أخر الاخبار

رواية مواسم الفرح الفصل الثالث والثلاثون و الاخير

مواسم الفرح 

رواية مواسم الفرح الفصل الثالث والثلاثون و الاخير


رواية مواسم الفرح

 الفصل الثالث والثلاثون و الاخير 
الفصل ٣٣


في طريقه نحو منزله، يسير مدندنًا بسعادة وهو يردد بعض الاغاني الشعبية التي يحفظها، يحمل فوق كتفه حقيبة الأموال وكأنه يحمل حقيبة عادية كالتي يأتي بها حينما يتاجر في بضاعة جديدة ويدور بها على الزبائن في الطرقات ويبيعها، فهذه مهنته التي يمارسها منذ أن وطئت قدميه هذه البلدة الغريبة عنه، ولكنه الان سوف يغيرها ويغير كل شيء مع هذه النقلة الجديدة بحياته، وصل إلى المنطقة التي يقطنها وهي عبارة عن مجموعة من المنازل المتناثرة بعشوائية، لعدد من السكان معظمهم اغراب عن المدينة.

توقف أمام منزله وما هم أن يفتح بوضع المفتاح في مغلق الباب حتى تفاجأ بمن تناديه بإسمه:

- زكى، هو انت جبت بضاعة جديدة؟

عرف صاحبة الصوت ليزفر بداخله مصدرًا سبة وقحة قبل أن يلتف نحوها بغيظ مكتوم قائلًا:

- نعم، عايزة إيه يا سحر ؟! 

تقدمت المذكورة نحوه بخطوات سريعة تقول بلهفة لتكتشف الجديد:

- عايرة اشوف البضاعة الجديدة، يا ترى بجى جبت اللى جولتلك عليه؟!.

أزاح يدها التي تحاول المسك بالحقيبة ليقول بغضب:

- شيلى ايدك ده يا سحر وبطلى ام رزالتك دى، هو انا أذنتلك من الأساس عشان تمسكي وعايزة تفتحيها؟

اجفلت سحر بفعله لتقول باستغراب:

- خبر ايه يا زكى دي مش عوايدك؟! دا انت وعدتنى انى هكون اول واحدة تشوف الجديد عشان اكمل بقية جهازى .

حاول السيطرة على انفعاله حتى يبدوا طبيعيًا معها في قوله:

- دى مش هدوم يا سحر، دى أمانة ناس مأمنينا عليها، واهدي بقى لما اجيب الجديد هقولك .

بعدم تصديق هتفت به تجادل:

- أمانة برضوا يا زكي؟ هو انت بتعرف تحفظ امانة اساسًا، ما تجيب م الاَخر وجول انك لاقيت زباين تانى احسن، خبر ايه يا زكي؟ دا انا عمرى ما أخرت عليك قسط فى شهر واحد حتى .

إلى هنا وخرجت الأمور عن السيطرة، فهذه الغبية وفضولها الغير عادي، لمعرفة ما بداخل الحقيبة، قد يتسبب في انكشاف أمره فصاح بها بتشنج:

- بقولك إيه يا بت انتي، أنا مش فاضيلك دلوقتى ولا شايف قدامى وعايز اخش انام .. اخلصى انزاحى بقى من وش الباب بلا قرف.. يالا .

قال الأخيرة وهو يدفعها بقوة حتى كادت أن تقع على الأرض ، لتتسمر واقفة بذهول تراقبه حتى فتح الباب ودلف داخل منزله ثم صفقه بقوة أجفلتها وهي لا تستوعب هذه المعاملة الجديدة منه. 


❈-❈-❈


- انتى متأكدة من كلامك دا يا بدور؟

هتف بها راجح سائلًا ابنته بعدم تصديق ، وردت هي بلهفة 

- أيوة يا بوى زى ما بجولك كده والله، دا انا جافلة حالاً معاها دلوك، حن عليكم اللحجوها بسرعة.

تابع والدها وهو يحاول الإسنيعاب:

- طب هى مرمية فين دلوك؟ واللى اسمه زكى ده ساكن فين بالظبط ؟؟ .

رفعت عينيها للأعلى وانزلتها مرة أخرى بقلق كبير ونفاذ صبر لتحقيق والدها :

- يا بوى بجولك اللى اسمه زكى دا ساكن بره البلد عند الترعه فى البيوت اللى اتبنت جديد من غير ترخيص وسط الزراعات، دى حتى جريبة من ارض جدى زى ما جالى عاصم، وفوقية برضو جريب منه بس فى وسط الزرع مرمية ومتصابة.

تدخلت نعمات رافعة كفيها للأعلى بالدعاء؛

- يارب نجيها يارب، يارب نجيها .

- خلاص انا هتصل ب ياسر بيه الاول وهو اللي يشوف صرفة في الأمر ده.

قالها راجح وهو يتناول الهاتف ليتوقف فجأة سائلًا باستدراك: 

- انتى بتجولي ان عاصم عرف هو كمان يا بدور؟!

أومأت بهزة من رأسها تجيبه:

- ايوه يا بوي، ما هو كان معايا وسمع كل حاجة، وهو اللى نبه عليا اجرى بسرعة واجولك عشان تتصلوا بالبوليس وتلحجوها .

سألها ببساطة وقد ارتخت يداه الممسكة بالهاتف :

- وما اتصلش هو ليه؟ معهوش رصيد ولا وراه مشوار؟!

- تجصد ايه يا بوى ؟!

قالتها بعدم فهم قبل أن تستوعب المغزى من كلماته لتلطم على وجنتيها مرددة بجزع:

- يا مري، يعني هو هيكون راح ل زكي يا بوى؟

هتفت نعمات من خلفها :

- يكون! هو دا سؤال برضوا ينفع مع واحد زي عاصم يا خايبة؟ دا اكيد ياعين امك؟

سمعت بدور لتصيح مولولة:

- يا مرارى يامٌا، دا انا ما صدجت انه فك الجبيرة النهاردة ومشى على عصاية بدل العكاز، ولا دراعه دا كمان، حمل كسر جديد؟

نهرتها نعمات محذرة:

- بس يا بت ما تفوليش وادعى ربنا يسترها.

قال راجح بسأم وهو في انتظار الرد على اتصاله بالهاتف:

- طب انزلى بسرعة دلوك كلمى جدك، على ما اخلص انا اتصالى بال....... 

- الو ... ياسر بيه معايا؟


❈-❈-❈


وعودة إلى زكي الذي غمغم بقرف فور أن صفق الباب بوجه جارته: 

- ناس بيئة بصحيح، بس هانت .

