مواسم الفرح بفلم
رواية مواسم الفرح بفلم امل نصر
الفصل الخامس والسادس
الفصل الخامس
- احكيلي عن رضوانة .
قالها ياسين ليرتسم البؤس على ملامح نهال، لتضع كفيها على جانبي رأسها تقول بتعب:
- تاااانى يا جدى، انت ما شبعتش كلام عنها؟
رد ياسين بإصرار :
- لا مشبعتش يا نهال وانتى هتجوليلى كل حاجة
- تجولك ايه يا جد؟
هتف بها مدحت والذي ولج بالصدفة لداخل الغرفة اثناء الحديث، ليُتابع بابتسامة مشاكسة، فور ان رأى العبوس على ملامح ياسين:
- هى ايه الحكاية يا جدى؟ دا انا كمان بقيت متشوق اسمع الأسرار اللي ما بينكم:
زفر ياسين بقول بقرف:
- يا خويا ولا حكاية ولارواية إنت ايه اللى جابك اصلاً؟
ضحك مدحت ليقول متقبلًا المزاح الثقيل لجده:
- الله يسامحك يا جدى، مش هاخد على كلامك وازعل عشان انا جاي لبت عمي بعد ما جبتلها العلاج .
قال الأخيرة وهو يشير على ما بيده، حيث الكيس البلاستيكي الذي امتلأ بالأدوية، وتابع :
- حاجة تانية كمان عشان اعمل بأصلي رغم معاملتك العفشة معايا.
نظر إليه ياسين باستفسار، فاستطرد مدحت:
- جاى اجولك ان ابويا مستنيك بره ومعاه الحاج اسماعيل جريبكم من طرف جدتي نحمدو الله يرحمها.
انتفض ياسين لينهض على الفور مرددًا بعجالة:
- وه اسماعيل ابو محمد مستنى بره كمان؟ دا من بدرى ما جاش، من ساعة ما اتوفت نحمدو، قليل الاصل ده تو ما افتكر؟
تفوه بالكلمات وهو يخرج لتجد نهال الغرفة قد خلت عليها وعليه ، ليزيد من ارتباكها بأن جلس على طرف السرير بحوارها، ليخرج علب الأدوية ويقول بشرح مستفيض:
- شوفى يا نهال، دا هتخدي منه بعد العشا ودا مرتين فى اليوم بعد الاكل يعنى ها تاخدى منه دلوكت بصى كده واحفظى الاسم
قال الأخيرة وهو يقترب برأسهِ منها، ف اقتربت برأسها هي الأخرى تدعي التركيز فيما يقوله، رغم خفقان قلبها الذي كان يضرب بقوة داخل أضلعها، وحاولت التماسك حتى تخفي اضطرابها وتمعنت النظر لتحفظ إسم الدواء الذي يشير إليه، ليفاجئها بقوله:
- استنى هنا ارفعى عينك.
تطلعت به عن قرب بتساءل لتجده توقف يحدق بعينيها، ثم قال:
- هو انتي عينيكى ملونة:
قطبت ترد بتمتمة وتشتت:
- هه
اقترب اكثر يحدق بعينيها حتى اشاحت بوجهها عنه، وصخب الضربات القوية لقلبها تخشى ان يصل إليه، لتتمتم داخلها بغيظ:
- دا باينه اتجن دا كانه ولا أيه؟
فعلتها البيسطة رسمت على ثغره ابتسامة مشاكسة ليقول مناكفًا
- انتى اتكسفتي، انا اسف بس دى اول مره اَخد بالى من لون عنيكى .
ظلت صامتة على وضعها وحالة من التوتر تجتاحها حتى كانت تلعب بخيوط الغطاء في الأسفل، ولكن شخصيتها المعاندة غلبتها لتغمغم بصوت خفيض:
- وانت من امتى بتاخد بالك أساسًا ؟
رد بابتسامة متسعة زادت من خجلها
- سمعتك على فكرة .
التفت سريعًا تهم بالرد ولكن الكلمات هربت منها، فعادت لتبتعد بوجهها عنه، ليرفرف قلبه بسعادة تجلت بقوة في نبرة صوتهِ إليها:
- انتى ليه بعدتى بعنيكى تانى؟ ماتخلينى اتحجج منها كويس ؟
قالت نهال تدعي الشجاعة والتغلب على خجلها:
- تتحجج من اى بس؟ انا مش فاهمة والله؟
قال ببساطة وجرأة لم تعتادها منه:
- من لون عنيكى؟ ولا تجوليلى انتى احسن ؟
صمتت تمسح بأناملها على جبهتها المتعرقة، فارتباكها قد وصل لاَخره، وهي تشعر وكأنها فأر صغير في مصيدة، تتمنى من قلبها دخول اي فرد من المنزل حتى ينقذها منه ومن حصار نظراته إليها.
اما هو فقد كاد الفضول أن يقتله لتُجيبه على سؤاله، رغم التسلية الشديدة في مراقبة أفعالها اللذيذة امامه، وفي الاخير قرر التصرف بذكاء، فقال مغيرًا دفة الحديث:
- اااا لكن انتى مجولتليش جهزتى نفسك بجى للجامعة؟
أجابت نهال مسبلة اهدابها تتطلع على الغطاء الذي تتلحف به:
- ايوه الحمد لله ابويا لجيلى سكن طالبات كويس
سمع مدحت ليهتف بانفعال يدعي الغضب:
- سكن طالبات ازاي يعني؟ وانتى ماجدمتيش ليه فى المدينه الجامعية اصلًا؟ ثم انه ازاى يعني ابوكى هيأمن عليكى فى السكن؟ احنا ضامنين الحتت الغريبة دي فيها إيه؟
بلعت الطعم، لتلتف رأسها إليه بحدة انستها خجلها، لتبرق عينيها في النظر بخاصتيه، وهذا ما كان يتمناه منذ لحظات، ليتقبل انفعالها بكل رحابة وسعة صدر:
- اولا انا ملحقتش التجديم فى المدينه الجامعية،
ثانيا انا بجولك سكن كويس و مع نوها صاحبتى ودى قمه فى الادب ومعاها بنتين من البلد مايتخيروش عنها فى الرباية، احنا مبنخطيش خطوة من غير تفكير، وحساب زين .
هلل مدحت وكانه طفل صغير فرح بلعبته ليجفلها بقوله:
- زتونى غامج!
قطبت تسأله بدهشة:
- اللى هو ايه؟!
اجاب بابتسامة متسعة بمرح:
- لون عنيكى السرى اللى مابيظهرش غير للجريب منك بس
- وه
قالتها بخجل شديد وهي تشيح بوجهها عنها، وتشد بالعطاء عليها بعصبية وحركة لا إرادية، وقد انتابها شعور قوي ان من يجلس امامها الاَن هو شخص آخر، وليس ابن عمها العاقل الرزين،
اما هو فقد غمرته السعادة حتى جعلته يحلق فوق السحاب، وتورد وجهها الندي نتيجة الخجل، يفعل به الأفاعيل، ليقطع عليه نشوته دخول الفتيات ومعهن عمته صباح التي خاطبته بمودة:
- حجه النهاردة يوم عيد، الدكتور هيتغدى ويتعشى عندينا، يا دي الهنا يا ولاد.
ضحك مدحت على لفتتها ليرد وهو يعتدل وينهص عن التخت:
- تسلمى يا عمتى متحرمش منك، بس انا عايز اروح بيتنا اريح جســ مى وانام، احسن حاسس ان عضمي كله مكسر .
