ايفلين
رواية ايفلين بقلم اسماء ندا الفصل الثاني عشر
كورماك طلع راجل فى كلمته، زي ما وعد بالظبط، طلب من هانك يوصلني البيت في خلال ساعة، فضل واقف بعربيته على الرصيف لحد ما دخلت وقفلت الباب ورايا، وبعدها مشي، لحظتها حسيت إني بقيت لوحدي خالص، وحدة مالهاش آخر.
ده بالظبط اللي كنت مستنياه، الوحدة والهدوء، بس وأنا واقفة في نص مطبخي اللي تلج، والأطباق اللي مركونة في الحوض بقالها تلات أيام، قربت تعمل ريحة مش كويسة، فجأة كرهت الوحدة دي أوي، الهوا كان ساقع والسكوت خانق، عمري ما تخيلت إني ممكن أكون اتبسطت كده وأنا وسط ناس تانية، ناس مالهاش أي علاقة بشغلي، حتى لو الوضع كان مرعب ومخيف.
يا ترى ده لعب في دماغي؟ أكيد ل، مستحيل أكون وحشني وضعى وانا مخطوفة ده، دي كانت أكتر تجربة مجنونة وغريبة عشتها في حياتي كلها، بس الحق يتقال، منظر الجثة اللي شفتها ده هو أسوأ حاجة في كل الحكاية، مش الخطف نفسه، ولا المسدس اللي كان متوجه ناحيتي، ولا حتى تهديدات كورماك ليا، وطبعًا مش موضوع العلاقة ده خالص، منظر الجثة ده هيفضل ملازمني طول عمري، كأنه شبح ماشي ورايا.
بعد ما قضيت كام دقيقة تقيلة وبردانة في مطبخي، انسحبت بهدوء ناحية الحمام، وقلعت الهدوم اللي هانك كان مديهالي. للحظة افتكرت إن لبس الشغل بتاعي لسه معاهم، قلبي اتقبض خوف من جيرالد لانه عمره ما هيوافق لما أطلب لبس تاني بدل اللي ضاع ده.
في الدفى الخفيف بتاع حمامي، دماغي بدأت تودي وتجيب في كل الأحداث اللي حصلت الأيام اللي فاتت دي، الجثة، والخطف اللي اتخطفته، والكذب اللي كذبته على الشرطة، وزرع أجهزة التنصت على الظابطة الطيبة دي، وبعدين العلاقة اللي حصلت بيني وبين واحد من العصابة الأيرلندية دي. حسيت كأن واحدة تانية خالص كانت عايشة جوايا الأيام اللي فاتت دي، لأني عمري ما تخيلت إني ممكن أكون بالجرأة دي وأعمل كل ده، جايز التهديد اللي كان على حياتي ده هو اللي فجر الجانب الإجرامي والجديد ده جوايا، يا ترى لو اتقبض عليا، المحكمة هتحس بيا وتتعاطف معايا؟
بتخيل نفسي واقفة قدامهم وبحاول أشرحلهم قد إيه كنت مرعوبة وأنا بعمل كل الحاجات دي، بس في نفس الوقت بحس بحاجة غريبة بتحصل جوايا وأنا بتحرك، وبفتكر بسهولة قد إيه كنت بتفاعل معاه، مينفعش أنكر إن كورماك كان جذاب أوي، ومنظره وهو بيضرب ديلون كان من أكتر المناظر اللي ريحت قلبي في حياتي. كان بيعمل كل اللي كنت بتمنى أعمله أنا نفسي كل مرة ديلون كان بيحاول يستغلني فيها.
غمضت عيني، وبفتكر إحساس كورماك وهو قريب وبيهمس لى ، كأنه متعود على كده، وكأنه ده مكانه الطبيعي قربي، عمري ما حد عمل معايا كده قبل كده.
أخدت دش ولبست روب ناعم، وبعدين طلبت أكل من المطعم الفيتنامي اللي بحبه، ده كمان فكرني بكورماك وإزاي عرف تفاصيل حياتي بسرعة، يا ترى كان شايفني ست ضعيفة ومسكينة وهو شايف حياتي بسيطة ؟
الست اللي بترد على التليفون أكدت الطلب وأنا نايمة على الكنبة، وكنت لسه هقضي العشرين دقيقة اللي جايين بتفرج على حسابات السوشيال ميديا اللي متابعاها من غير ما أتفاعل معاها، لما وصلتني رسالة على الموبايل من جيرالد.
