أنها سمعت خطأ، وصمتت في انتظار تفسير لما سمعته، ف استطرد لها بقوة:
- ايوه بغير منه، ومن اى حد يكلمك ولا يهزر معاكى كمان، انا نفسى مكنتش اعرف بالعيب دا فيا غير لما حبيتك، يمكن عشان دي أول مرة احب فيها حجيجى وبجنون كمان .
بهتت تناظره بازبهلال وقد انسحبت من وجهها الدماء، لا تزال لا تستوعب ما يردف به، ينتابها مرة شعور الخجل ومرة أخرى تدعي عدم صحة ما تسمعه، فخرج صوتها بحيرة حاسمة:
- انت بتجول ايه بس؟ انا جايمة.
قالتها وهي تنهض، بالفعل ولكنه اوقفها مخاطبًا:
- انا عارف انك مكسوفه والكلام ده ممكن يكون صدمة ليكي، بس انا واد عمك ومش هلف ولا ادور معاكي في الكلام، وعشان اوفر عليكي الحيرة، انا عايز ادخل في الجد على طول، ونفسى اسمع اى خبر حلو منك قريب عشان افرح ابويا وامى، ولحد ما يحصل ده، هسيبك براحتك عشان تبقالك حرية الاختيار .
أومأت برأسها تهزهزها باضطراب، حتى تتحرك وتذهب هاربة من أمامه سريعًا، ولكن وقبل أن تصل لمقبض الباب أوقفها بندائه
- نهال، ملكيش أي عذر لو مبلغتنيش بعد ما تخلصى محاضرانك عشان أخدك واروح بيكى .
أومأت برأسها مرة أخرى، وفتحت لتغادر سريعًا، لا تصدق ما سمعته، وهذا الطلب الذي طلبه منها، ثم المعضلة الأساسية الاَن كيف ستتعامل معه؟ لقد اصابتها كلماته بالخرس التام، ومشاعر قوية تتناحر داخلها، ولا تعلم ماذا تفعل؟
أما عنه فقد كان في حالة مختلفة على الاطلاق، بعد أن أزاح عن صــ دره ثقل ما كان يشعر به، وقد أفضى إليها اَخيرًا بما يحمله قلبه لها، رغم تخوفه قليلًا عليها بعد أن رأى بنفسه رد فعلها المصدوم جراء اعترافه، ولكنه في نفس الوقت يبتسم بسعادة كلما تذكر خجلها الشديد رغم القوة التي تدعيها دائمًا معه.
❈-❈-❈
بقلب منشرح ونفس تهفو لرؤيتها خرج عاصم من منزله ليجلس على المصطبة الأسمنتية، حتى ينتظر مرورها يستعيد زكريات جميلة له في نفس المكان بمراقبتها في الذهاب والإياب نحو مدرستها، قبل أن تنقطع هذه العادة في الأيام السابقة بعد أن حرم على نفسه رؤيتها، وذلك بعد خطبتها من هذا المتحذلق ابن العمدة معتصم.
ظهرت والدته أمامه فجأة وهي عائدة من مكان ما في الخارج لتقترب وتجلس بجواره بضحكة بشوشة وفرحة تقفز من عينيها تقول:
- ازيك يا نور عينى، عامل ايه يا عريسنا؟
سمع منها وسقط قلبه لأقدامه، وقد استعاد تفكيره الاَن هذا الاتفاق الذي تم بينهما بالأمس صباحًا على طاولة السفرة مع أبيه، فقال يخاطبها بذعر حقيقي:
- انتى كنتى فين ياما ؟
تبسمت سميحة تجيبه بمرح:
- كنت فى بيت عمك عبد الحميد، ع اللى اتفجنا عليه امبارح ولا انت نسيت؟
ختمت بغمزة أصابته في مقتل ليسألها بوجه مخطوف:
- أوعى تجولى إنه حصل ؟
جلجلت ضاحكة تردد:
- طبعًا حصل يا حبيبى، وكلمت راضية وفرحت جوى وجالتلى انه يوم المنى واكيد البت مش هترفض
دارت رأسه ليغمض عينيه بتعب وكأن هموم العالم تجمعت فوقه كاهله، وقد تيقن الاَن أن نصيبه بها انقطع، وحظه السيء قد لعب لعبته
- ايه يا حبيبى انت مش فرحان؟
سألته سميحة ببرائة، فخرج صوته خفيض مبحوح:
- لا ازاي بس؟ فرحان ياما فرحان جوى.
ردت بعدم تصديق ولهجة تختلط بالعتب:
- لا يا عاصم شكلك مش فرحان .
بلع الغصة بحلقه ليسألها بغضب مكتوم:
- طب وانتى ايه اللى طلعك بدرى جوى كده ياما؟ ليه ما ستنتنيش لما اصحى؟ طب ما جابلتيش ابويا ولا جالك اى حاجة؟
جلجلت بضحك متزايد:
- ليه يعنى؟ هو فيه حاجة حصلت وانا معرفهاش مثلا؟
رد يجيبها بخيبة أمل:
- لا مفيش ياما ماتخديش فى بالك.