هتفت صباح بلهفة حانية:
-سلامة عضمك يا حبيبي وجســ مك كله، بس انت تمشي وتتعب ليه؟ ما هو بيت جدك مفتوح اى اؤضه خش فيها وارتاح.
اعترض بابتسامة يناكفها، ليدور حديث سريع بينهما، استغلت نهال انشغالهم، لتتناول رسغ شقيتها لتجلسها عنوة، ثم تسألها بهمس غاضبة:
- انتى كنتى مختفيه فين؟
اجابتها بدور باستغراب:
- انا كنت بروق المطبخ مع عمتى ع السريع كدة، ليه؟ هو انتي كنتي عايزاني في حاجة؟
وقبل ان ترد نهال، تفاجئت بنيرة تحشر نفسها بينهن، وتسأل بسماجة:
- انتوا بتتكلموا فى ايه؟
ردت نهال بضيق:
- يا ساتر يارب كل حاجة حاشره نفسك فيها .
هزت برأسها نيرة موافقة وهي تبتسم بصفار تبتغي إغاظة ابن عمها، ولكن مدحت أجفلها:
- يا للا يا نيره عشان تروحى معايا.
قالت بدور:
- وانا كمان هاروح معاكم.
تدخلت نهال تقول سريعًا:
- لا استنى، انتى ها تمشى معايا انا وابويا.
هتفت بها صباح:
- هتمشى كيف يا بتى على رجلك اللى وجعاكى دي؟ انتي هتقعدي هنا وتتعالجي في بيت جدك لحد اما تروجي؟
اعترضت نهال تقول:
- لا معلش يا عمتى، انا متعودتش اغير فرشتى .
قال مدحت:
- خلاص تعالى معانا فى عربيتى .
على الفور أبدت رفضها تردد:
- لا لا انا هاروح مع ابويا .
رد مدحت بإصرار
- وتستنى ليه؟ انا هخلى عمى يروح معانا اساسًا؟
ردت بحرج :
- لا مفيش داعى، انا هستنى شوية، مطارتش هي ع المرواح، امشي انت ونيرة.
رفضها الواضح لرفقته؛ اصابه بضيق شديد، حتى انه هم ليُفحمها برد قوي حتى لا تعترض على قول له مرة أخرى، ولكن شقيقته نيرة سبقت بالرد :
- وتستنى ليه يا ختى؟ يا للا جومى معانا واحنا هنسندك انا وبدور لحد العربية.
همت لتعترض مرة أخرى، ولكن العمة صباح كانت لها بالمرصاد لتقول بحزم:
- خلاص عاد ملكيش حجة، ولا انتي هتتكسفى من واد عمك كمان؟ جومى يا بدور سنديها مع نيرة.
❈-❈-❈
في السيارة التي استقلها راجح ليجلس في الأمام بجوار مدحت الذي كان يقودها، والفتيات في الخلف، نهال كانت بجوار النافذة بناءًا على رغبتها، ونيرة في الوسط، وبدور بجوار النافذة الآخرى، ومع هذا ايضًا، لم يرحمها من حصاره لها، وعينيه العميقة تراقبها في المراَة الأمامية، يتحدث مع والده ويسير بطريقه، ولا يرفع ولا يغفل عنها.
قال راجح بعتب:
- ملكش حج يا ولدى تكلف نفسك وتجيب العلاج من غير ما تجولى؟
أجاب مدحت وعينيه تراقب رد فعلها:
- فى ببتها يا عمى والموضوع مش مستاهل، يعني ماتشغلش نفسك انت .
رد راجح بحرج:
- لكن يا ولدى ما تأخذنيش كده ما ينفعش، انا لازم ادفع تمن....
قاطعه مدحت بحدة
متكملش يا عمى، اى كلمة تانية هتزعلنى منك والله، انا مش واخد غريب عنك ولا عن بنت عمي.
قال الأخيرة وانظاره اتجهت إلى انعكاس صورتها في المراَة امامه، هم راجح بالجدال والإصرار على موقفه، ولكن مدحت قطع بحدة معه، حتى استسلم راجح مجبرًا لفعله الكريم، لتستشيط نهال من الغضب في الخلف، حتى كتفت ذراعيها والتفت تراقب الطريق من نافذتها تحاول التماسك كي لا تنفجر بوالدها الذي سمح لهذا الشخص ان يحملها جميلُ، هي في الغنى عنه.
❈-❈-❈
قالت نعمات تجيب ابنتها التي صاحت على فعل والدها للسكوت على فعل ابن عمها والتغاضي عن دفع ثمن العلاج بعد ان فحصها ايضًا مجاناً وبناءًا على رغبة والديها:
- طب وفيها ايه يا بتى؟ دى حاجه بسيطة مش مستاهلة.
هتفت نهال لا تحتمل تبريرًا لفعل والدتها:.
- كيف حاجة بسيطة يعني؟ بجى يكشف على رجلي، ويجيب العلاج على حسابه كمان؟
دافعت نعمات:
- يا بتى انتي ليه مكبره الموضوع؟ هو واد عمك دا حد غريب.
صاحت نهال بانفعال وعصبية:
- الموضوع نفسه كبير يامٌا، انا مش عايزه احس نفسى مديوناله بشئ مش كفاية حكاية الكشف اللى غصبتونى عليه .
قالت نعمات بعد ان فاض بها :
-وه عليكى، دا انتى بجيتى صعبة جوى يا شيخة، اها ابوكى داخل يا ختي وكلميه بجى بنفسك.
قالت الأخيرة نعمات بعد ان انتبهت على دلوف زو جها للمنزل، والذي هتف سائلًا بدوره:
- فى ايه ؟ صوتكم عالى ليه؟
ردت نعمات :
-تعالى شوف يا راجح، بتك عاملة عاميلها عشان واد عمها كشف على رجلها واتحمل تمن العلاج .
قال راجح :
- وفيها ايه يا بتى دا واد عمك مش غريب.
لم تتحمل نهال الجملة المكررة، لتضع كفيها فوق اذنيها
- حن عليك يا بوى، انا ودانى تعبت من الكلمة دى النهاردة
رد راجح بعدم استيعاب:
- يا بت انت مالك اتجنيتى ؟!
قالت نهال بتعب :
- واضح ان مفيش فايده من الكلام، طيب ممكن تجولى دلوقتي، كان عايزك فى ايه سيادة الدكتور، بعد ما نزلنا انا و بدور. من العربية.
رد راجح ببساطة:
- كان بيسألنى على عنوان السكن بتاعك فى المحافظة.
هتفت نهال بصوت عالي بعدم احتمال:
- كمان يا بوى، هو ماله هو؟ حاشر نفسه ليه فى دى كمان !!
رد راجح بصوت عالي بدوره:
- خبر ايه يا بت؟ واد عمك عايز يطمن على سكنك وكمان يشوف المنطقة اللى هتسكنى فيها زينة ولا عفشة مش من حجه يطمن عليكى !!
حاولت نهال التهدئة من ثورة غضبها بأن تمسح بكفيها على وجهها، فقالت بهدوء نسبي:
- ماشى يا بوى ماشى اللي تقول عليه وتشوفه زين ماشي، واضح انى داخلة على ايام ما يعلم بيها الا ربنا .
غمغمت بالاخيرة بصوت خفيض، حتى تتجنب الشجار مع والديها
❈-❈-❈
في منزل عبد الحميد
ولج لداخل المنزل بمزاج رائق، واضعًا كفيه بجيبي بنطاله، يصفر ويغني بابتهاح ظهر على ملامح وجهه، حتى انه لم ينتبه على شقيقته التي دلفت خلفه، فهتف والدته بفضول:
- بسم الله ماشاء الله، الدكتور وشه بيضحك
دنى ليقبل رأسها ثم ردد دون ان يلتفت خلفه:
- مساء الخير ياست الكل .