"أنتي مطرودة."
كلمة مختصرة، بس وجعت قلبي أوي، جت زي السهم في نص قلبي، قلبي بدأ يدق بسرعة، وألف سؤال جه في دماغي مرة واحدة، أنا عملت إيه؟ هو ده عشان غبت يوم واحد بس من الشغل؟ ولا هو شاف اللي حصل لديلون وفاكر إني أنا السبب في كل ده؟ مهما عقلي التعبان ده حاول يلاقي إجابة، أنا معنديش أي شجاعة أرد عليه وأسأله.
الدنيا بتودي وتجيب، وأنا أهو قاعدة في شقتي، على الأقل مش شايلة هم لبس الشغل تاني، بس المصيبة إني كده بقيت على الحديدة، من غير شغلانة، هعرف منين أدفع إيجار الشقة دي؟ ده غير الديون اللي طاباخة على قلبي، بصيت في النتيجة بتاعتي واتنهدت بقلة حيلة، الإيجار داخل بعد تلات أيام، وأنا عارفة جيرالد ده عمره ما بيدفع في الميعاد، يبقى مفيش غير حل واحد بس، أمي.
"ألو؟" أمي دي بتتكلم كأنها ماسكة بونبوناية في بقها، وتحب تمصمصها كده وهي بتتكلم، وده بيحسسني بالغثيان مهما كبرت.
"أهلًا يا أمي."
"إيفلين! أخيراً."
"إيه؟"
"كنتي فين؟ كان المفروض تيجي إمبارح بالليل تساعديني ننقل الدولاب الجديد، دلوقتي عندي وحش خشب محشور في أوضة المعيشة عشان حضرتك مالتزمتيش بكلمتك مع أمك!"
يا لهوي، دي كانت رايحة من دماغي خالص.
"يا أمي، أنا آسفة أوي. أنا كنت..." سكت. أقولها الحقيقة؟ "يا أمي، حصلت حاجة."
"مش عايزة أسمع تاني عن عاداتك في صرف الفلوس على الفاضي،" أمي قالتها بحدة.
"لأ، مش كده، في الفندق اللي بشتغل فيه كان فيه—"
"اترفدتي من الشغل؟" زعقت. "كنت عارفة، إنتي عمرك ما بتكملي حاجة يا إيفلين، قولتلك إنتي مش نافعة لسوق العمل، لازم تشوفي ليكي راجل كويس، وتستقري، وتخلفي عيال!"
أنا دماغي راحت على طول لكورماك، ده طبعًا أكبر مني بكتير، أمي كانت زمانها جالها جلطة لو عرفت.
"ماترفدتش من الشغل،" كذبت بهدوء. "حصلت حادثة، حد مات، فاضطريت أقعد وقت طويل أتكلم مع الشرطة، عشان كده ما عرفتش أجيلك."
فجأة، أمي بقت مهتمة أوي، قعدت تسألني بشغف بتاع بتوع الجرايم دول، وقعدنا نرغي لحد آخر الليل عن التفاصيل البشعة،جزء مني كان حاسس بالذنب وأنا بشرح اللي شفته وأنا عارفة قد إيه كورماك متألم، بس كان كويس إني أتكلم مع حد مش طرف في الموضوع، دي كمان أطول مكالمة عملتها مع أمي من شهور، وقعدت ساعتين من غير ما توبخني بأي شكل.
على ما المكالمة ما خلصت، كنت أكلت طبق النودلز اللي بحبه، وكنت مهدودة خالص، اترميت على السرير ونمت ستاشر ساعة متواصلة.
الصحيان لوحدي في شقتي حاجة غريبة، فيه وحدة غريبة جديدة في قلبي ما كنتش واخده بالي منها قبل كده، وأنا ماشية يومي (بدأت بسؤال أمي لو ممكن استلف منها إيجار، وبعدين قعدت أدور في كل إعلان وظيفة يقع في إيدي ) حسيت بشوق لكورماك،هو السبب في ضيقتي دي.
طريقة كلامه معايا، طريقة مسكته فيا وتثبيته وهو معايا كأنه حياته واقفة على وجودي جنبه، طريقة حمايته ليا من ديلون في كام ساعة قليلة، وراني حب وإخلاص أكتر ما أي حد وراني في حياتي، وبدل ما أتبع الإحساس ده، أنا اخترت إني أمشي، ودلوقتي عايشة بالوجع الغريب والجديد ده، وجع الوحدة في قلبي على اللي كان ممكن يحصل.