قالها مستسلمًا بقنوط، مسلمًا أمره لله، قبل أن يجفل منتفضًا على قبلة مفاجئة تلقاها على خده الأيسر من والدته، فهتف مخضوضًا بوجهها:
- فى ايه ياما انا فى الشارع مالك؟
رنت ضحكتها بصوت عالي زاد من فزعه بها، ليهدر بعصبية:
- وه ياما انتى جرالك ايه بس ؟
كتمت بصعوبة كي ترد :
- معلش يا حبيبى بصالحك؟ سامحني بجى عشان عملت فيك مجلب .
عقد حاجبيه يقول بعدم فهم:
- تجصدى ايه ؟
تننهدت بوجه جدي رغم ارتسام الفرحة عليه:
- يا حبيبى يا نور عينى، دا انا مصدجتش نفسي ولا عرفت انام حتى بعد ما سمعت من ابوك امبارح ان بدور اتفشكلت خطوبتها من المجلع واد العمده؛ وعايزني بعد دا كله، اروح واخطب نيرة واجطع الامل تانى؟
على موضع على قلبه وضع كفه عصام يقول بحالة اوجعتها:
- والله حرام عليكى ياما انا كان هتجيلي سكتة جلبية؟
- سلامت جلبك يا نور عينى هات ابوسك تانى عشان اصالحك .
قالتها سميحة وهمت تنهض لتفعل، بمناكفة جعلته يصيح بها يوقفها مفزوعًا:
- حن عليكى ياما مش ناجصة فضايح، ارسى على حيلك كدة الله يرضى عنك .
جلست على الفور تدعي الأدب، فقالت تراضيه:
- حاضر يا سيدي مش هزعلك تانى وهجعد مؤدبة، طب اجولك، شوف كده ست الحسن اهى جاية من بعيد اهى.
قالتها واتجهت انظاره نحو ما تقصد، ليتأكد هذه المرة من صدقها، برؤية معذبته، وهي عائدة بملابس المدرسة مع ابنة عمه الثاني نيرة، والتي اشارت بكفها إليهم كتحية من مسافتهم، واكتفت هي بابتسامة ارسلتها لعاصم، فجعلته ينسى نفسه، وهذا المقلب الظريف من والدته.
❈-❈-❈
بجلسة جمعت الثلاث فتيات، بكافتيريا الجامعة وبعد ان قصت نهال ما حدث وما قاله مدحت لها، كانت الاسئلة المتواصلة من الإثنتان ، نهى وبثينة التي كانت لها البداية:
- طب وانتى كان ردك ايه؟
- اوعى تكونى بوظتى الدنيا زى عوايدك؟
- والنبى شكلها بوظت الدنيا!
- انتى هتجوليلى فيها، دى صحبتى وانا عارفاها خيبة وصوت بس إنما في الجد إنسى .
هدرت بهن نهال بعصبية توقفهن:
-باااااس صدعتونى يخرب بيوتكم، انا الغلطانة أساسًا انى جولتلكم .
قالت بثينة بمرح:
- غلطانه دا إيه يا هبلة؟ دا أحلى خبر سمعتوا منك.
نهى هي الأخرى:
- اه والله عندك حج يا صاحبتي، طب والله انا كان جلبى حاسس وكنت بجولها، بس هى العبيطة بجى مكنتش مصدجة.
ظلت على حالة من الوجوم بشرودها، واقتربت بثينة، تدغدغها على ذراعها بمشاكسة
- اييييه مالك يا جميل؟ سرحانة فى ايه بس؟
قالت نهى هي الأخرى
- ايوه صح يا نهال، انتى مالك شكلك مخطوف كده ليه ؟
مطت بشفتيها المطبقة لتقول بعدم تركيز:
- مش عارفة، بس حاسة نفسى خايفة.
- خايقة !
قالتها نهى بعدم استيعاب تصيح بها:
- خايفه ليه يا مجنونة؟ مش دا اللى طول عمرك بتحلمى بيه؟
تنهدت نهال بتعب قائلة:
- ايوه صح اللى بتجوليه، بس انا كنت اقنعت نفسى انى هشيله من مخى من ساعة ما اتجدم لأختى وحطيت مستجبلى هدف جدامى، لكن دلوك؟
قالت بثينة باستغراب:
- طب ودلوقتي وايه اللى هيمنعك بقى عن تحقيق هدفك؟ بالعكس بقى، انا شايفة إنه ممكن يساعدك كمان
أومأت نهال بتوتر وخوف مرددة:
- مش عارفه !
تدخلت نهى :
- انا عارفة انك خايفة عشان اتجدم لأختك سابج صح
صمتت نهال وتكلمت بثينة:
- نصيحه منى يا نهال، تشيلى الموضوع دا نهائى من مخك عشان متتعبيش نفسك، دا قالك انه بيحبك ودى تكفى انك تأسسى بيها حياة جميلة ما بينكم .
تنهدت نهال قائلة بشرود:
- عندك حج طبعا فى كل كلامك، بس فى حاجة تانية.
- إيه تاني؟
خرجت من افواه الاثنتين، ليتفاجأ، بتغير وجه نهال للحرج، وهي تفرك بكفيها بتوتر قائلة:
- بصراحة، انا من ساعة ما كلمنى وانا مش عارفة اتعامل معاه ومكسوفة جدا.
ضحكت نهى ومعها بثينة بفرح ساخرات منها يرددن:
- يا ختى كميلة، انتى بتتكسفى يا بطة، يا سلام يا جدعان، نهال طلعت بتتكسف !!
هتفت بهن بغيظ تملكها
- ابوشكلكم انتو الاتنين .
.