ردت راضية بسعادة :
- مساء الهنا على عيونك يا حبيبي
تدخل رائف يوقفه قبل ان يكمل طريقه نحو غرفته،
- ياحلاوه يا ولاد، واَخيرًا شوفنا الدكتور بيضحك!
طالعه مدحت بنظرة مشمئزة منه وهو يردف الكلمات والطعام في فمه:
- طب ابلع الاول جبل ما تتكلم وتستظرف بخفة دمك .
عقب عبد الحميد :
- والله عندك حج يا ولدى دا هيفضل طول عمره كده فى هبله ده ما هيتغيرش أبدًا.
سمع رائف للنقد من الإثنان، واستمر في تناول الطعام دون ان يبالي، وكأنه لم يستمع شئ
قالت راضية مخاطبة ابنها:
- قرب يا ولدى اتعشى معاهم، مستني إيه؟
قال مدحت بنبرة مكتفية سعيدة:
- لا يا امى انا شبعان، شبعان خالص، انا بس عايز انام وارتاح عن اذنك بجى.
قال كلماته وذهب على الفور، تاركًا والدته تتحرق لمعرفة سبب الحالة التي هو بها، لدرجة جعلتها تتلقف نيرة التي كانت خارجة من غرفتها بعد ان بدلت ملابسها، لتجذبها من ذراعها وتقربها إليها هامسة
- خدى هنا يا بت، اخوكى ماله ؟!
القت نيرة بنظرها على الباب الذي اغلقه شقيقها منذ لحظات بعد ان دلف لغرفته، ف سألت بارتياب
- ماله اخويا؟ ما هو زين اها.
- زين اها! تعالى يا بت معايا احكيلى كل اللي حصل بيت جدك .
قالتها راضية وهي تجذب ابنتها بحزم لتجلس بها في احد الاركان بالصالة لغرض الحديث، ولكن نيرة اعترضت، لتنزع يدها عنها قائلة:
- يا اما سيبينى انا هموت واتعشى، عصافير بطني بتسوسو.
لم تستسلم راضية ف جذبتها مرة أخرى قائلة بتصميم :
- يا بت الوكل مش، هيطير تعالى هما دقيقتين وبعدها كلي للصبح .
صاحت نيرة بصوت عالى جعل والدها ينتبه:
- ياما بجولك جعانة، باه، يعني هو الكلام هيخلص؟
هدر عبد الحميد بزو جته يجفلها:
- خبر ايه يا مره انتى؟ بتجولك جعانة سيبيها تاكل . هى الحكاوى هتطير؟
تركتها راضية مجبرة، لتتمتم خلفها بصوت خفيض، وهي تراها تجلس على مائدة السفر من قبل أن يختم والدها كلماته، لتأكل بنهم وشهية مفتوحة دائمًا:
- كلك ديب يا بعيدة
❈-❈-❈
على تحته كان جالسًا على طرفه بشرود، دون ان يبدل ملابسه، يتذكر كل همسة وكل رد فعل صدر منها، هذا الخجل الشديد الذي يميز شخصيتها العنيدة، ثم هذا الاكتشاف الجديد الذي علمه جديدًا عنها، وهو لون عينيها السري والذي لا يعلمه سوى المقربين جدا منها، لعن نفسه وغباءه الذي جعله ينشغل بتأسيس مستقبله بالعمل الدئوب دون توفف حتى أضاع عليه اجمل الفترات في مراقبتها وهي تكبر أمام عينيه حتى تصبح بهذه الروعة،
التفت رأسه فجأة نحو النتيجة الورقية المعلقة على أحد حوائط بالغرفة، وجدها عشرة بالشهر، ليتبين له المتبقي من الايام لن يتعدى ٨ ايام على فتح الدراسة بالجامعات، أخذ شهيق طويل وأخرجه مرة أخرى، ليهدأ ضربات قلبه التي تسارعت فجأة ، فما ينتظره قد اقترب، اقترب ميعاد ان تصبح بالقرب منه، ليراها يوميًا، بل وتتعلم في نفس مكان عمله، اقترب الميعاد الذي يجدد الامل إليه، لإصلاح ما أخطأ به سابقا، اقترب ميعادها مغه، تمتم يفكر بصوت واضح مع نفسه:
- هانت، هانت مدحت.
❈-❈-❈
بعد ٨ ايام
توقفت لتتطلع للمبنى الضخم امامها بمشاعر مختلطة ما بين الهيبة والإجلال والإنبهار، قلبها كان يضرب بتسارع رهبة من الموقف مع قرب تحقيق حلمها لتصبح طبيبة، لقد فعلت الصح رغم سذاجة تفكيرها في البداية، حينما علقت مستقبلها بدخول نفس الكلية التي دخلها هو؛ لتقترب منه وتُصبح لائقة له ومتكافئة معه، أما الاَن وقد اكتشف وهم تعلقها بإنسان سطحي، بأفكار رجعية جعلته يختار شقيقتها الصغيرة الغير مناسبة له من جميع النواحي، لا عمرًا ولا تعليمًا، ولا ثقافة، لتعلم هي بحقيقته وتلحق نفسها في التأسيس لمستقبلها، مستقبلها فقط.
- اه
صدرت منها فجأة إثر دفعة قوية تلقتها من صديقتها وزميلة الدراسة معها من البلدة نوها والتي قالت :
- ما تتحركى يا بت، انتى هتفضلى واجفه كده كتير؟
ردت نهال بضيق:
- يخرب بيتك خضتينى، كنتي هتكفيني على بوزي قدام الطلبة والزملا وفي اول يوم دراسي كمان، عشان ابقى مضحكة الكل.
ردت نوها :
- اعملك ايه يعنى؟ ما انتى اللى وجفتى مكانك ومش متحركة
سارت معها نهال لترد وهي تبتسم بسعادة:
- مش مصدجة نفسى يا نوها، وفرحانة جوى انى خلاص هحقق حلم عمرى وابجى دكتورة.
قالت نوها بابتسامة فرحة هي الاخرى:
- مش انتى لوحدك يا ماما، انا زيك برضو ويمكن اكتر، وعشان كدة بقولك اتحركى بجى خلينا ندخل الكلية ونعيش الواقع بجد ونمارسه.
همت لترد نهال ولكن صوت الهاتف قطع عليها، لتنظر بهذا الرقم الغريب عنها، فتحت لتتبين من هو المتصل:
- الو السلام عليكم .
وصلها صوته المنفعل:
-السلام عليكم وحمد ع السلامة كمان، انتي فين؟
قطبت مندهشة لتبعد الهاتف عن اذنها لتهمس لنوها ياعين متوسعة مندهشة:
-دا الدكتور مدحت ابن عمي.
همست الأخرى سائلة:
-ودا عايز إيه؟
حركت رأسها بعدم فهم، ثم ردت بصوت مهتز:
- يعنى هاكون فين ؟ انا فى الجامعة طبعاً.
رد بصوت محتد:
- انا مش منبه عليكى وجايلك انى هاجى اخدك بالعربية واوصلك .
شعرت نهال بالغيظ منه لتجيبه بعند:
- وانا جولتلك متتعبش نفسك.