دلف لداخل المنزل نحو غرفة النوم ، لينزل بالحقيبة على التخت، وفتحها بمزاج رائق وهو يصفر بفمه، لتقبض كفيه على رزم النقود والذهب الكثير أمامه، يردد:

- يا جمالكم يا حلاوتكم، كل دا دهبك يا انتصار؟ وكل الفلوس دى كمان بتاعتك؟ اَه، ريحتكم حلوه وترد الروح كمان، الله يرحمك يا فوفة، كنتي سبب السعد والهنا اللي انا فيه دلوقتي. 

قال الأخيرة وهو يتناول هاتفها ليفحصه ويخرج منه بطاريته، قبل أن يجفل على صوت باب المنزل وهو يطرق عليه بعنف، تمتم بسبة وقحة ليتابع زافرا بسخط:

- اه يا سحر ال...... ودينى لاكون مربيكى لو طلعتى انتى، 

خرج من غرفته نحو باب المنزل متوعدًا لجارته الفضولية، ليفتح ويتفاجأ بهذا الغريب الذي وقف مستندًا على إطار الباب بهيئته الضخمة يرمقه بنظرات الحادة فخاطبه زكي:

- نعم بقى، مين حضرتك؟

خرج صوت الغريب يسأله:

- انت زكى اللى بتسرح بالهدوم الجاهزة على البيوت؟

سمع الاَخير ليجيب بتفاخر وهو يمسك بياقة قميصه، نافخًا صدره:

- دا كان زمان يا حضرت، دلوقتي انا خلاص بطلت، ربنا فتحها عليا وهغير المجال .

سمع الاَخر ليهدر بعصبية ونفاذ صبر:

- يعنى انت متأكد ان انت زكى؟

ردد الاخر خلفه باستغراب:

- ايوه يا سيدي، بقولك زكى، إنت بقى مين؟.

- انا عاصم يا باشا.

قالها الاَخير وهو يجذبه من قماش قميصه ويباغته بضربة قوية بالرأس على جبهته، حتى جعلته يرتد فاقدًا التوازن بظهره للخلف، ليصرخ على أثرها بصدمة:

- إيه ه؟ إيه ده؟ هو انت اتجننت يا جدع انت ولا يكونش شارب؟ وكمان جاي تعرفني بنفسك؟ دا انت بينك ما تعرفنيش ولا تعرف مين هو ذكي؟

دلف عاصم بتحفز وعدم اكتراث، ليصفق الباب خلفه، يخلع عنه شال رأسه، ليشير بيده، يحدجه بأعين مشتعلة، وبصوت أجش بانفعاله:

- تمام يا غضنفر تعالى هنا بجى وعرفنى مين زكى؟

سمع زكي، ليسحب مديته من جيب بنطاله الخلفي بعد أن استعاد توزانه، ليهدر بها وهو يتقدم ويلوح بها بتهديد له:

- دا انت بينها راحت منك، ولا امك داعية عليك النهاردة، عشان تيجى تمد ايدك عليا فى قلب بيتى 

لوح له عاصم مرة أخرى مرددًا بجسارة:

- تعالى ياللا ورينى مرجلتك .

زاد زكي من تقدمه ليصيح بصوت عالي ينذر بنشوب الحرب:

- لا بقى، دا انت جيت لقضاك، وانا النهاردة مش هحرمك منها.


❈-❈-❈


بقلق بالغ قال راجح وأقدامه تهتز بعصبية:

- انا هتجن، يارتنى ما كنت تبعتك يا بوى وجعدت مطرحي في البيت، انا كان لازم اكون هناك دلوك .

رد ياسين وارتفعت عينيه عن المسبحة التي يخرج توتره بالتسبيح عليها:

- وبعدين معاك يا راجح، اتصبر يا ولدى .

تدخلت بدور هي الأخرى تقول بجزع:

- يصبر كيف بس يا جدى؟ احنا كلنا جلجانين، دا انا دلوك بس اتمنتيت ابجى راجل عشان مجعدتش كده حاطه على خدى مستنية 

شاكسها ياسين يقول بمكر:

- هو انتي لو راجل كنتي اتجوزتى عاصم يا بت:

شهقت بدور قائلة:

- يووه عليك يا جدى، باه .

قالتها بنزق وخجل شديد، وهي تبتعد بوجهها عن ياسين الذي طالعها بجرأة متلاعبًا بحاجبيه، وتدخلت صباح :

- خف شوية ع البت يا بوي، عاجبك كده يعني، اديك كسفتها.

بابتسامة متزايدة رد ياسين.

- خليها تتكسف احسن، انا عايز اشوف حمار الوش ده وهي مش جادرة تحط عينها في عيني. 

- وه يا حج ياسين، دا انت متفوتكش فوتة. 

قالتها صباح وهم هو أن يكمل ولكنه توقف منتبهًا

- طب استنى بس اشوف اللى بيرن، دا حربى.

سمع راجح ليعتدل بتحفز يقول بلهفة:

- طب رد بسرعه يا بوي، خلينا نعرف بأخر الاخبار. 

اشار إليه ياسين بكفه ليصمت قبل أن يجيب عن المكالمة:

- الو يا حربي...... ايوة يا ولدي.... اممم..... طب هى زينة دلوك؟..... اممم ..... وانت ورائف، جاعدين فين حالياً.... اممم .... ماشي يا ولدي ربنا يجدركم، ويطمنى عليك انت وواد عمك...... الله يباركلك. 

انهى المكالمة لتبادره نعمات بسؤالها:

- ها يا عمى لجيوها؟

اجابها ياسين مطمئنًا:

- لجيوها يا بتب، وهى لسه فيها الروح ودلوك هى فى الاسعاف والحكومة هى اللى هتتصرف معاها.

تمتمت صباح بالحمد مع البقية:

- الحمد لله، الحمد لله.

قال ياسين بتأثر

- بس حربى بيجول انها بت صغيره .. يا دوبك ١٨ ولا ١٩ سنة، ما تزيدش عن كدة.

عقبت نعمات بشفقة:

- يا حبيبتى يا بتي، عشان كده عرف يضحك عليها الزفت ده، منه لله .

- طب و عاصم يا جدى؟

سألت بدور وكان رد ياسين:

- محدش عارف الحكومة وصلتلوا ولا لساها فى السكه يا بدور ادعيلوا يا بتى.

- ياااارب .