❈-❈-❈
على مائدة الطعام كان محسن وزجته هدية، يتناولون وجبة الغذاء حينما أجفلا الاثنان على صيحة قوية مع دخول ابنهم حربي بصوت عالي:
- بدور اتفلتت ياما، بدور اتفلت يا بوى .
محسن والذي انتفض مخضوضًا وتوقف الطعام بحلقه لعدة لحظات، هتف به غاضبًا:
- يخرب مطنك ويجل راحتك يا شيخ، مش عارف تجول السلام عليكم الاول يا واد؟
ضحك حربي وتقدم يجلس لينضم معهما على المائدة، وقال ببساطة:
- ماشى يا بوى، سلام عليكم الأول.
رمقه محسن بنظرة حانقة بصمت وتكلفت هدية بالرد:
- وانت توك ما عارف يا ناصح؟ دا انا سمعانة من امبارح عشية كمان.
رد حربي بانفعال والطعام في فمه:
- ولما هو كدة، ليه مجولتليش ياما؟
ارتشفت هدية من كوب الماء الذي أمامها، ثم ردت وهي تعود لطعامها:
- الخبر جانا بليل بعد ابوك ما رجع من عند جدك، يعني كدة وانت نايم يا فالح، ولا انت ناسي انك نمت بدري عشان تطلج المية الفجر على زرعتك.
اومأ حربي رأسه بتفهم ثم تكلم وهو يلوك اللقيمة بفمه:
- طب ما تجولنا اللى حصل ايه يا بوي؟ انا سمعت طراطيش كدة عن عركة مع جدي، والواد معتصم مع بدور عند المدرسة بتاعتها، بس برضوا معرفتش، ما تجول يا ابو حربي.
زفر محسن يجيبه بقرف:
- وانت مالك باللى حصل؟ مدام خلصت الحكاية على كدة وكل واحد راح لحاله، تتفلت بجى ولا متتفلتش، انت مالك برضوا؟
رد حربي وهو يكبس مجموعة من اوراق الجرجير بفمه:
- يعني هكون بسأل ليه يعني يا بوي؟ مش عشان اتجدملها تانى واتجوزها .
تنهد محسن بتذمر، ليقول منفعلًا:
- هى شغلانة ما جدك جال انها مش هتتجوز من العيلة، وخلصت الحكاية على كدة منعًا للت ولا العجن من تاني .
انصدم حربي وتوقف الطعام بفمه، ولكن هدية والدته لم تصمت:
- متوجفش الحال يا محسن، الكلام دا كان في الأول ساعة ما كان التلاتة عيال عم متقدمين مع بعض.
- اول بجى ولا اخر، واحد يا ختي .
قالها محسن بضيق، ف عقبت هدية قائلة:
- خليك انت جول كدة، وجفل فيها يا محسن على كيفك، لحد اما نلاجى عاصم خطبها جبل ولدك .
هتف حربي بعصبية:
- وه، دا لو حصل الكلام ده صح يا بوي، والله ما انا ساكت، ما هو انا مبحبش أكون مغفل، وانت يا بوي حن عليك اجف معايا عشان جدى يوافج.
قال الأخيرة برجاء جعل والدته تستغل الفرصة قائلة:
- ابوك باينه مش عاجبه الكلام يا ولدي.
سمع منها حربي وتوجه سائلًا والده:
- صح يا بوي، يعنى انت مش هتوجف جمبى؟
تنهد محسن بقلة حيلة بعد ان وضعته زو جته في هذا الموقف مع لده الوحيد:
- يعني هجول ايه بس، لله الامر من قبل ومن بعد.
❈-❈-❈
في السيارة التي كانت تقلها في المقعد الأمامي بجواره وهو يقود، بمزاج رائق، يردد مع الأغنية الدائرة من مذياع الراديو، يراقبها بطرف عينيه، وسعادة تتراقص داخله بتسلية، مع متابعته التوتر الشديد الذي يكتنفها، وهي تتهرب من النظر إليه، حتى عندما يسألها تجيبه باقتضاب، تنهد بشعور لذيذ يغمره، وقرر التحدث في شيء ما يخرجها من شرودها:
- هو الواد الزفت بتاع امبارح، اتعرضلك تاني؟
نفت برأسها تجيبه:
- لا من بعد الخناجة اياها واللى حصل معاه ما رفعش عينه فيا تانى؟
تنهد بارتياح قائلًا:
- كويس خالص، طيب اى حد تانى دايقك؟
اكتفت هذه المرة بهز رأسها بالرفض صامتة.
لم يستطع منع نفسه اكثر من ذلك عن فتح الموضوع معها، فقال بمشاكسة:
- طيب انتى ليه مكسوفه جوى كدة؟
لوت ثغرها بطريقة اضحكته لتشيح بوجهها نحو النظر للخارج من النافذة، اجبر نفسه على التوقف بصعوبة حتى لا يزيد من حرجها، وقال بجدية
- على العموم احنا كدة كدة جربنا نوصل، متنسيش بجى تتصلى بكره وتبلغينى بميعاد محاضراتك.
- لا ما انا النهاردة مسافرة البلد مع البنات وهجعد فى البلد يومين عشان السبت اجازة.
أجابت بها لتُصيبه بالضيق على الفور مرددًا:
- يعنى انا كدة هجعد يومين مشوفكيش؟
صمتت تلملم ابتسامة ملحة برد فعله الذي انعشها بالداخل، وعادت لوضعها للنظر في الخارج، وزاد هو على ضيقه بقوله:
- وادينا كمان وصلنا.