٠وصلها صيحة منه اجفلتها:
- انتى مالك اتعب ولا اتنيل حتى، انتى ليه مابتسمعيش الكلام؟
انعقد لسانها ولم تعرف بما تجيبه وهو بهذه الحالة من العصبية التي لم تعتاد عليها منه، مع ازدياد غضبها بانفعاله الغير مبرر نحوها، وحينما طال انتظاره هتف بها:
- مابترديش ليه ؟
ردت تدافع:
- هاجول ايه يعنى ؟ ما انا بجولك طلعت مع زميلاتى فى السكن مجيتش لوحدى يعنى، يبقى إيه لزمة الزعيق والشخط فيا؟
هذه المرة كان الصمت من جانبه، ليصلها صوت انفاس متهدجة تزيد من توترها، فرددت بتساؤل:
- الو... الو يا دكتور مدحت.
- اجفلى يا نهال ، إجفلي دلوك.
قالها لينهي المكالمة سريعًا، ليجعلها تنظر في الهاتف باستغراب وقد تغير مزاجها على الإطلاق.
سألتها نوها:
- مالك شكلك اتغير ليه؟ هو قالك إيه بالظبط؟
اجابتها نهال:
الباشا الدكتور كان بيزعج معايا عشان جيت الجامعة ومستنيتش يوصلنى، اصلوا خايف يا ستى عشان بجيت مسؤله منه.
- خايف عليكى
- ايوه يا ختى خايف عليا، بس اللي مستغرباله ، هو عرف كيف نمرتي؟ بس هو مؤكد خدها من ابويا، اعمل ايه بس مع ابويا دا اللي بيثق فيه وعامله ولده
تبسمت نوها تناكفها:
- يا بت، يعنى انتى مكنتيش عايزه تسمعى صوته؟!!
ارتبكت نهال لتلكزها قائلة:
- لاه مكتش عايزه اسمع صوته ولا عايزه منه مساعدة انا جولتلك جبل كده انى مش هبص غير لمستجبلى وبس .
ردت نوها بعدم تصديق:
- يا شيخة! يعني عايزانى اصدق ان نستيه ونسيتي حبك ليه؟
- ايوه نسيت ويا للا ياختى همى برجلك شويه خلينا نوصل ونشوف النظام ايه .
قالتها نهال بجدية لتتهرب من الرد على سؤال صديقهتا، ولتسرع بخطواتها نحو الداخل:
❈-❈-❈
وإلى بدور التي كانت في طريقها نحو المدرسة مع ابنة عمها وصديقتها نيرة، يتسامرن بالحديث المسلي حتى يصلن المدرسة، حتى تفاجأن بمعتصم الذي كان متوقفًا بجانب الطريق وكأنه كان في انتظارهن، بمرفقها لكزت نيرة على جانب بدور تغمز لها لتُنبهها، ف ارتبكت الأخرى وتوترت وهي تجده يقترب منهن بابتسامة لزجة ليُصافحن بيده، مرددًا بترحيب:
- إزيكم يا بنات، عاملين ايه؟
اومأت له نيرة كرد، اما بدور فازداد ارتباكها وعيناها تتطلع يمينًا ويسارًا حولهم لتقول:
- إنت ايه اللى جابك يا معتصم؟ ولا واقف هنا ليه؟
رد بسماجة غير مبالي بقلقها:
- طيب سلمى زين الاول، هو انا لحقت عشان تاخديني كدة على مشمي؟ عامله ايه يا نيرة فى الدراسة؟ زينة كدة ولا خايبة؟ ههه
بادلته نيرة ابتسامة على مضض كمجاملة، قبل أن تستأذن لتبتعد وتتركهما، كي تعطيهم فرصة للتحدث على انفراد.
تبسم معتصم يقول بمزح:
-عندها زوق بنت عمك دي والله، عرفت من نفسها ومن غير ما اقولها عشان تروق لنا الجو ههه
قطعت عليه بدور تسأله بحدة:
- معتصم انا سألتك إيه اللي موجفك على الطريق كدة؟ وجاي ليه؟
رد معتصم بعتب:
-يعني هكون جاى ليه يعنى؟ جاى عشان اشوفك يا بدور وحشتيني.
هتفت به بعصبية:
- تشوفني دا إيه؟! وكدة على الطريق كمان؟ هو انت مش خايف حد من ناسى يشوفك هنا تحصل نصيبة؟
رد معتصم بعدم اكتراث ضاحكًا:
- تحصل نصيبة ليه مش خطيبك انا؟ ثم انتى السبب يا بدور، عشان منشفاها عليا، دا انتى حتى التلفون بالعافيه بتردى عليه.
حاولت التماسك حتى لا تقرعه برد قاسي، فقالت بجفاء:
- بجولك ايه يا معتصم؟ إنت تحمد ربنا انى برد عليك من الأساس، ولا انت ناسى ان جدى حكم إن مفيش كلام تليفونات لحد ما يحصل جواز وانا لولا زنك الكتير فوق راسي، والله ما كنت رديت عليك اصلاً.
تقبل حديثها ليرد ببرود شديد:
- خبر ايه يا جمر؟ مزوداها كدة وشادة معايا في الحديت عشان كلمتين اتجالوا، وهو احنا يعني هنتبع كل اللى يتجال ياك؟
تملكها الغيظ من ردوده المستفزة، لتهدر به؛
- معتصم فوضها وامشى احسن، كفاية كدة، بت عمى واجفه فى الشمس احسن تتعب .
القى نظرة نحو نيرة التي كانت تتابعهم من قريب، ثم عاد إلى بدور قائلًا:
- تتعب كيف يعني، هى لحجت تجف ولا احنا لحجنا نتكلم اساسًا؟
هتفت به بدور وقد فاض بها:
-امشي يا معتصم احسنلك دلوك، امشي الله لا يسئك.
هز رأسهِ بابتسامة مستفزة يقول لها:
- ماشى ياجمر، عشان خاطرك بس، وكدة كدة الايام جايا كتير، سلام.
اردف بها ثم ذهب لتعود إليها نيرة على الفور سائلة:
- كان عايز ايه ده ؟!
لم تجيبها بدور وقد بدا عليها الشرود وهي تغمغم بصوت خفيض وهي تتبع اثره:
- انا مش عارفة عجلى كان فين ساعتها؟
هتفت نيرة باستفسار:
- انتى بتجولى ايه؟ صوتك واطى وانا مفهمتش حاجة.
التفت إليها بدور تطالعها بنظرة غير مفهومة تجيبها:
-ما تشغليش نفسك يا نيرة، اهو جال كلمتين وراح لحال سبيله، يا لا بجى مايهمكيش انتي.
❈-❈-❈
وفي الجامعة وبعد ان استقرت مع صديقتها في المدرج لانتظار الدكتور الذي سوف يُعطيهم اول محاضراتم العلمية لبدء الدراسة، اقتربت فتاة جديدة تجلس بجوارهن لتبادرهن بإلقاء التحية:
- السلام عليكم يا بنات، ممكن اتعرف بيكم.
ردت نوها بمودة للفتاة:
- اهلا وسهلا بيكي، انا نوها ودى نهال صاحبتي وبت بلدي.
اشرق وجه الفتاة تردد:
- با أهلاً يا مراحب ببنات البلد، اهلا يا نوها، اهلا نهال...
توقفت فجأة محدقة بإعجاب نحو الأخيرة مردفة:
- بسم الله ماشاء الله، ايه الحلاوه دى؟
تبسمت نهال لترد على الفتاة بخجل:
- متشكرة يا ستي، بس مش لدرجادي يعني.
هتفت الفتاة:
-والله لدرجادي وأكتر كمان، هو انتوا من فين يا بنات؟ بس قبل ما تتكلموا احب اعرفكم بنفسى، انا بثينة من هنا، من المحافظه نفسها يعنى
ردت نوها:
- يعنى انتى من البندر؟ بس احنا يا ستى بلدنا بعيدة عن هنا.