❈-❈-❈


صوت الشجار من داخل المنزل المترافق مع اصوات الصرخات القوية ، كانت تدوي في الخارج، لتلفت نظر الجيران، وكل فرد يمر بالقرب منه، حتى تطوع بعض الافراد للطرق على باب المنزل لأجل معرفة ما يدور وفض الاشكال الذي يحدث، ولكن مع عدم الاستجابة اضطروا للوقوف موقف المتفرج مع البقية، حتى جارته سحر وقفت هي الأخرى تتابع ما يحدث مع والدتها التي سألتها بفضول: 

- هو ايه اللى حاصل جوا عند زكى يا بت؟

أجابت سحر تمط بشفتيها:

- أنا عارفه بقى، دا تلاجيه سرج سريجة ولا عمل حاجة عفشة مع اللى جاى يتعرك معاه فى بيته.

لكزتها والدتها بمرفقها على خصرها تخاطبها بتحذير:

- ليه بتجولى كده يا مضروبه الدم؟ عيب عليكي لحد يسمعك، هو كان عمل معاكى إيه عشان تجولي عليه كدة؟

ردت سحر بانفعال:

- جايب شنطة متعبية هدوم جديدة واتحايلت عليه عشان انجى منها لجهازي، لكنه مرضيش وزجنى، احسن يستاهل .

عقبت والدتها باستغراب:

- مش بعاده يعنى، دا احنا احسن ناس بنتعامل معاه، وديما بيبدينا على الكل.

- اكيد لجى زباين جديدة، دا يبيع ابوه بالجرش 

هتفت بها سحر قبل أن تتفاجأ بقول والدتها:

- سلاماً قولاً من ربٍ رحيم، ودول ايه اللى جايبهم عندينا؟

التفت سحر نحو الجهة التي تنظر لها والدتها، لينتابها الرعب وهي تراقب سيارة الشرطة التي تقتحم المنطقة عندهم وتخترق حتى توقفت بالقرب منهن، ثم تجد الظابط المسؤل يخرج رأسه من نافذة السيارة يخاطبها:

- تعرفى بيت زكى بياع الهدوم فين يا بت انتى؟ 

- ها 

تفوهت بها تلقائيًا، قبل أن تستدرك لتوميء بهز رأسها ثم امتد ذراعها نحو منزل المذكور بارتباك قائلة:

- هو دا يا بيه، اللى هناك ده .

اشار الظابط لسائقه بدون صوت ليتحرك بالسيارة يقطعا هذه المسافة القصيرة، لتعقب والدتها بعد انصرافهم:

- يخرب مطنك يا جزينة، دا انت باينك صح وزكى فعلا عامل نصيبة 


أما في الداخل 

فقد كان عاصم في هذا الوقت جالسًا على كرسي خشبي، يلف بشملته الصوف على يده التي أصيبت من مدية الاخر فور هجومه عليه، وقد تلقفها هو يتحمل الجرح، ليسيطر عليه بعد ذلك، بالضربات وباللكمات ، حتى اسقطه مصابًا على الأرض لا يستطيع الحراك، وناره لم تهدأ بعد، يتنفس بخشونة وهو يحدجه بغضب، قبل أن يجفل بدفعة قوية لباب المنزل الخارجي، لتدخل مجموعة من رجال الأمن، يتقدمهم الظابط الذي تسائل بعد أن جال بعينيه عليه ثم هذا الملقي على الأرض بإصابات متعددة، مستندًا بظهره على كرسيه قديم، وملامح وجهه غير واضحة من الضربات:

- مين فيكم زكى؟ ومين فيكم عاصم ؟

أجابه الاَخير بصوت حاد:

- انا عاصم والكلب ده...... يبجى زكى.

وقعت عيني الظابط على العصا الخشبية التي يستند عليها عاصم، ليعقب بدهشة وانظاره نحو زكي:

- ما شاء الله، امال لو بصحتك كنت عملت ايه ؟!!! .


❈-❈-❈


فى اليوم التالى 


بسعادة منقطعة النظير، وفرحة كانت تجعلها تعدو بخطوات مسرعة داخل طرقات المشفى التي يعمل بها حبيبها وكأنها تطير نحو حلمها، لقد انزاحت الغمة وانفك الكرب اَخيرًا، ليعود الحق لأصحابه ويتعاقب المتسبب في قطع فرحتها وفرحة شقيقتها، وتدمير وسرقة تعب وشقاء أبيها، مما كاد أن يتسبب في تشريدهم، لقد كان الله رحيمًا بهم، إذ وجد لهم المأوى بمنزل جدهم، عسى القادم يكون خيرًا بإذن.

بداخل القسم المختص بعمله أوقفت أحدى الممرضات لتسألها عنه:

- لو سمحتى الدكتور مدحت موجود فى مكتبه ؟

بابتسامة ودودة اجابتها الممرضة:

- أهلا يا دكتورة نهال نورتي، لو عايزة الدكتور مدحت مش هتلاجيه في مكتبه، ودا لأنه...... يا نهار أبيض، استنى.... 

هتفت بالاَخيرة بعد أن قاطعتها الأخرى حينما ركضت نحو المذكور فور أن لمحت طيفه خارجًا، من غرفة أحد المرضى، لتعدو هاتفة بإسمه بلهفة:

- مدحت يا مدحت، وحشتنى يا دكتوري، يا أحلى دكتور في الدنيا...

قالتها بضحكة صافية بملأ فمها، لتتوقف فجأة بصدمة، حينما تفاجأت بعدد من الاساتذة التي كانت تخرج من خلفه، يتبعهم يونس ومها أيضًا، ليزبهلوا أمامها بعدم فهم، انتابها الخجل والحرج بشدة حتى انها تمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها، أما هو فكان على العكس تمامًا، بل إن قلبه كان يرقص فرحًا بين جنبات صدره، رغم إشفاقه عليها :

- انا اسفة مكنتش واخدة بالى .

قالتها برأس مطرقة وأعين منخفضة أرضًا، رفعتها فجأة، حينما تفاجأت بذراعه التي التفت حول كتفيها بدعم، قائلًا:

- احب اعرفكم يا اساتذة، نهال طالبة فى كلية الطب عندنا ومراتى .

- مراتك !

قالها يونس باستنكار وعدم تصديق، فتابع الاخر بثقة:

- ايوه مراتى، مكتوب كتابنا وقريب الفرح ان شاء الله .

- الف مبروك يا دكتور .. الف مبروك يا دكتورة.