اوقف السيارة بالقرب من مبنى السكن الذي يجمعها مع الفتيات، وظل هو بملامح عابسة، يتابعها وهي تلملم أشيائها ثم تترجل من السيارة، ليستدرك فورًا بتذكر ليوقفها قبل أن تبتعد:
- نهال، بكره اول جمعة فى الشهر مش كدة برضو!!
... يتبع
#امل_نصر
#بنت_الجنوب
الفصل الثاني عشر
في منزل العائلة الكبير، كان يتوافد افراد العائلة، تباعًا مع اسرهم لتقضية اليوم المخصص لهم، وهو اول جمعة من كل شهر، بعادة اخترعها ياسين منذ سنوات طويلة لربط شمل عائلته دائمًا بعضهم ببعض، كل ابن له يأتي ويسحب زو جته وابناءه والاحفاد إن وجد، صباح التي فقدت زو جها منذ زمن طويل، ولم يبقى لها سوى ابنة واحدة منه، وزو جتها هي الأخرى في بلدة الإسكندرية، ولكنها عوضت فقدانها بالحب والرعاية لجميع ابناء اخواتها، كأولاد لها لم تنجبهم.
كانت ترحب في هذا الوقت بمحسن والذي كان أول الوافدين مع اسرته، وبعده كان سالم ونفس الأمر بأسرته، لتشتعل حرب النظرات الباردة والمتحفزة بين حربي وعاصم.
اتى بعد ذلك عبد الحميد يسحب زو جته راضية، ومعها رائف ونيرة، وكانت المفاجأة هي حضور مدحت لتهتف صباح مهللة بصوت عالي حينما صعقت بارتداءه الجلباب البلدي، والتي لم يرتديها منذ سنوات عدة، حتى انتبه كل الحضور، ف شعر مدحت بالحرج، ليهتف بها
- حرام عليكى يا عمتى صحيتى الميتين بحسك العالي.
عانقته مرددة بالتكبير تقول:
- فرحانه بيك يا روح عمتك، بسم الله ما شاء الله عليك يا حبيبى تملى العين وتفرح الجلب....
قطعت فجأة تجفله بشهقة عالية منها تردف:
- اوعى تكون امك سابتك تطلع كدة من غير ما تبخرك ؟ قطب بدهشة ضاحكًا، وتكلفت والدته بالرد:
- ودى برضوا هتفوتنى، دا انا بخرته وبخرت اخواته كمان .
صاح بهم مدحتهم يوقفهم:
- خبر ايه يا جماعة؟ هو انتوا ليه مكبرين الموضوع كدة؟
تدخل ياسين من جلسته على كرسيه بوسط البهو الكبير، قائلًا:
- تعالى يا ولدى سلم عليا وسيبك من كلام الحريم الفاضي ده.
سمع منه وتحركت قدميه سريعًا نحوه، يتناول كف يــ
ده، يقبل ظهرها بإجلال مرددًا:
- سامحنى يا جدي، مخدتش باللى منك وانا داخل، ما انت شوفت.
- شوفت إيه؟
ردد بها ياسين، وهو يضرب بكفه على رأس مدحت من الخلف متابعًا:
- انشغلت بكلام الحريم، ونسيت جدك، كيس جوافة انا ياد عشان ما تخدتش بالك مني؟
بضحكة عالية جلجلت في قلب البهو، كان يردد :
- يا جدى مينفعش العمايل دى معايا، يا رجل جدر اني ادكتور محترم .
جدد ياسين بالضرب يقول بحزم:
محترم ولا نص محترم، هو انت ها تكبر عليا ياد؟
تناول كفه التي تضرب ولا تبالي ليوقفه عما يفعل بقبلة أخرى قائلًا مع ضحكاته كطفل صغير في حضور جده الذي لا يكبر أبدًا ولا تتغير معاملته بخفة الظل التي يتمتع بها مهما مر من السنوات:
- معاش ولا كان حتى، اللى يكبر عليك يا جدى وسيد الكل انت .
انتشى ياسين من فعلته، وظهر الرضا على ملامح وجهه، ولكن وقبل أن يرد، وجد حربي يخاطب مدحت بقوله:
- مش بعاده يعنى يا دكتور!؟ إيه هو انت رجلك خدت على البلد كدة، وحنيت تانى ولا إيه؟
تدخل عاصم بالرد قبل مدحت:
- وماله لما يحن لبلده يا حربى، وانت إيه اللي يزعلك فيها دي؟
اجاب الاخر يرفع قدم فوق الأخرى، يدعي عدم الاكتراث:
- وانا ايه اللى هيزعلنى يعني في حاجة زي دي؟ بس انت بجى إيه اللي يدخلك؟
رد مدحت بحسم:
- اهدوا يا جماعه انتوا ها تعملوها مشكلة من غير سبب، فيه إيه؟
تدخل رائف هو الأخر ليقول بضحكة خبيثة متلاعبًا بحاجبيه:
- يا سلام با جدعان دا احنا هنشوف ايام زى الفل.
- تجصد إيه يا رائف ما تلم نفسك.