عادت بثينة لتردف بإعجاب:
- بس ايه الحلاوه دى؟ دا انتو بلدكم بتطلع ابطال يا
البنات.
تبسمن لها الاثنتين يستجبن لمرحها، لتردف نوها:
- يعني انتي هتتجني على نهال، امال لو شوفتى اختها بدور كمان، دى عنيها ما تعرفيلها لون، اصلهم وراثة من امهم نعمات.
تمتمت بثينة بإكبار:
- ما شاء الله ربنا يبارك، لكن انتو متعرفوش مين داخل لنا دلوقت؟
تمتمن الإثنتان بصوت واحد:
- لا ما نعرفش صراحة، ما انتي عارفة احنا لسة جداد زيك .
استمر الحديث بمودة بين الفتيات الثلاثة حتى هدأت الأجواء، والتزم الجميع الصمت مع دلوف دكتور المادة؛ الذي ما ان رأته بثينة، هللت تصفر بصوت مكتوم بإعجاب مرددة:
- ايوة بقى افتحو كدة نفسنا من اولها عشان نبدأ الدراسة صح، هي دي الدكاترة ولا بلاش .
قالتها الفتاة لتنقل بأنظارها نحو الفتيات تريد مشاركتهن الرأي لتفاجأ بالجمود الذي أصاب الاثنتين، فقد كان هذا اخر ما يتوقعن، رددت باستغراب لهيئتهن:
- ايه يا بنات ما لكم قاعدين ساكتين ليه؟ ايه اللي جرالكم؟ هو انتو شوفتو عفريت!
الفصل السادس
ولا في أقصى أحلامها توقعت، هكذا ومن اول اليوم تراه أمامها وهو أيضًا من يعطيها اول درس تتلاقاه في الجامعة التي دخلتها من أجله، قبل أن تتغير ويصبح الحلم من أجلها هي نفسها، مع القرار الذي اتخذته بنسايه والنظر لمستقبلها وفقط، ثم يأتي ويفاجأها الاَن بفعله.
لقد كان يلقي محاضرته، يشرح بتركيز شديد ومعظم الوقت ابصاره ترتكتز عليها وسط الفتيات، بعد ان وجدها ببحث وضح من اول ولوجوه المدرج، لدرجة لفتت نظر الصديقة الزميلة الجديدة بثينة، حتى حاولت التحدث مع الفتيات عن ذلك، ولكن مع الحالة التي اصابتهم لم تتمكن.
أما عن نهال فقد كانت تكتنفها مجموعة من مشاعر مخلتطة، ما بين الصدمة والإعجاب الطاغي لحضوره القوي والرهبة التي فرضها بشخصيته القوية على الجميع، وجاذبية فطرية يتمتع بها، هذا بالإضافة إلى شئ اخر ترفض الأعتراف به، شئ يقارب الفرحة لتحقق أمنية عزيزة كانت تراودها منذ سنوات طويلة، رؤيته وهو يشرح مادته العلمية لها مع الطلاب زملائها.
حينما انتهت اَخيرًا المحاضرة التي حبست انفاسها، وسمح للطلاب بالإنصراف تنهدت اخيرًا بارتياح؛ كادت ان تشعر به وهي تلملم أشياءها للخروج سريعًا، حتى تفاجأت بصوت ورود رسالة نصية على هاتفها برقمه يخبرها:
-لمي حاجتك وتعالي ورايا عايزك في مكتبي.
رفعت رأسها نحوه وهو يرد على تساؤلات بعض الطلاب والهاتف بيده، يرمقها بنظرة خاطفة مسيطرة ثم تبعها برسالة أخرى:
-انا مستنيكي برا متتأخريش.
قرأتها لتثبت انظارها عليه وتطالعه بصدمة؛ لفتت أنظار نهى التي ناظرتها بتساؤل فهمته نهال لترفع الهاتف لمستوى بصرها للشاشة، كي تقرأ ما كتب بالرسالة.
سألتهن بثينة والتي استغربت هيئتهن:
إيه يا بنات هو انتو مبلمين كدة ليه؟
ظلت نهال على حالة الصمت تلك، وتكفلت نهى بالرد
-استني يا بثينة أنا هفهمك ما بيني وما بينك
توقفت لتوجه باقي الكلمات نحو نهال.
- روحى انتى معاه دلوك، واحنا هنستناكى فى الكافتيريا
أومأت برأسها كموافقة بتوتر رافقها حتى خرجت.
تسأئلت بثينة على الفور
- تروح فين؟ ومع مين؟
ردت نوها:
- هاجولك
.........................................
- اتفضلى .
قالها وهو يقوم بفتح باب غرفة مكتبه لتتقدمه، خطت لتلج للداخل وشعور متعاظم من الغيظ بداخلها مع الخوف أيضًا.
اقترب من مكتبه فوقف محله يخاطبها وهو يضع حقيبته السوداء على سطح المكتب:
-أقعدي يا نهال ولا انتي ناوية تفضلي واجفة مكانك؟
قالت برسمية:
- لا اتفضل حضرتك اجعد انت، انا مش هينفع اجعد ولا اتأخر.
سألها رافعًا حاجبه:
- ليه ان شاءالله مينفعش؟ مشغولة ولا وراكى حاجة؟
حاولت الرد بعفوية رغم استغرابها اسئلته:
- ورايا البنات اصحابي اللي مستنينى عشان اروحلهم.
- بنات مين غير نوها؟ البنتين التانين زميلاتك فى السكن كلياتهم بعيدة ولا صاحبتى ناس تانية هنا؟
برقت بعينيها لا تستوعب هذا التطفل نحوها من جانبه ، ثم معرفته الدقيقة لأمورها الشخصية، فقالت باندفاع غير مبالية:
- معلش يعني، ممكن تقوللى انت ساحبنى وراك لحد هنا ليه؟
اجفلته جرئتها حتى أنه تلعثم في البداية قبل يتماسك في قوله:
- ااا انا كنت عايز اسألك يا ستي، لو فى أي حاجة مفهمتيهاش جوليلى عليها.
رفعت ذقتها ترفض بعزة نفس:
- لا شكرا انا مش محتاجه مساعدة.
سمع منها ليصرخ بعصبية
- هو فى ايه؟ الصبح ارن عليكى عشان اخدك معايا تمشى ولا تعبرينى ودلوك بسألك لو فى حاجة مش فهماها وبتجولى مش محتاجة مساعدة هو انتى ليه بتعندى معايا؟
ردت بارتباك، :
- انا مش بعند ولا حاجة، انا بس مش عايز احملك همى وانت وراك مسؤليات كتيرة.
اقترب يجيبها بصوت متحشرج:
- حملينى يا ستى وما يهمكيش انا راضى.
اربكتها رقة العبارة التي يردفها مع ما رأته في عيناه من مشاعر ترفض هي التصديق بها، حتى لا يتعلق قلبها بالوهم، تجمدت أمامه ترفرف بأهدابها صامتة عن الرد وقد ضاعت الكلمات من رأسها، لكن حينما طال الصمت مع استمتاع الاخر بحالتها وعدم اكتفائه من التحديق داخل اللون الجديد عليه لعيناها الجميلة، استفاقت حتى لا تضعف وتنسى العهد الذي اتخذته على نفسها، أجلت حلقها ليخرج صوتها ببعض التماسك، فقالت منتهجة السياسة حتى لا تصطدم برد فعل غير مناسب منه:
- ااا ..ع العموم أنا متشكرة جدا لاهتمامك وو يعنى لو فى حاجه انا مافهمتهاش هاجولك برضوا.