هتف بها العديد من الأستاذة وخلفها عبارات المودة والتهنئة القلبية الصادقة، وهو يرد بفرحة تغمره، مشددًا بذراعه عليها حتى تندمج معه، لتتخلص من الحرج وتشاركه الرد، حتى ذهبوا لمتابعة المرور على باقي الحالات ومعهم كان يونس الساخط، ومهما التي كانت تطالع نهال بنظرة حاقده، ومدحت يقابل نظرات الاثنان باستخفاف وعدم اكتراث، ليقترب من أذنها، فور مغادرتهم، ليهمس لها:


- اسبجينى ع المكتب دلوك، وانا هخلص مرور معاهم واجيلك هوا


❈-❈-❈


بعد قليل وبعد انتهائه من جولة المرور بصحبة الاساتذة على بعض الحالات الضرورية ، دلف داخل مكتبه، ليجدها في انتظاره كما طلب منها، شعر بتسلية غير طبيعية وهو يرى حالة الحرج مازالت مرتسمة بقوة على ملامح وجهها، ليكتم ابتسامة ملحة وهو يجلس على الكرسي المقابل يدعي الجدية في مخاطبتها:

- ايه يا نهال، دا موقف تحطينى فيه؟

كطفلة صغيرة أذنبت، ردت وهي تتلاعب في دفتر محاضراتها، بدون أن تجرؤ على رفع عينيها لمواجهته:

- انا اسفة مكنتش اعرف ان عندك مرور مع الأساتذة. جريت عليك بلهفتي وخدت الكسفة لما فوجئت بيهم.

قالتها وانتظرت ردًا ولكن لم يحدث حتى رفعت عينيها إليه لتفاجأ، بنظرته التي تخترقها، بابتسامة واسعة شجعتها لتخرج بضحكتها المكتومة، لتصدر بصوتها المميز، حتى شاركها الضحك هو الاَخر ليتمتم:

- يا مجنونة.

عضت طرف شفتها لترد:

- انا شكلى كان زباله صح؟

اجابها بمرح:

- اى نعم هو كان موقف محرج، بس انا فرحت جوى بيكي وبالموقف نفسه.

تبسمت بتوسع لتنطلق بروح الحماس التي يعشقها في الحديث معها:

- بس شوفت الصدمة بانت ازاى على الدكتورة مها اللى كانت بتبصلى من فوج لتحت، دي كان هاين عليها تولع فيا.

اومأ برأسه موافقًا وهو يضحك قبل أن يقارعها بالرد:

- أيوه طبعًا، زى ماشوفت الصدمة اللى شلت يونس، وخرسته عن الكلام طول فترة المرور بعد كدة.

توقفت الابتسامة على ثغرها بتوتر لقوله، ولكنه تابع :

- شوفى يا روح جلبي، عايزك تنسي مها خاالص زى انا ما هنسى يونس عشان نكمل مع بعض بهدوء ومن غير نكد ماشى .

هزت برأسها بموافقة وابتسامتها عادت مرة أخرى لتردف:

- ماشى .

- شاطرة

قالها ثم استطرد بمكر رافعًا حاجبه:

- طب انا نازل البلد انهاردة ابارك لعمى، هتنزلى معايا بجى ولا مش فاضية وعندك محاضرات. 

شهقت مرددة بفرح:

- ازاى يعنى مش فاضية؟ هو انت بتهزر؟ أي حاجة ممكن تتأجل طبعاً، لأن أنا لازم انزل البلد النهاردة واشوف الفرحه فى عيون ابويا وامى، هي دي محتاجة كلام .


❈-❈-❈


في المساء 

كان المنزل الكبير، ممتلاءًا، بأفراد العائلة التي اجتمعت حول ياسين في وسط الصالة الكببرة، وبجواره كان راجح ابنه جالسًا، يحضن طفله الصغير ياسين، في جو عائلي حميمي، صاخبًا بالسمر وضحكات الشباب ومزاحهم حول ما حدث:

- بس كله كوم يا جدى ومنظر انتصار النهاردة وهى داخله قسم الشرطة برجليها بتزعج وعايزة تعمل محضر سرجة ل فوقيه كوم تاني، تحس الولية كانت هتنزل عليها جلطة، و انا بجي زدت عليها لما جولتلها، هو انتى جاية لو حدك منغير ما حد يبعتلك، دا انت باينك مكشوف عنك الحجاب.

قالها رائف ليختم بضحكات عالية، أضاف حربي على قوله:

- دي ساعتها باصتلك حتى بصة يا واد يا رائف، تحسها كدة كانت عايزة تولع فيك.

انطلقت ضحكات الجميع مع قول رائف:

- ايوه صح، ما انا خدت بالي، بس دي تلاقيها بتدعي عليا دلوك .

تدخل سالم بينهم بقوله:

- يا واد كفاية انت وهو، إيه؟ لساتكم ما شبعتوش كلام وحديت عنيها؟

رد رائف يجادله:

- نشبع كيف يا عمى؟ دا منظر صراخها والعسكرى وهو بيجرها ع الحبس بعد ما اتصدمت بالجرايم اللى عليها، كان مسمع فى المديرية كلها.

عقب ياسين 

- الله يخرب مطنك يا شيخ، ما تصدج تلاجيلك حكيوة، عشان تحكي وتتحاكى فيها.

شاكسه رائف بصوت عالي؛

- حبيبى يا جدي .

خلف عنقه طرق والده بكف يده يدعي الحزم بقوله:

- ما تتعدل يا واد انت واكبر بجى، هتفضل كده على طول بعجلك الصغير ده؟

هتفت نيرة بشماتة وفرح:

- اديلوا يا بوى، اديلوا كمان .

فاجئها مدحت شقيقها يقلد فعل والده عليها:

- طب ما اديلك انا كمان وتبجى زيه .

ضحك الجميع على صدمة نيرة التي ازبهلت تناظره بعدم تصديق، وعقب ياسين بفرح؛

- اللهم ما اجعله خير، ربنا ما يحرمنى منكم، ولا من لمتكم حواليا .

أممم الجميع خلفه، ليتبعوا بالدعاء له، وقال راجح :

- ألف حمد وشكر ليك يارب، يلعن ابو الحزن .

خرج صوت تهال لتخاطب والدها بفضول:

- يعنى على كده انت خدت الفلوس كلها اللي اتسرجت، والدهب كمان يا بوى .

ردت والدتها:

- لا لسه يا بتى، أصله بيجولك إن لازم تبجى فيه اجراءات بتعملها الحكومة جبل ما ابوكي يستلم .