هتف بها حربي بعصبية، اثارت ضحكة شياطينية من الاَخر، بدون أن يرد، لكن محسن كانت له الكلمة الحاسمة نحو ابنه:
- خبر ايه ياد انت؟ هو انت جاى تتعرك مع ولاد عمك ولا إيه حكايتك؟
اردف رائف ببرائة ليزيد في اشتعال الاَخر:
- سيبه يا عمي، هو أكيد مش جصده، بس انا مسامح ولا إيه حربي؟
قالها ليجعد ملامح وجهه ببؤس، كرد فعل طفل صغير يقوس شفتيــ ه بعتب، مما اثار الضحك بهستيريا لدى معظم الحضور إلا صاحب الأمر حربي، الذي كان يطالعه بحنق، وغمغم عاصم بصوت خفيض:
- الله يخرب مطنك يا شيخ، ويخرب بيتك شيطانك.
قالها وانتبه فجاة على صوت عمته صباح وهي ترحب براجح شقيقها وزو جته نعمات، ف تعلقت عينيه الباب الذي ولجت منه معذبته خلفهما، بابتسامة زادت على إشراق وجهها البهي، لتجعل قلبه يرفرف بين أضلعه كعصفور يرفرف بجناحيه على غصن شجرة السعادة، عكس مدحت والذي ظل منتظر ظهور شقيقتها الكبرى نهال، خلف أسرتها، حتى اغلقت صباح الباب وهي لم تأتي بعد
ودخل راجح ليصافح باقي العائلة، وقبل ان يسأل مدحت سبقه رائف :
- هي البت نهال مجتش معاكم ليه؟
ردد مدحت من خلفه باستنكار:
- بت!
ردت بدور تقارعه:
- بجى الدكتوره نهال يتجلها بت، متخلي بالك يا عم انت وشوف انتي بتتكلم على مين؟
ضحك رائف يقول بسماجة:
- مهما كبرت ولا وصلت حتى، برضوا هتبجى بالنسبالى البت نهال .
برد فعل غريزي، ينبع من غيرة استوحشت داخله، حتى اصبح لا يحتمل حتى النطق بإسمها من غيره، حتى لو كان أخيه؟ والذي هتف به:
- ما تلم نفسك ياض انت، بت عمك المقصودة مش جاعدة معانا عشان ترد عليك.
ضرب عاصم كفيه ببعضمها يصيح على الأخوين ضاحكًا:
- صلوا ع النبى يا جدعان، هو احنا اتحسدنا ولا ايه بس ؟
قالها ثم دنى من اذن مدحت يهمس بحذر:
- امسك نفسك شوية، اخوك باينه فهم وبيستفزك ، دا عفريت وانا عارفه.
همس يجيبه مدحت من تحت اسنانه بغيظ:
- انا مش عارف الواد طالع بارد لمين؟
قالها ثم انتفض يوجه سؤاله لبدور:
- يعنى مجاوبتيش يا بدور، هى ليه نهال مجاتش معاكم ؟
رغم دهشتها من السؤال، ولكنها ردت تجيبه:
- نهال كانت جاية معانا، بس جابلت واحدة ووجفت معاها تسلم عليها وتحكي، وجالتلى روحى انتى جدامى وانا جاية وراكى .
غمغم مدحت بتساؤل وصوت خفيض
- واحدة مين ؟!
❈-❈-❈
في حديقة المنزل خرج الشباب كالعادة بها، وظلت النساء في المطبخ، يساعدن صباح في تجهيز الطعام وحديث لا ينتهي في موضوعات شتى اهمهم كان موضوع الساعة والتي بادرت بفتحه هدية:
- يعنى مجولتيش يا نعمات ايه اللى خلاكم تفشكلوا الخطوبه مع واد العمده؟
ردت الأخيرة بزوق رغم غضبها المكتوم:
- امر الله يا حبيبتى وكل حاجة نصيب، يعني نحمد الله انها جات على كدة..
تدخلت سميحة بقولها
- احسن حاجة عملتوها والنعمة، دا واد جليل الحيا ويستاهل الضرب على نفوخه، انا ولدي حكالي بكل حاجة حصلت، ما هو كان مع جده ياسين وقت ما البنتة راحو يشتكولوا.
راضية هي الأخرى:
- عندك حج يا سميحة، دا عبد الحميد لما حكالى انا كمان على اللى عملوا الواد ده عند المدرسة مع بدور كان نفسى اروح اديلوا باللى فى رجلى .
بجى احنا عليتنا ملاهاش سعر ابن ال...
- هى كانت غلطتنا من الاول لما وافجنا بيه، واحنا من امتى بنتتنا بتطلع بره العيلة اصلاً.
قالتها هدية والتفت الرؤوس نحوها يناظرنها باستغراب، حتى قالت سميحة بعدائية:
- جصدك ايه يا هدية؟ وضحي يا غالية .
تبسمت الاَخيرة تجيبها بتحدي:
- جصدى اللى انتى فهمتيه يا سميحة، يعني احنا مش هنسيبها تطلع برا العيلة مرة تانية، وابو حربي هيفتح الموضوع تاني .
اجفلت نغمات من حدة اللهجة بينهن، فتدخلت صباح لتفصل بقولها الحاسم
- ما تبس منك ليها انتى وهى، هو لسه عدى يومين على فسخ الخطوبه عشان تتكلموا فى الكلام البارد ده؟
قالت نعمات بقلة حيلة:
- جوليلهم يا صباح، دا احنا لسه ما فوجناش من ضربة واد العمدة ولا خدنا نفسنا حتى .