وبعدين لعنت نفسي، مش طبيعي إني أكون عايزة كده، صح؟ الراجل ده خطفني يا لهوي، كان المفروض أكون عايزة أبعد عنه أبعد ما يمكن، يا ريت أعرف أبطل تفكير فيه.
الأيام اللي بعدها عدت في زحمة من طلبات التوظيف، وأمي وعدتني إنها هتدبر لي كام مقابلة جواز مقابل إيجار البيت، وأنا صرفت آخر قرش كنت محوشاه، ليلتين ورا بعض، النوم طار من عيني لحد ما شربت أزازة نبيت، لحسن الحظ، النبيت غلبني قبل ما أقدر أرد على رغبتي إني أتصل بالرقم اللي كورماك اداهولي في الفندق.
يمكن يكون غير رأيه دلوقتي، بس اكيد هو مش بيفكر فيا خالص، راجل زي ده مش هيعلق ب واحدة ست شافها كده وخلاص، وأنا كمان المفروض ما أعملش كده، بس هو عامل زي المخدر، عايم في أفكاري ومش عايز يروح.
ليلة الجمعة جت، وأنا بتنفس براحة وأنا ببعت دفعة الإيجار، كده هم الشهر الجاي قل شوية، بس للأسف، ما جاليش أي رد من الشغلانات اللي قدمت فيها، فمع آخر أزازة نبيت عندي، قعدت أتصفح مواقع شغلانات مالهاش آخر وبدأت أدور من أول وجديد للمرة الألف.
بعد كام ساعة، فكرت لو ممكن أشتغل شغلانات بسيطة زي إني أعمل حاجات يدوية وأبيعها، الجريمة بتجيب فلوس، مش كده برضه؟
وأنا سرحانة في أفكاري، خبط عالي وسريع على باب الشقة خلاني أتنطر من مكاني، بصيت في الساعة، كانت الساعة تمانية بالليل وأنا لسه ما طلبتش أكل، مين ده بقى؟
قومت من الكنبة اللي كنت عاملاها زي العشة على الأرض، وجريت ناحية الباب، عقلي كان هيطير من الأمل يمكن، يمكن بس، يكون كورماك.
مش عارفة ليه ممكن ييجي يزورني، بس هو الواحد اللي ممكن أتخيله، أنا أصلاً ما بيجيليش زوار أبداً.
الخبط رجع وأنا بجري في الطرقة "ثانية!" ناديت، ووقفت أظبط شعري وأرتب هدومي، يا خراشي، طب كويس، هو شافني في أسوأ حالاتي وأنا بعيط على الكرسي ده، يبقى شكلي دلوقتي أكيد أحسن بكتير، قلبي دق بسرعة وأنا بفتح الباب، وبعدين سحبته وابتسمت ابتسامة مستنية، الابتسامة اختفت في ثانية.
ده مش كورماك، الراجل اللي واقف على بابي ابتسم ابتسامة بينة سنانه المفرقة، ورمى سيجارة من صوابعه على السلمة اللي تحت، داس عليها بجزمته التمساح، وزق الباب بإيده قبل ما حتى أفكر أقفل الباب في وشه.
"أهلًا يا إيفلين."
بطني اتقبضت في ساعتها "هاري، بتعمل إيه هنا؟"
"خمّني." بيتكلم بالبطيء وبيقرب مني لحد ما آخر نفس من دخان سيجارته دخل صدري. مسكت الباب جامد، بس هاري كان فتحه خلاص ودخل.
"فلوسك مش معايا،" قولت بحزم، قلبي بدأ يدق جامد، بيملى وداني بصوت نبض غريب "قولتلك هتصل بيك لما تجيلي."
"جاتلك،" هاري بيقول، وبزقة أخيرة، دخل شقتي بالعافية، ما كانش عندي حل تاني، سيبت الباب من إيدي، ورجعت لورا وهو وقف عدل وملى الطرقة بجسمه الطويل الرفيع. قفل الباب وراه برجله. "بس إنتي ما اتصلتيش."
بحذر، رجعت خطوة لورا، بحاول أحافظ على مسافة بيننا، بس كل ما أتحرك، هاري بيتحرك معايا خطوة تانية.