تدخلت بدور هي الأخرى 

- طب انت لما شوفت الفلوس لجيتها كاملة ولا ناجص منها كتير ؟

- لا يا بتى الحمد لله مش ناجص كتير، اللى شوفتهم مع الظابط النهارده زنين جوي، ما هو ما لحجش يتصرف فيهم والبركه فى البطل اللي لجمو جبل ما يهرب بيهم، ربنا يحرسك لشبابك يا ولدي،

قال راجح الاَخيرة، بإشارة نحو عاصم الذي رد بدوره:

- العفو يا عمي، ما بلاش كلامك ده الله يخليك. 

تدخل سالم يقول:

- طب مدام جبت سيرة البطل بجى يا عم راجح، يبجى عاد لازم توفى بوعدك معانا ونجوزهم فى الميعاد، ولا انت عندك رأي تاني كمان؟

الفصل الاخير 


- احنا الصعايدة يا احنا.......احنا نعمر فرحنا.

احنا الصعايدة وكالين الضانى....... البت حلوة والولد شرانى .

إحنا الصعايدة الفتوى....... ناخد العين اللي من جوا

إحنا الصعايدة يا إحنا......... إحنا نعمر فرحنا.


أصوات الغناء المختلطة بالضحكات الصاخبة بدلع مع بعض التعليقات الجريئة من زوج المصائب كما أطلقت عليهن من وقت أن اجتمعوا خصيصًا من أجل هذه المناسبة السعيدة، لتبتلى بأزعاجهن المتواصل، حتى تنهض اليوم من بكرة الصباح، برغم رأسها المثقل، نتيجة سهرة ليلة الحناء أمس التي ظلت لقرابة الفجر.


- يكونش الاغنية مش عجباها؟ ولا صوتنا احنا اللي مش واصلها؟

- خلاص نبجى علي الصوت أكتر في الأغنية دي، ولو منفعتش معاها نبجى نغير.

- وانا من رأي كدة برضوا .

احنا الصعايدة يا احنا.......احنا نعمر فر....

- بببببببس.

هتفت بها بصيحة وهي نرفع رأسها عنوة، حتى استلقت بنصف نومة، ونصف جلسة على الوسادة خلفها، لتتكتف بذراعيها، تطالعهن متجهمة الوجه، عاقدة الحاجبين، شعرها المشعث من أثر النوم، وبفمها تزفر بغيظ ، فكانت النتيجة منهن هو المزيد من الضحكات مع مزحات ثقيلة وبعضها تتخطى الجرأة، عن هيئنها المزرية في الصباح، والحظ الأسود لهذا المسكين الذي سيتزوجها ويبتلى بها:

- يا عيني عليك يا مدحت اخويا، صبرت صبرت عشان يجي حظك على نهال .

- بس يا بت زهرة متقوليش كدة، دا اختي بدر في تمامه، هي بس بتبجى مخربطة شوية ساعة ما تصحى .

- وشها بس يا بطة، طب وشعرها، ما هو مخربط هو كمان.

قالتها وانطلقن بالضحكات مرة أخرى يشاكسنها بتسلية، حتى استسلمت نهال لتخاطب شقيقتها بقهر وهي تحارب النعاس فوق أجفانها:

- طب هي تبجى اخت العريس يا ست بطة، ولو اتريقت مش عليها كلام، أنا بجى مش اختك انتي؟! يعني معندكيش مرارة تدافعي عني، على الأجل ما تتريجيش عليا.

جلجلت بطة بضحكة رقيعة تقصدها لتزيد بمناكفة شقيقتها الصغرى:

- لا ما انا معروف عني الندالة، يعني امبارح ارجصلك في حنتك والنهاردة اتمسخر عليكي عادي، واجف في صالح ابن عمي الدكتور؟ ولا انتي إيه رأيك يا زهرتي؟

ردت الأخرى مندمجة معاها:

- انا معاكي يا نور عيني، دا انتي جاية مع جوزك وعيالك من مطروح عشان كدة، وهو في أحلى من الندالة؟

- بصراحة لأ

قالتها بطة لتنطلق زهرة ابنة عمها ضحكة عالية هي الأخرى مرددة:

- حبيبتي يا بطة، وحشتيني ووحشتني أيامك يا غالية، ابو الجوزا اللي فرجنا، كل واحدة في بلد .

ردت الاخيرة بحنين:

- اه والله صدجتي، بس ادينا اها اتجمعنا من تأني، لا وكمان بجينا نسايب با بت عمي، اخوكي فرحو الليلة على اختي.

همت زهرة لترد ولكن نهال سبقتها بصوت ضعيف وقد أوشك أن يغلبها النعاس، ورأسها أسقطت للأمام:

- ما تطلعوا بجى وتكملوا وصلة الحنين دي... برا الاؤضة.

بشهقة عالية أجفلت نهال هتفت شقيقتها متصنعة الجدية:

- نكمل برا؟! دا انتي معندكيش دم صح، يا بت دا انا بعبر عن سعادتي بفرحك على واد عمك، بجى دا ميأثرش معاكي؟

طالعتها نهال بعدم استيعاب لتستغل زهرة ذلك وتزيد عليها:

- بتقولك أن النهاردة فرحك يا عروسة اخويا يا جمر انتي، إيه مش فرحانة يا عسل؟

- فرحانة فرحانة والله.

رددت بها وهي تومئ بهز رأسها حتى ترضيهن ، ليفاجأنها بالتصفيق بكفوفهن ويعُدن بالغناء:

- اَخر ليلة فى بيت ابوكي، اَخر ليلة فى بيت ابوكى.

إلى هنا وقد فاض بها لتصرخ بهن بلهجة أقرب للبكاء:

- حرام عليكم ، والنعمة حرام، الساعه لسة سبعة يا مؤمنين، يعنى انا مكملتش ساعتين نوم بعد ليلة امبارح اللي استمرت للفجر، هو انتوا مش كنتوا سهرانين زيي برضو؟ ايه مبتتعبوش؟

بكف يدها خبطت بطة شقيقتها على عظام صدرها، تدعي التأثر قائلة:

- يا حبيبتى يا أختي، هو انتى هتبكى عشان تنامى؟

غمزت زهرة بطرف عيناها تعقب:

- أعذريها يا بطة، اصلها لسه ع البر.

ختمت بضحكة خبيثة شاركتها الأخرى بها، قبل أن تصيح بهن نهال بصوت اعلى من السابق:

- وغلاوة عيالكم سيبونى انام، ابوس ايدكم يا بشر، سيبونى انام .