ردت صباح وعينيها تركزت على واحدة منهن باستدراك:
- عندك حق يا حبيبتى أكيد امال ايه؟ الا صحيح يعني مش بعاده يا راضية ما تتدخليش معاهم، ولا تقولي وتردي على كلامهم .
تقبلت راضية بابتسامة غامضة تجيبها بكل هدوء:
- ما انتي جولتي بنفسك دا كلام سابج لأوانه، ثم إن كمان الموضوع فض اساسًا من اولها، من ساعة ما حكم الحج ياسين فيه،
تطلع الأربعة لها باستغراب اقولها ، وقالت صباح:
-مش عارفة جايني إحساس انك مخبية حاجة، انا مش عارفاها.
ضحكت لتجيب فاردة كفيها ببرائة أمامهم تقول متفكهة:
- والله ما مخبية شيء، حتى تعالوا فتشوني كمان
قالتها لتجعل النساء من حولها تشاركها الضحكات، لتبادلن بعدها الأحاديث الودية المعتادة.
❈-❈-❈
دلفت نهال إلى داخل المنزل الكبير بخطوات مسرعة ولسانها يردد بالنداء:
- جدي ياسين، انتي فينك يا جد
- ايوة يا نهال.
هتفت بها عمتها صباح كرد وهي تخرج لها من المطبخ، وتتابع وهي تجفف بفوطة صغيرة كفيها؛
- ايوة يا نهال، انا جيتلك اها...
قطعت فجأة وتوقفت الكلمات بحلقها فور أن وقعت عينيها على من تقف بجوار ابنة شقيقها، والتي قالت:
- تعالى يا عمة سلمي الأول.
استدركت سريعًا صباح لترحب وتصافح المرأة التي كانت تشبه عليها في البداية:
- يا اهلا وسهلا .. ااا انتى رضوان..
قالتها بحرج وكان رد الأخرى، أن أومأت برأسها لها صامتة، وتكلفت نهال بالقول:
- ايوه هى يا عمتى .
سمعت منها صباح وزاد ارتباكها رغم الترحيب
- يا أهلا وسهلا يا حبيبتى دى الدار نورت
بعد أن رحبت صباح بالمرأة واجلستها على مقعدها في الصالون، امسكت بنهال لتنفرد بها بعيدًا عن المرأة، لتسألها بهمس:
- هو فيه ايه بالظبط؟ ودى جبتيها كيف؟
اومأت لها برأسها وهي تجول بعينيها في الأنحاء حولها قائلة:
- بعدين يا عمتى هاجولك بعدين، هو جدى فين دلوك؟
اشارت لها بكفها للجهة خلفها تجيب:
- جوا فى المندره مع عمامك، بس انتي برضك مفهمتنيش، عايزاه في إيه؟
- ما جولتلك بعدين يا عمتي،
قالتها وهي تستدير وتذهب نحو المندرة المقصودة، وتحركت صباح بعدم فهم، نحو المطبخ كي تقوم بواجب الضيافة مع المرأة، وجدت زو جات اخواتها يقفن في انتظارها على مدخل المطبخ، وكأنهن فرقة استطلاع وكانت تراقب، حتى إذا ما اقتربت، جذبنها من كفها وكل واحدة بسؤال:
سميحه:
- هى دى رضوانة اللي كانو بيقولوا عليها يا صباح؟!
- طبعاً هى يا ناصحة، هو انا هاتوه عنيها.
هدية:
- وانتى تعرفيها منين؟
راضيه:
- فاكراها من وانا عيلة صغيرة، من جبل ما اتجوز عبد الحميد بكتير
تدخلت نعمات باستغراب سائلة:
- هى مين رضوانة دى اللي كلكم بتجيبوا سيرتها؟ انا مش فاهمة حاجة.
ردت صباح تجيبها:
- جولى لبتك يا حبيبتي اللى جايباها واعرفى منيها، عرفتها كيف الجزينة دي؟
ضربت هديه كف بالاَخر تردد بدهشة:
- أما دى عجوبة يا ولاد، بعد الزمن دا كله تظهر رضوانة وتاجي البيت هنا كمان، دا بجالها زمن طويل جوي من ساعة ما اتجوزت وبعدت عن بلدنا.
تنهدت صباح بسأم، وهي تتناول الركوة لتضعها على الموقد الغازي، لتصنع الشاي، وقالت بتعجب
- اموت واعرف هى ايه جابها عندينا اساسًا.
❈-❈-❈
بداخل المندرة بعد أن دلفت نهال وصافحت وسلمت على اعمامها، والأسئلة المعتادة والنمطية في كل لقاء، اقتربت بكل هدوء من جدها تهمس له بصوت خفيض لا يصل إلى احد سواه، انتفض فجأة، بارق العينان قائلًا بعدم تصديق:
- كدابة!
أجفل اولاده الأربعة، وقال راجح بتحفز وابنته تكرر الهمس بأذن جدها، الذي بهت وجهه بازبهلال أمامهم،
- هى جالتلك ايه البت دى يا بوى؟
ارتبكت نهال تجيب والدها:.
- انا ما جولتش حاجة عفشة يا بوى بل العكس!