- يعنى مش هتتكبرى انك تيجى تسأليني؟
قالها واضعًا كفيه بجيبي بنطاله فاردًا ظهره ليدعي الجدية رغم تحديقة المتمعن لكل تفصيلة بوجهها، وكان ردها هزة برأسها كموافقة، فتحرك مجبرًا أقدامه ليجلس خلف مكتبه، فقال:
-تمام يا ست يا نهال.... مش ناوية تجعدي بجى
هزت برأسها تقول برفض:
- لا طبعاً انا جولتلك عايزه امشى عشان البنات مستنينى .
سألها ببساطة مرددًا
-ما انا سألتك برضوا، بنات مين غير نهى اللي معاكي في المدرج؟ ولا انت لحقتي تتصاحبي على حد تاني؟
احتدت عيناها تناظره بغيظ لاستمراره في التدخل فيما لا يعينه وفي امر شخصي كهذا، فقالت متهكمة:
- ايوه انا صاحبت واحدة جديدة انهاردة والحمد لله انى بصاحب بنات بس عشان تتطمن .
- نهال اتعدلى فى كلامك.
هتف بصوت عالي أجفلها، فصمتت تمتص غضبه فهي لا تريد المزيد منه، ثم قالت بمهادنة:
- حاضر فى حاجة تانية؟
هدأت ثورته فعاد لطبيعته يسألها؛
- لو في اى حاجة نجصت عندك فى السكن وانتي محتاجاها جولى
- حاضر
- لو اى حد ضايجك او زعلك جولى؟
- حاضر
- لو
- ماخلاص بجى كام مره هتجولهالى؟
قالتها مقاطعة ليردف هو بغيظ:
- ما انتى اللي دماغك ناشفة مبتسمعيش الكلام، اعمل ايه معاكى بس؟
اعتلت ابتسامة رائعة وجهها البهي ليُشرق كالشمس التي تضئ له عتمته لتقول بدلال فطري لديها لا تقصده متعمدة:
- ماتعملش حاجة سلام بجى.
قالتها والتفت تستدير للخلف نحو الباب ولكنه أوقفها مع النداء بإسمها:
-جبل ما تروحى ع السكن رنى عليا عشان اوصلك.
تنهدت تقول بتعب وقد ارهقتها تحكماته:
- تاانى، ما انا جولتلك انى هروح مع البنات، يعني متشغلش نفسك، لأن انت اساساً معندكش وقت.
قال مدحت بتصميم
- برضوا رنى وانا لو مش فاضى هاجولك
- حاضر .
قالتها بعدم اقتناع، حتى تتمكن من الخروج سريعًا للمغادرة والابتعاد عن محيطه المزعج، مزعج جددددًا!
❈-❈-❈
خرج عاصم من المنزل منشغلًا في الحديث على الهاتف مع أحد الرجال ليفاجأ بطيفها وهي تمر بصحبة نيرة في الطريق المقابل لمنزله، تلقي التحية بإشارة من يدها على عمها سالم واللذي كان بالصدفة جالسًا على المصطبة بالخارج، توقف متجمدًا على غير إرادته ف اين تكون الأرادة؟ مهما كان الذهن حاضرًا حينما يكون القلب هو المتحكم.
-دي بدور ونيرة يا سالم.
قيلت من خلفه لتُفيقه من غفوته ف التف نحو والدته التي كان خارجة بالصدفة من خلفه، رد سالم وعيناه انتبهت على ابنه الذي غفل عن محدثه بالهاتف حتى وصل لأسماعه صوت الرجل من الناحية الأخرى؛
-أيوة هما يا سمحية.
أردف سالم موجهًا الحديث لأبنه:
- رد على الراجل اللى بيكلمك في التلفون يا ولدى .
- هه حاضر يا بوى حاضر .
تفوه بها عاصم بارتباك وهو يبتعد عن والداه، ليغادر نحو وجهته التي نسيها في غمرة الشرود بمعذبته. سمحية والتي انتبهت هي الأخرى لما يحدث لابنها، تحدثت اَخيرًا وهي تجلس بجوار زو جها على المصطبة :
- وبعدين يا ابو الولاد احنا هنفضل سيبين عاصم كده كتير؟
طالعها سالم باستفسار يسألها:
- يعنى عايزانا نعمل ايه؟
ردت سميحة:
- نخطبله هو كمان خليه ينسى بت نعمات.
كز على أسنانه يقول لها:
- بت راجح مش نعمات يا مرة يا مخبولة انتي، فاهمه ولا لا؟
ردت على الفور بتخوف منه:
- فاهمة فاهمة يا ابو بلال، بس دلوكت احنا فى الواد اللى جلبه لسه متشعلج بيها، أنا عايزه اخطبله واحده تخليه ينسى
سألها سالم:
- عينك على واحدة؟
على الفور ردت بلهفة:
- ايوه طبعاً بت عمه نيره هى كمان حلا وجمال، متقلش عن بدور غير في العيون الملونة وانها رفيعة بس شوية عليها .
اطرق سالم برأسه نحو الأرض بتفكير، ثم قال بعدم اقتناع:
- شوفي ولدك واللى يجول عليه انا موافج ..
هللت سميحة بفرحة قائلة:
- هاجوله أكيد، وان شاء الله يوافج .
ظل سالم على صمته ونظرة التشكك في عيناه كانت بألف رد
❈-❈-❈
وصلت إلى مقر الكافتيريا بالجامعة ف جالت بعينيها حتى لمحت نوها وصديقتها الجديدة بثينة والتي كانت تشير إليها بيدها على محل جلوسهن وهي تحدثها في الهاتف:
-- ايوه يا بنتى احنا اللى قدامك، شفتينا؟ طب كويس.
ردت نهال قبل ان تغلق الهاتف:
- ايوه ايوه، خلاص شفتكم.
انهت المكالمة وتحركت بخطواتها نحو الجهة المقصودة، ولكن وقبل أن تصل إليهن تفاجأت لمن يتصدر أمامها، توقف لتبصر هذا الشاب الغريب، والذي يبدو وكأنه طالب جامعي مثلها، يبتسم بلزاجة وهو يسألها
-أسف حضرتك لو وقفتك، بس انا كنت عايز أسألك ، لو تعرفي مكتب شئون الطلبة وتدليني عليه؟
رغم غرابة الموقف حاولت نهال الرد ببعض الزوق وكلمات مقتضبة:
- لا حضرتك معرفش .
قالتها وتحركت قدمها للمغادرة ولكنها تفاجأت بتصدره للمرة الثانية وعينيه تناظره بجرأة أكبر في قوله:
- ليه حضرتك هو انت اول سنه ليكى؟
هنا تحفزت كل خلاياها، وقد تأكدت من حدسها وفعله المكشوف أمامه، لترد بملامح شرسة وهي تضغط على كلماتها:
- أول بجى ولا اَخر، بقول لحضرتك، عن إذنك خلينى اعدى .
أمام هذا التغير الذي بدا على هيئتها بشر، لم يستطع الشاب الاستمرار اكثر من ذلك، فتنحى جانبًا على الفور، حتى تسير هي وتتخطاه
وصلت إلى الفتيات بمزاج عكر ووجه مكفهر، لسانها يتمتم بالاستغفار، وفور أن جلست بادرتها نهى بالسؤال:
- مين دا اللى كنتى واجفه معاه؟
استشاطت نهال من الغيظ لتجيبها بعصبية مستنكرة:
- كنت واجفة معاه؟ ماتنجى اللفاظك يا نهى، دا واحد وجفنى بيسألنى عن شئون الطلبة.