- خلاص خلاص، ادينا ماشين اها، كملى نوم براحتك، يا للا بينا يا زهرتى.

قالتها بطة وهي تستدير لتسحب الأخيرة معها في الخروج، ويرددن بالغناء والتصفيق مع هز أكتافهم:

احنا الصعايدة يا احنا....... احنا نعمر فرحنا.

احنا الصعايدة الفتوة....... ناخد العين اللي من جوا.

زفرت بتزمر وهي تتبعهم وتتبع اصواتهم حتى اختفت عن أسماعها، لتنزل تحت الغطاء وتجذبه عليها حتى تعود للنوم .

ولم تمر عشر دقايق حتى تفاجأت بمن تنضم معها في الفراش،  همت أن تعترض صارخة هذه المرة، ولكن بدور سبقتها:

- والنبي يا شيخة ما تتحركى، وخليكى نايمه عشان انا كمان عايزة انام، انا ما صدجت هربت من الثنائى المرح.

- هما عملوها معاكي انتي كمان؟

قالتها نهال بيأس لتتابع قبل أن يغلبها النعاس:

- مفيش فايدة منهم، نامى يا بدور نامى .


❈-❈-❈


- خدوا هنا رايحين فين؟ تعالو معايا تعالوا

هتفت بها سميحة بصوت خفيض كالهمس، وهي ترفع الطفلة ذات العالمين عن الأرض، وتسحب بيدها الولد ذا الخمس سنوات، قبل أن يتمكنو من فتح باب الغرفة التي ينام بها عمهم العريس، ليصدر صوتها فور ان ابتعدت بمسافة كافية في الصالة التي يجلس بها سالم زوجها، مع بلال ابنها البكر وامرأته، والتي خاطبتها قائلة:

- كده برضوا يا مرفت يا بتي، انا مش منبهه ومشددى عليكي تاخدي بالك من العيال دي!

ردت الأخرى بلهجتها القاهرية تسألها بعدم فهم:

- فى ايه بس يا ماما ؟ هما عملوا إيه الشياطين دول؟

جلست سميحة لتجيبها وهي تجلس الطفلة الصغيرة على حجرها:

- المصايب دوب للمرة التانية اسحبهم جبل ما يفتحوا اؤضة عمهم عاصم، وانا ما صدجت عينه غفلت بعد سهره الليل كله.

عقب بلال ضاحكًا:

- ويعنى انتى ياما مفكرة، انه هيصحى منيهم؟ دول لو طبلوا جمبيه حتى، برضوا مش هيحس بعد العمايل اللى عملها امبارح بالرقص بالعصاية وع الحصان .

قال سالم ضاحكًا:

- فرحان يا ولدى، هو كان يتوقع انه ياخد اللي بيحبها، أو أن الفرح يتم فى ميعاده، بعد ما راجح دج راسه انه يكمل البيت الاول وبعدين يجوزهم.

رد بلال :

- بس الحمد لله يا بوى، عمي نفذ ورجع البيت احسن من الاول كمان.

تدخلت سميحة بقولها:

- ويعني كان عاصم سايبه لوحده؟ دا كان واجف معاه يد بيد، من أول الأساس لحد التشطيب ودخيل العفش والسكن فيه.

عقب بلال على قولها ضاحكًا:

- ما هو برضو عشان مصلحته ياما، ولولا وجفته دى، مكانش الفرح تم فى ميعاده!

تمتم سالم برضا:

- الحمد لله، يا للا بجى ربنا يتم فرحته على خير.

تدخلت ميرفت زوجة ابنه الأكبر بلال قائلة :

- بس بصراحة ليلة الحنة امبارح كانت جميله جدا ولا الخيال، البنات العرايس كانوا قمامير وعاصم والدكتور ابن عمه، الرقص اللى رقصوه بالاحصنة كانت حاجة خرافه بجد.

- دا اول فرح تحضريه معانا من ساعة ما اتجوزتى بلال، تلاجيكى اول مرة كمان تشوفى ليلة صعيدي كده طبل وزمر وحصنة. 

قالتها سميحة كسؤال، وردت الأخرى:

- بصراحه انا شوفت كتير عندنا فى القاهرة زي كدة، بس دي اول مره اشوف واحد بيرقص ع الحصان، عملها ازاى عاصم دى؟ دا ماشاء الله متمكن .

- عشان فارس والمدرب بتاعه كان اكتر منه، ولا انتي مخدتيش بالك مين اللي دربه من الأساس؟

قالها بلال بمكر، فردت هي تغلبه بزوقها: 

- لا ازاى يا باشا؟ دا انت المدرب، و الكل فى الكل كمان.

سمع منها بلال ليتمتم ضاحكًا لها:

- ايوة كدة اللحجى نفسك .


❈-❈-❈


في منزل عبد الحميد، والد العريس الاَخر مدحت، جلس الرجل يتناول وجبة إفطاره مع زوجته راضية، والتي سألها باستغراب:

- خبر ايه يا ولية؟ هنفطر انا وانتي لوحدينا، طب والعيال؛ مفيش حد فيهم صحى يجوم يفطر معانا؟ 

ردت راضية:

- معلش بجى يا ابو العريس، افطر لوحدك النهاردة، حكم زهره بتك الكبيرة، طلعت الصبح بدرى وراحت بيت عمها راجح، عشان بطه صاحبتها، انتي عارف روحهم في بعض كيف؟ ورائف ولدك الصغير نايم في بيت جده مع باجي شباب العيلة فى المندرة، والعريس اسم الله نايم هو كمان، بس في أوضته.

تسائل عبد الحميد عن الاَخيرة من أبناءه:

- طب ونيرة؟ هى كمان نايمه زي خواتها؟!

اجابته راضية:

- نيره انا بعتها بيت جدها بحليب الصبحية، ما انت عارف البيت هناك مليان ما شاء الله بالضيوف وعيال بت اختك اللي بيزوروا البلد أول مرة.

عقب عبد الحميد ضاحكًا:

- أيوة والله فكرتيني، دا العيال كبرت وكبروا بت اختي معاهم، حكم انا بقالي سنين ما شوفتهاش.

اضافت على قوله راضية:

- أنا نفسي معرفتهاش في البداية، بس صباح اختك الفرحة مش سايعاها بيهم .

ردد عبد الحميد:

- مش عيال بتها الوحيدة ومتغربة عنيها .

ربنا يفرحها بيهم يارب 


-❈-❈-❈


- صباح الخير يا جدي.