"فلوسك مش معايا،" قولت، وأنا بلعن جوايا لما رعشة دخلت صوتي. "مش دلوقتي."
من تسع شهور، كنت غرقانة في ديون بطاقات الائتمان اللي ما كنتش عارفة أعدها، عادات صرف وحشة، ده غير إني كنت عايزة أحس بالحب عن طريق الحاجات المادية، الطريقة اللي أصحاب المحلات كانوا بيبتسموا بيها لما يشوفوني كانت إحساس بدور عليه، كأن أي مشاعر منهم حقيقية، لما البنوك خدت شقتي عشان ما عرفتش أسدد وهددوني بالقانون، عملت الحاجة الوحيدة اللي جت في بالي.
روحت لواحد بتاع قروض بربا، هاري اداني فلوس كفاية أسدد بيها كل ديوني وأجيب الشقة الجديدة دي اللي مش قد كده، ساعتها، كل اللي كنت قلقانة منه إني أسدد دين واحد بدل خمسة، بس كنت ساذجة، الراجل بتاع القروض ده ما كانش الحل، الفايدة اللي هاري زودها كانت كافية تخلي نفسي تغم عليا من أول مرة قالها.
"مش دلوقتي." هاري قالها بهدوء ولحس سنانه اللي فوق، فجأة، نط لقدام وزق بإيده على زوري وهو ماسك قميصي بالإيد التانية، استغل المسكة دي وزقني جامد ناحية الحيطة، والخوف دخل قلبي زي السكينة.
"هاري - هجيبلك فلوسك!" شهقت وأنا ماسكة دراعه الرفيع اللي عمال يترعش كل ما صوابعه تلف حوالين زوري.
"هتعملي كده؟" زمجر هاري وهو بيزقني ناحيته "العصفورة الصغيرة قالتلي إنك بتقضي وقت طويل في مركز الشرطة، مش هتبلغي عني دلوقتي يا حلوة، صح؟"
"لأ!" شهقت وأنا بقاوم قبضته اللي خانقة، رفعت رجلي وركلته، بس هو زقني لفوق على الحيطة عشان رجلي ما تطولش الأرض. "هاري - مش هعمل كده! أرجوك!" هاري ساب قميصي، وضربني على وشي، راسي لفت ناحية التانية، وحرارة فرقعت في خدي وفكي. قعد يضربني تاني وتاني لحد ما وداني صفرت وحسيت بدوخة.
"ماتكذبيش عليا!" زعق. "كنتي بتعملي إيه في مركز الشرطة؟"
"أنا ما بكذبش!" توسلت والدموع نازلة من عيني. حسيت بدفا نازل من حواجبي على خدي، ونظري بقى مشوش. "أنا شفت جريمة في الفندق، وهما كانوا بيسألوني عنها، ده كل اللي حصل!" كل كلمة طلعت مني وأنا بنهج عشان أعرف أتنفس.
"إنتي بتكذبي!"
"لأ!" بعيط وشهقاتي بتعلى. "شوف الأخبار - أرجوك، أنا محتاجالك يا هاري، مش هبلغ عنك، أنت عارف إني مش هعمل كده!"
هاري ضربني تاني، والمرة دي، سابني خالص، والضربة وقعتني على الأرض مع صرخة، انحنى قدامي ومسك دقني، وبعدين رفع راسي عشان عيني تيجي في عينه.
"الأحسن ليكي ما تعمليش كده،" هاري قالها وصوته رجع هادي بشكل غريب.
"عشان مش عايزة تعرفي بعمل إيه في اللي بيوشوشوا، صح؟ واحدة حلوة زيك؟ ديون بطاقات الائتمان هتبقى أقل حاجة تقلقك."
"هجيبلك فلوسك،" شهقت، رعشة سيطرت عليا كلها، وغرزت أطراف صوابعي في فخدي بحاول أسيطر على نفسي. "أنا بس محتاجة وقت أكتر-"
"لأ. مش هثق فيكي والشرطة بتراقب. أنا ريحتك كام شهر فاتوا يا إيفلين، عشان كنت حاسس بالأسف عليكي." هاري طبطب على خدي اللي اتورم وابتسم ببرود. "قدامك تمانية وأربعين ساعة ، يا تدفعيلي لما أرجع، يا هقتلك، فهمتي؟"