تدخلت بثينة قائلة:
- دا بيستهبل، وعايز يفتح كلام معاكى.
ردت نهال بانفعال:
- ما انا برضوا اخدت بالى وعشان كدو كشرت فى وشه.
خطفت بثينة نظرة سريعة نحو الشاب الجالس مع مجموعة من زملائه، فقالت:
- ايوه بس دا باين عليه تنح عشان من ساعة ما قعدتى وهو عينه عليكى ومرفعهاش.
عقبت نهى:
- خلاص يا بنات سيبكم منه وخلونا في المهم، احنا عايزين نعرف الدكتور واد عمك كان عايزك في إيه؟
قال بثينة بمرح:
- ايوه صحيح، يا نهال ياحلوه انتى جوزينى ابن عمك الدكتور والنبى ينوبك ثواب.
رفعت نهال حاجبًا مستنكرًا نحو نهى وهى ترد على الأخرى:
- هي الست هانم لحقت تقولك؟
زمت نهى فمها بابتسامة مستترة، وتابعت بثينة بأسلوب تمثيلي:
- ايوه قالتلى انه ابن عمك، عشان كدة بقى، أنا بترجاكى والنبى جوزيهولى.
ارتبكت نهال وضاعت الحروف منها، وهي لا تدري بما تجيبها، فرغم غرابة الحديث وشعورها بعدم جديته، لكنها لا تدري لما هذا الضيق الذي جثم على أنفاسها لمجرد التخيل، تابعت بثينة ونظرات التسلية تنضح من عينيها هي والأخرى:
- ها يا نهال يا قمر انتى، هتجوزينى ابن عمك دا بقى؟
خرج صوت نهال باعتراض:
- وه يا بثينة، مش هتبطلى هزارك ده؟
-وه
رددتها بثينة من خلفها، لتنفجر ضاحكة، هي وشريكتها نهى، غير قادرات على التوقف، حتى صاحت بهن نهال غاضبة:
- هى ايه الحكاية؟ انتوا اتفجتوا عليا ولا ايه؟
هززن الاثنتان رؤسهن بالموافقة، ف طالعت نهال وجه نهى بعتب، فهمت الأخرى لترد بدفاعية:
- والله ما جولت حاجة، هى اللى فهمت لوحديها!
قالت نهال بشك:
- فهمت ايه؟
ردت بثينة بابتسامة خبيثة:
- مش محتاجة حد يفهمنى يا حبيبتي، انا شوفتها لوحدى فى نظرته ليكى.
أثارت انتباه نهال لتسألها بحماس:
- شوفتي إيه بالظبط؟ فهميني.
ردت بثينة بابتسامة متسعة:
-عيونه كانت رايحة جاية عليكى، باين قوى انه مهتم ، بس دا كبير عليكى.
ردت نهال بلهفة وبدون تركيز في مغزى كلمات الأخرى:
- لا طبعا الفرق عشر سنين بس.
قطبت بثينة باندهاش تسألها:
- وإيه بقى اللى كان مانعه من الجواز؟ يكونش حب قبل كده ومطالش؟
- حب في حياته!
تمتمت بها نهال ورأسها تدور مع الجملة العابرة لتسأل بصوت خرج بصعوبة:.
- تفتكرى؟
مطت شفتيها الأخرى تردد بتفكير:
- مش عارفة، بس يعنى احنا بشر ودا شئ طبيعى ان الواحد يمر بتجارب.
تدخلت نهى معهن في الحديث مع انتباهاها لحالة نهال الذي شحب وجهها وتبدل:
- احنا خلينى فى الوجت الحالى وانا و بثينة شايفينو مهتم .
قالت نهال تقول باستناج رأسها الذي يأن من الصداع الاَن:
- عاادى انه يهتم عشان انا بجيت مسئوليته زى ما بيجول هنا في الجامعة والمحافظة، وانا بعيدة عن اهلي .
عقبت بثينة بقلق:
- انتى مالك يا بنتى وشك اتخطف كده ليه؟
اكملت على قولها نهى هي الأخرى:
- أيوه صح يا نهال، مالك ؟
هزهزت نهال برأسها لتجلي رأسها من هذه الأفكار الكثيرة:
- متاخدوش فى بالكو انتو وسيبكم من الموضوع ده، المهم بقى، هو احنا عندنا محاضرات تانية؟
- لا مافيش، تحبى نجعد شويه ولا نروح؟
قالتها نهى لتهتف بثينة بحماس:
- وتروحوا من دلوقت ليه؟ دا احنا لسه مادخلناش فى الجد، تعالوا معايا النهاردة واعتبره اجازة عشان تتفسحو كدة وتعرفو بلدكم، دا انا هخدكم على اماكن فى المحافظة متعرفوهاش ولا عمركم شوفتوها.
ظهرت اللهفة على نهال لتسألها:
- زى ايه مثلا، عرفينا عشان ناخد فكرة الأول .
-يعنى مثلا نعدى ع المحلات، نروح كافتيريا ونقضى وقت حلو او نروح كافيه.
قالتها بثينة لتهلل الأخرى بفرح:
- انا موافجة، يالا بقى انا معاكى .
تدخلت نهى تقول بتخوف:
-استنى يا نهال وشوفي نفسك الاول، افرضي ابن عمك رن عليكى وسألك انتي فين؟
لمعت عينيها ببريق التحدي لترد بقوة:
- وهو ماله هو؟ انا مبعملش حاجة غلط عشان يحاسبني ولا يكلمني، يا للا بينا يا بنات
❈-❈-❈
وعودة للبلدة
في منزل سالم بعد أن أنهى عاصم وجبة غذاءه مع أسرته، ونهض من جوارهم تحت انظار والدته التي نهضت هي خلفه، هاتفة على ابنتها الصغرى:
- علجى ع الشاى يا بت وجبيه ورايا انا واخوكى فى اؤضته.
قالتها ثم التفت نحو زوجها الذي كان يتابع بأنظاره نحو التلفاز، في مشاهدة المسلسل الصعيدي، تغمز له بعينيها، حتى يفهم، عوج فمه المغلق بعدم رضا، ثم التف يكمل مشاهدة، وخطت هي تكمل طريقها نحو غرفة عاصم والذي ما ان طرقت بيدها على الباب الخشبي، حتى وجدته يهتف:
- مين ؟
- دا انا يا عاصم يا ولدي.
قالتها سميحة وهي تطل برأسها من الباب الذي فتحته بمواربة، لتكمل:
-ممكن ادخل؟
اعتدل بجذعه عن الفراش قائلا بترحيب
- أمى، تعالى يا أمي عايزة حاجة؟
دلفت لداخل الغرفة صامتة حتى جلست بجواره على التخت، وامتدت كفها لتربت على كتف ذراعه العريض، بابتسامة متوسعة
القى نظرة نحو كفها قبل أن يعود إليها سائلًا بتوجس:
- فى حاجة ياما ؟ وشك بيجول كدة.
ردت سميحة تهز برأسها بنفس الإبتسامة:
- ايوه يا حبيبى فى، بصراحة بجى انا نفسى افرح بيك .
اشاح بوجهه عنها يغمض عينيه بتعب وهو يرد:
- الله يخيلكى ياما أنا وعدتك جبل كدة، انى لما الاجى بت الحلال هجولك وافرحك، يعني ما لوش لازمة الحديت كل شوية.
تناولت بكف يدها اسفل ذقنه، لتعيد وجهه إليها قائلة:
- ما تبعدش عينك عنى يا ولدى، انا فهماك كويس، يا حبيبي انت عمرك ما هتفكر فى واحده طول ما هى قدام عنيك .