تدخل سالم بعدم فهم:
- عكس إيه يا بت اخوي بس؟ انتي جولتى إيه خلى جدك مسهم كدة؟
انتفض ياسين واقفًا يقاطعه:
- مفيش حاجة مهمة، خليكم انتوا وانا هشوف اللى بره واجيلكم .
قالها بحدة قاطعة وهو يسحب نهال ليخرج بها على الفور، حتى لا يعطيهم فرصة للجدال معه
فقال عبد الحميد بعد مغادرتهم:
- هو مين اللى بره ؟ وهو بينبه علينا نستنة هنا ليه؟
رد محسن هو الاَخر بتشتت:
- الله اعلم.
❈-❈-❈
خرج معها من المندرة قاصدًا التأكد من صحة ما أخبرته به حفيدته، وكانت المفاجأة فور أن وقعت عينيه على الجالسة مطرقة رأسها بخجل، وملتفة بملائتها السوداء، بصورة ذكرته بصورتها القديمة في ذهنه منذ سنوات، بقلب تسارعت دقاته غمغم لنهال:
-- ينصر دينك يا شيخة،
ضحكت حفيدته، لتخاطبه بجدية
- ايوه يا جدى بس خلي بالك، انا جايباها وجيلالها انك هتجف جنبها وتجيبلها حجها هى وبتها .
فجأة دبت الحماسة داخل ياسين باستدراك، فور تذكره السبب الذي ذكرته نهال وأتت من أجله المراة:
- ايوه صح صدجتي، خلينى بجى اروح اشوفها .
قالها واسرع بخطواته، حتى أذا اقترب، من مجلس المرأة، تحمحم بصوت مسموع، حتى تنتبه المرأة؛ والتي وقفت بعدها على الفور، تظبط حجابها، تتلقى تحيته:
- السلام عليكم .
قالها ياسين وامتدت كفيه لمصافحتها، مدت كفها هي أيضًا تجيبه:
- اهلا بيك يا حج ياسين .
تسمر ياسين بدون رد مع سماع صوتها والرؤية القريبة منها، انتبهت نهال، ف تكلمت بصوت عالي تدعو المرأة
- اتفضلى اجعدى يا خاله رضوانة واحكى لجدى كل حاجه حصلت، هو خد فكرة بسيطة عن الموضوع .
ردت رضوانة وهي تعود للجلوس على مقعدها:
- والله انا مكسوفة، وخايفة لا اجيبلكم احراج لو اتدخلتوا .
جلست هي الأخرى، وشدت بجذب قماش جلبابه من الخلف حتى ينتبه وردت تخاطب المرأة:
- ما تجوليش كده يا خالتى رضوانة، دا انا جيباكى بنفسى .
انتبه اَخيرًا ياسين، ليجلس هو الاخر ويتدخل في الحديث:
- ايوه صح زى ما جالت نهال كدة، بس انتى احكيلى كل اللى حصل .
❈-❈-❈
في حديقة المنزل
كان الشباب والفتيات، كل مجموعة بميولها ودرجة التقارب والتفاهم بينهما، رائف مع حربي الذي لم يرفع عينيه عن بدور التي كانت هي الأخرى جالسة في جانب ما من الحديقة بجوار نيرة ابنة عمها وصديقتها ايضَا
عاصم كالعادة، كان يأخذ جولة بالحصان في المساحة الشاسعة، يخطف النظرات نحو بدور التي كانت تبادله أياها كل فترة مع ابتسامة جميلة، وكأنها أصبحت لغة حوار بينهم، رغم اندماجها في الحديث مع نيرة
أما مدحت فقد اتخذ جانبًا له وحده، يزفر فيه بضيق، ويغمغم بالكلمات الحانقة مع نفسه:
- ماشى يا نهال، يعنى انا جاى والفرحة مش سايعانى عشان اشوفك واقضى وجت حلو معاكى، ولابس الجلابية البلدي مخصوص عشان اشوف رد فعلك وتجوليلى رأيك فيا.... وانتى اساسًا ولا هامك ولا معبرانى .. ماشى .
ترك عاصم حصانه، واقترب ليجلس بجواره، وقال مبادرًا لفتح حديث معه:
- إيه يا عم الدكتور مالك .
تكتف بذراعيه المذكور ليجيب بضيق:
- نعم يا عاصم باشا، عايز ايه ؟
لملم الاَخير ابتسامة ملحة لهذه الحالة المكشوفة التي وصل إليها ابن عمه الطبيب الرزين، وقال ناصحًا؛
- عايزك بس تاخد بالك، مش كدة يا واد عمى اهدى شوية، انت مبينها جوى واخوك الشيطان دا واخد باله، كل شوية يبصلك ياستغراب
رمقه بامتعاض قائلًا:
- اسم الله عليك انت يا عاجل يا راسي، بتنصنحني، وانت مشيلتش عينك من على المحروسه بتاعتك.
ضحك عاصم بمرح ليرد وهو يضرب كفه بالاًخر:
- وه يا مدحت، اشحال يا راجل ما كانت حبيبة الجلب السبوع كله معاك، لحجت توحشك؟.
تغضنت ملامحه والتف يشيح بوجهه يقول بتأفف ملوحًا بيده:
- سيبنى فى حالى يا عم.