هتفت بها نيرة وهي تقترب لتجلش بجواره في مكانه المفضل على أريكته أسفل عرش الكرم في الحديقة، جذبها من ذراعها، ليضمها ويقبل رأسها قائلًا

- يا صباح الهنا والجمال، ايه اللى صحاكى بدرى كده يا عين جدك؟

بابتسامة جميلة منها ردت نيرة:

- أمى بعتتنى اجيبلكم حليب الصبحية يا جدي، عشان فطار الجيش اللى عندك، ما شاء الله يعنى، اللهم لا حسد ويزيد ويبارك يارب.

قالتها ليبادلها ياسين الابتسام قائلًا:

- والله فيها الخير انها افتكرت، دا انا كنت شايل هم الموضوع ده، عشان البقرة عندي على مولاد، وبطلنا الحليب منها، أديلنا شهر، بس برضوا امك جلابة محدش يعرفلها مرسى ..

أومأت برأسها قائلة بضحك:

- بصراحة عندك حج يا جدي، انا نفسى باحتار فيها احيانا، لكن يعني، هي ممكن تكون شديدة في معظم الأحيان وتصر على رأيها، بس كمان مش عفشة، هي كل تفكيرها في المصلحة، ان كان ليا أو لأي حد من اخواتي.

- اه يا ستي صدجتي فيها دي.

تمتم بها ياسين قبل أن ينتبه على قولها:

- ممكن اسألك سؤال يا جدى وما تزعلش منى:

سألته بتوجس، وكان رده بابتسامة صافية مشجعًا:

- اسألى يا عيون جدك ولا يهمك، أنا عمري ما ازعل انا منك، مع اني مستغرب يعني، هو السؤال هيكون على أيه بالظبط؟

شجعت نيرة نفسها لترد:

- بصراحة يعني هو سؤال ومحيرني، كيف انت كنت بتحب عمتي رضوانة حسب ما سمعت، وكيف انت يجيلك جلب تطلجها؟

تنهد ياسين بعمق ما يحمله بداخله من ذكريات طلت فجأة برأسه مع ذكر من أحبها بالفعل، فتبسم باتساع، قبل أن يجيبها بإعجاب

- اممم، شوفى يا عيون جدك، انا هجاوبك بصراحة عشان انتى كبرتى وبينك كمان عجلتى، الحب دا من عند ربنا، وانا جلبى اتعلج برضوانة، بعد ما اتجوزتها .. وانا مطلج نحمدو اللي كانت ام العيال، زي ما انتي عارفة.

رضوانة كانت صغيرة وجريئة مش مكسورة زى ما انتى شايفاها دلوك، بس كانت راسها ناشفة، وانا كان طبعى حامي ما اتحملش ولا اتهاون مع حد يراجعني أو مسمعيش كلمتي، حتى لو كان الشخص ده روخي فيه، ولذلك مجدرناش نكمل واحنا بنعاند بعض، واتفرجنا وكل واحد راح لحاله، انا رجعت لام ولادي، وهي اتجوزت واحد غيري من ناسها، لكن رغم كدة عمرى ما نسيتها في كل السنين اللي عدت في بعدها عني، واى خبر عنيها بيسعدنى ويزعلنى فى نفس الوجت .

تسمرت نيرة تطالع جدها بازبهلال وكأنها ذهبت لعالم اخر، باستيعاب كل ما أردف به.

استغل ياسين شرودها، ليناكفها بالطرق بكفه على خدها بخفة قائلًا:

- مالك يا بت؟ تنحتى كده ليه؟ 

هزهزت برأسها ثم أطرقت بخجل، قبل أن ترفع عينيها نحو من قدم إليهما يخاطب ياسين، بلكنة غريبة عنها:

- صباح الخير يا جدى، هو انت قاعد هنا واحنا بندور عليك جوا؟

طالعت نيرة الشاب الوسيم بملامحه، فقد كانت هذه أول مرة تراه عن قرب، ورد ياسين 

- وه، وائل واد الغالية، تعالى يا ولدي، اجعد جاري عشان اعرفك كمان على بت خالك، دي نيرة بت عبد الحميد ولدي، دي أول مرة تشوفها صح؟

- صح جدًا يا جدي.

تمتم بها وائل وهو يشاركهما الجلوس على الاريكة، ثم تابع:

- وكنت هشوفها ازاي بس؟ دا انتو امبارح كنتوا عاملين حاجز ولا السور العالي، تفصلوا بيه الرجالة عن الستات فى الفرح.

- دي عوايدنا يا حبيبي.

قالها ياسين بتفاخر، تقبله وائل بابتسامة ودوده، ليرحب بالأخرى:

-اهلا يا آنسه نيرة، مش انتي اَنسه برضو؟.

قال الأخيرة وامتدت كفه نحوها ليبادلها المصافحة، اومأت بهزة من رأسها، تؤكد كلامه، فتابغ ضاحكًا:

- اصلك صغيرة اوى ع الجواز.

أخجلها بقوله، حتى أنها لم تجد ما ترد به، لتفاجأ بقول حربي الذي واصل للتو، يتحدث بوجه عابس، وانظارده تتنقل بين الاثنين:

- هى مين اللى صغيرة؟!.

تبسم له وائل يقول بترحيب:

- اهلا يا حربى تعالى اقعد معانا .

إشتعلت أعين الاَخر، وهو يجد هذا المدعو وائل وهو يقترب من نيرة، كي يفسح له مكانا بجوارهم، فصاح منفعلا:

- اجعد فين معاكم في المكان الضيج ده؟ جومى يا بت شوفى وراكى ايه؟.

أجفلت نيره بقوله، فتمتمت هامسة لجدها بغضب:

- شايف يا جدى عمايله وكلامه اللي زي الدبش في آحراجي؟ يعنى احرجوا انا كمان دلوك جدام الناس الغريبه؟

ربت ياسين بكفه على يدها، يقول بتهوين:

- معلش يا بتي، جومى انتى تجنبًا للمشاكل وانا هشوف حسابى بعدين معاه الواد ده.

سمعت نيرة ونهضت على الفور ، لتغادر بدون أن تعيره أدنى اهتمام في الرد عليه، ولكنها وما أن تقدمت بخطوتين حتى التفت نحو وائل تخاطبه بابتسامة مغتصبة:

- تشرفنا يا استاذ وائل نورت الفرح .

رد الاَخير على قولها بابتهاج:

- والله دا انا اللى اتشرفت وفرحت بليلة الحنة الجميله دى، عقبال ليلتك يارب.