اطبق عينيه يبتلع الغصة المؤلمة بحلقه، ليكتم على جرح قلبه، الذي ينزف مناديًا بإسمها كل دقيقة، فهو ليس بحاجة لتذكيره بها وهي اساسًا لا تغادر وجدانه.
اطلق تنهيدة قوية بقنوط قبل ان يعود إليها باستسلام قائلًا:
-عايزة إيه مني يا أمي عشان اريحك.
دب بقلب سميحة الحماس والتمعت عينيها لتجيبه بلهفة:
عايزاك تخطب يا حبيبي، واحده تستاهلك ومن دمك .
ناظرها باستفسار، لتردف له على الفور:
-انا قصدي على نيرة يا ولدي، بت عمك عبد الحميد.
ردد خلفه بتفكير:
- نيرة!
❈-❈-❈
في التسكع ومشاهدة المعروض على واجهة المحلات بالشوارع الرئيسية بالمحافظة، ثم تعريفهم على أجمل المعالم الحديثة، وزيارتها او التسوق في المولات الشهيرة، قضين الفتيات يومًا طويلًا باستمتاع حتى قاربت الشمس على المغيب فهتفت نهى باستدراك وهي تشير على ساعة يدها:
- مش كفاية كدة بجى وخلينا نروح .
ردت بثينة باعتراض:
- كفاية دا ايه؟ يا بنتي خلينا نكمل اليوم بالمرة، دا انا هاخدكم على كافية البرنسيسة ودا لوحده يجنن.
سألتها نهى بقلق:
-كافيه! يا مري دا تلاقيه كله رجالة، هنروح احنا كيف؟
ضحكت بثينة تجيبها:
-الكافيه دا عائلي يا ناصحة، يعني هتلاقي بنات وولاد وأسر كاملة وأطفال معاهم..
توقفت على صوت الهاتف الذي دوى للمرة التي لا تذكر عدها، فقالت موجهة الحديث نحو نهال:
-ما تردي يا بنتي ع التليفون ده اللي مش مبطل رن
تطلعت نهال في شاشة الهاتف على الرقم الذي أصبحت تحفظه من كثرة التكرار، زامة شفتيها بزاوية، تتنهد بغيظ، قبل ان تحسم بوضعه صامت، قائلة للفتيات:
- ما انا جولتلوا إني مروحة ع السكن هي شغلانة، يالا يا عم.
تدخلت نهى لتثنيها عن قرارها:
-يمكن عايز يطمن عليكي يا نهال ويشوفك رجعتي ولا لا؟ أو يسألك عن محاضراتك.
ردت نهال بنزق:
- أديكي قولتليها بنفسك، هيسألني، وانا بجى مش عايزة اكدب، يبجى اخدها من جاصرها أحسن.
قالت نهى في محاولة أخرى معها، فلم يعجبها الوضع:
- يعنى هاتسيبيه كده يا نهال يرن من غير رد، ما هو كدة يمكن يجلج فعلآ.
صمتت نهال بتفكير ودارت رأسها عن رد فعل مدحت، مع تكرار اتصاله بها، مع عدم ردها عليه، ف همت أن تتصل به بناءًا على توصية نهى التي نبهتها لذلك، ولكن روح العناد بداخلها غلبت، لتهتف بتحدي نحو الفتيات:
- خلاص بجى، انا لما اوصل البيت هبجى اتحايل بإني كنت نايمة والتليفون كان على وضع الصامت.
نهى والتي فهمت عليها وعلى ما يدور برأسها، خاطبتها بمغزى:
- يا جلبك.
رفعت ذقنها تقول بعدم اكتراث:.
- دا الوضع اللي هنمشي عليه الأيام الجاية... بت يا بثينه هو الكافيه دا بعيد ولا جريب
قالت الاخيرة موجهة الكلمات نحو الصديقة الجديدة والتي كانت تتابع بصمت، فردت تجيب بحماس وتفكه:
- على بعد شارعين بس من هنا يا نهال باشا، نكمل الشارع اللي احنا فيه ده ونخش يمين على طول بعدها.
استجابت نهال تجاريها لتتقدمهن قائلة:
- تمام خالص، يالا بقى مدي رجلك انتي وهي.
قالتها وانطلقن الفتيات بالضحكات خلفها، لتردد بثينة بطاعة:
-أمرك يا كبيرة .
❈-❈-❈
توقف بسيارته والهاتف مازال بيده يكرر في محاولة الإتصال بها، رغم يأسه من عدد المرات الفاشلة في عدم ردها على أي اتصال.
- وبعدين بجى ما تردى انتى موتى .
قالها مدحت وهو ينهي الأتصال بغيظ قبل أن يهم بالترجل من السيارة للحاق بجلسة مع مجموعة قديمة من اصدقائه القدامى
أمسك بمقبض الباب وفور أن وطئت قدمه الأرض، إلا وقد تفاجأ بدوي صوت الهاتف، ف التف ليتناوله بلهفة، قبل أن يعود لإحباطه مرة أخرى، برؤيته لإسم المتصل، زفر بضيق قبل أن يجيب :
- ايوه يا يونس، انا داخل الكافيه أها، بس اعمل حسابك مش هتأخر عن نص ساعه عشان مواعيد العيادة
رد محدثه من الناحية الأخرى بلهجة مرحة:
-عارفين والله يا عم الدكتور إن اشغالك الكتير، واحنا برضوا ورانا اشغال، يعني مش هنأخرك ولا نزود عليك ، شد حيلك وتعالى بس
كان مدحت قد أغلق باب السيارة وخطا نحو المكان المقصود، وقال سائلَا، لهذا المدعو يونس عبر الهاتف:
-طب انا خلاص داخل، بس قولي بالظبط انتوا فين؟ عشان متعبش في البحث عنكم.
اجابه يونس:
- احنا اخر طرابيزه فى الركن ال....
سمع منه مدحت وهو يدلف لداخل المحل، فجالت عينيه في الأرجاء على الوصف، ولكن توقفت على ناحية أخرى، غير متوقعة على الإطلاق، لا يصدق رؤيتها أمامه، جالسة مع نوها وفتاة أخرى، بركن وحدهن، يتسامرن ويضحكن بانطلاق غير عابئات بالنظرات المصوبة نحوهن،
ليتسمر محله بعدم تصديق لعدة لحظات، حتى انتبه فيها على صوت يونس الذي كان يردد في الهاتف.:
-يا بني انت روحت فين؟ احنا قدامك اهو ..
اغلق في وجهه المكالمة، وتسارع بخطواته متجهًا نحوها حتى توقف أمام الطاولة الجالسة بها مع صديقاتها بهيئته المخيفة مرددًا بتحكم في أعصابه:
- مساء الخير .
قالها وانتبهت عليه نهال لتجحظ عينيها برؤيته، حتى تلجم لسانها عن الرد، والذي تكفل به الفتيات صديقاتها يرددن بارتباك:
- اهلا اهلا، مساء الخير يا دكتور .
لم ينتبه أو حتى يلتفت لهن فقد تحركت أقدامه إليها ليدنو منها بحركة مفاجئة، ثم اقترب من اذنها يهمس بلهجة اَمرة، قاطعة، حازمة:
- من سكات كدة ومن غير نفس حتى، تجومى زي الشاطرة ومسمعلكيش كلمة.
رفعت رأسها إليه ليواجهها بجحيم عينيه التي استعرت فيها النيران، تناظرها بشرر وكأنها على وشك احرقها .
..... يتبع