قهقه عاصم بالضحك، وقد اسعده مناكفة ابن عمه الطبيب بعد ان سقط بقدميه في بئر العشق، ف ليتحمل كما تحمل هو قبله
❈-❈-❈
خرجت صباح إلى الحديقة، حتى إذا اقتربت من الفتيات هتفت بالنداء عليهن:
- يا نيرة انتى و بدور، تعالوا انتوا الاتنين ساعدوا معانا نحضر السفرة
نهضت الفتيات ليتبعنها، ولكن وقبل ان تستدير هي سمعت بنداء مدحت عليها:
- عمتي، ثواني كنت عايزك.
اشارت إلى الفتيات ليسبقنها، قبل أن تلتفت إليه تجيبه بمرحها المعتاد:
- ايوه يا روح عمتك، عايز حاجة يا سيادة الدكتور يا نوارتنا انت؟
- تبسم متمتمًا:
- الله يحظك يا عمتي.
توقف ليتحمحم قبل ان يسألها بحرج:
- هى نهال لسه مجاتش؟
ردت صباح تفاجئه:
- مين دي اللى مجاتش؟ دى بجالها ساعه جاعدة جوه مع جدها ؟
- بجالها ساعة جاعدة مع جدها!
رددها مدحت خلفها بغيظ شديد، جعله يتحرك بعدها بخطواته المسرعة نحو المنزل بدون انتظار.
❈-❈-❈
رضوانة وبعد أن قصت على ياسين مشكلتها، كانت تمسح بطرف شالها الدموع التي تتساقط من عينيها لتقول:
- هو دا كل اللى حصل يا ابو سالم، يعجب اى حد الكلام ده بجى؟
ثار ياسين وانتفخت اوداجه، بحمائية مبالغة يردد:
- ابن ال.... دا انا هاربيه واعرفه مجامه كويس، عشان اتجرأ وطاح فيها، هو فاكرها سايبة ولا إيه؟ أنا إن ما اخليه يعرف ان الله حج مبجاش انا .
خاطبته نهال بمكر وهي تخفي ابتسامتها:
- الكلام يكون براحه يا:جدى، انت مش حمل ذبحه صدرية .
التف إليها يهدر بانفعال جعله يلهث من فرط عصبيته:
- واد جليل الأدب ومش متربي، حرجلى دمى الله يخرب بيته.
- هو مين ده اللى حرج دمك يا جدي،
تمتم بها مدحت بعد ان ولج إليهم سريعًا، لتنتبه نهال على هيئته المختلفة، بالجلباب البلدي، ف شهقت بصوت مكتوم، وقد بدا على ملامحها نظرات الإعجاب، التي انعشت الاخر قبل أن يجلس بجوار جده، مرحبا بالمرأة، وقال ياسين ليجيب عن سؤاله:
- جوز بتها يا ولدى، واد الفرطوس، ضربها وزمجها ودلوك ابن ال..... مش عايز يديها حجها في المؤخر ولا يديها عفشها...
توقف ليعود مخاطبًا رضوانة بحزم صائحًا:
- انتى تحطى فى بطنك بطيخه صيفى، بتك تبجى زى بتى وانا بنفسى حاجفله الواد المشجلب ده، واجيب من عينه كل جرش كله عليها.
قالت رضوانة ممتنة رغم شعور الانكسار التي يكتنفها ويشعرها بالحرج:
- متشكرين يا حاج، مع اني مش عارفة اودي جميلكم دا فين والله.
تدخل مدحت:
- متجوليش كدة يا خالة، جدي الله يباركله ميرضاش ابدًا بالحال المايل.
- ربنا يبارك فيه.
قالتها ونهضت عن مقعدها، تردف:
- عن اذنكم بجى، ادوبك امشى عشان اوصل البلد جبل الجمعة
هتف ياسين يوقفها:
- تروحى ليه دا خلاص ألوجت؟ اجعدى اتغدى معانا
تمتمت إليه رضوانة:
- تعيش يا حاج، ربنا يجعله دايمًا عامر، خليها في الفرح ان شاءالله، مش عايزة اتأخر ع البنتة أصلى سايبهم لوحديهم، عن اذنكم بجى .
هتفت عليها صباح والتي أتت فجأة على صوتهم:
- استنى يا خاله رضوانة انا جايه معاكى اخلى حد من الشباب يوصلك.
ردت رضوانة بحرج:
- مفيش داعى يا بتى.
هتفت صباح بتصميم:
- لا والنعمة، ولا يحصل أبدًا، تروحي لوحدك وعيالنا جاعدين، ودي تيجي!
هم ياسين ان يتكلم هو الاَخر، ولكن نهال جذبته من قماش جلبابه تخاطبه بهمس مناكفة بشقاوة تستفزه
- خلاص بجى كفاية يا عم الحج، انت ما صدجت؟
كز على أسنانه، وتمالك يكظم غضبه عنها بصعوبة، وانتظر حتى خرجت رضوانة، لينهض فجأة بعصاه نحوها مرددًا بتهديد:
- مين دا اللى ما صدج يا بت الل....
على الفور قفزت نهال تركض من أمامه لتختبىء خلف مدحت وهي تقع على نفسها من الضحك مرددة:
- هههه ، اعجل با جدي، اللحجنى يا واد عمى .
مدحت والذي تفاجأ بفعلتها، ثم بغضب ياسين وهو يندفع نحوها بعصاه يريد الفتك بها، لم يتمالك نفسه من الضحك هو أيضًا وهو يدافع ليبعده عنها يقول لياسين:
- هههه صلى على النبى ياجدى هى عملت ايه بس ؟
...يتبع