بادلته الإبتسام مرددة له التهنئة قبل أن تغادر أمام أنظار حربي المحتدة بدون سبب، وياسين المتابع لكل ذلك بعدم رضا لفعل حربي، واسلوبه الأحمق مع ابنة عمه، تجاهل مؤجلًا النظر في هي هذا الموضوع، ليخاطب وائل:

- مجولتليش با ولدي، ناوي بجى تحضر معانا لبلة الدخله النهاردة فى القاعة؟

على الفور رد وائل بحماس:

- طبعاً يا جدى، دا انا متشوق قوى احضر فرح العرسان اللى يجننوا دول 


❈-❈-❈


روعة العشق تكمن في النهايات السعيدة

وما أجمل الفرح حينما يأتي بعد تعب ومشقة.


في القاعة التي امتلأت بالأهل والأحباب والأصحاب الذين أتو من كل حدب وصوب للتهنئة ومشاركة العروسان فرحتهم 

فرحة من القلب، لا تساويها كل كنوز العالم أجمع.

تلك التي كان يشعر بها أربعتهم، حتى تخطت الحدود وبدت واضحة بقوة في نظرات العيون والهمسات الرقيقة برقصاتهم الهادئة على أنغام الموسيقى الرومانسية الجميلة، والعيون تنقل أجمل الكلمات واروع الإحساس 

أحساس اتنقل لكل الواقفين أو المتابعين بجلساتهم فوق مقاعدهم، مع أغنية تعبر وبقوة عن عشق عاصم ل بدور وهيام مدحت الطبيب بابنة عمه الطالبة معه نهال. 


❈-❈❈


في معظم الأحيان يكن العند نوعًا من الغباء، خصوصًا حينما نجبر أنفسنا على تجاهل ما تصرخ به مشاعرنا، وما يريده القلب، حتى وأعيننا تفضح ما بداخلنا

في ظل انشغال معظم الحضور والعروسان والإندماج مع رقصتهم البديعة، كان هو الوحيد الذي ينظر بجهة أخرى، يتابعها بعيناه، كالصقر يقتنص كل هفوة منها ليزيد اشتعاله بالغضب وهو يراها تتمايل بحالمية مع صديقات نهال ابنة عمه، نهى وبثينة، حيث كنا مندمجات مع كلمات الأغنيه وخطوات العروسان.

تعصف به مجموعة من المشاعر المختلطة، شعور بالغيظ مع أعجاب يحاول إنكاره وبكل قوة، مع رغبة ملحة بداخله كي يذهب إليها ويسحبها حتى لو استدعى الأمر أن يجرها من شعرها، حتى يجلسها على مقعدها كي تلتزم الأدب، وتكف عن هذه الافعال التي تجذب الأنظار إليها

- شيل عينك شوية من على البنتة، نظراتك مكشوفة ومفضوحة يا جزين.

قالها ياسين بخبث ليقطع عنه شروده، ليناظره الاَخر بإجفال لعدة دقائق، قبل أن يستفيق لنفسه ويرد بعدائية:

- يعنى عاجبك يا جدي عمايل بت ولدك؟ وهى لابسة المحزق وشغاله تتمايل ولا هممها نظرات الناس؟

طالعه ياسين بطرف عيناه يصدمه بقوله:

- وانت مالك يا اخي؟ ما تلبس اللي عايز تلبسه ولا تعمل اللي عايزة تعمله، كنت ابوها انت ولا اخوها ياك؟

كز على أسنانه يكظم غيظه بعد أن افحمه ياسين برده الصادم، واشتعلت عيناه من جديد، حينما انتبه لهذا المدعو وائل، وهو يقترب منها ويسألها هامسًا في أمر ما، ليجعلها تضحك ويشاركها هو الضحك، إلى هنا ولم يقوى حربي على السيطرة على رد فعله وجموح لسانه ليهتف:

- طب يعنى عاجبك دلوك الهزار الماسخ مع اللى اسمه وائل ده كمان؟ اللى كل شويه الاجيه يتلزق عنديها هى والبنته .

اعتدل بجذعه ياسين إليه ليواجهه بجلسته تاركًا متابعة فقرات الحفل يسأله بحدة:

- وما يهزر معاها يا اخي، انت ايه دخلك؟ مش يمكن عاجباه وعايز يتجوزها

- يتجوزها!

خرجت منه الكلمة بقوة مع انتهاء الأغنية الرومانسية ورجوع كل عريس بعروسه إلى أماكنهم المخصوصة ع المنصة.

ليتابع بصدمة وعيناه تتنقل ما بين جده، ونيرة وهذا المدعو وائل:

- يعنى هو هيسيب بنات اسكندرية بحلاهم وجمالهم، عشان ياجي هنا ويتجوز نيرة!

طالعه ياسين بنظرة أربكته يعقب:

- أيوة يا خوي بحلاهم وجمالهم، وبرضو ممكن يعملها مدام عجباه زي ما انا شايف، وخليك انت كدة ارميلها دبش بلسانك كل ما تشوفها بس ما ترجعش تندم لما تلاجيها راحت منك .

ابتلغ ريقه بتوتر ليرد باعتراض، وكأنه ينفي عنه تهمة:

- إيه اللى انت بتجوله دا يا جدي؟ وانا مالى بيها اساساً؟

- خلاص انت حر .

قالها ياسين ببساطة مع اهتزاز كتفيه بعدم اكتراث، قبل أن يعود بجذعه لوضعه الأول في جلسته، اتجاه الحفل وفقراته ، ليترك الاَخر تأكله الظنون والأفكار العديدة، وقد افترض أنه حقيقة يرفض تصديقها

.....

على طاولة قريبة من منصة العرس كانت تضم مجموعة من أفراد العائلة، انضم بها صديقات نهال، نهى وبثينة حيث كن يشيرن إليها كل دقيقة وعلى أتفه الأشياء بتعبير صارخ عن فرحتهن بها، ونيرة تشاركهن، وتفعل المثل مع صديقتها بدور هي أيضُا.

سألتها بثينة بفضول:

- قوليلى يا نيرة، هو مين الجدع دا اللى كل شوية يجى يكلمك ويهزر معاكي؟

ردت نيرة بسؤال أيضا:

- انت جصدك على وائل؟

- وكمان اسمه وائل؟ يا حلاوة، دا قريبك ولا معرفة؟

قالتها بثينة بمرح، لتجيبها نيرة وهي تشير بإبهامها، نحو الجهة الأخرى من الطاولة، حيث مجموعة من النساء :

- جريبي طبعً، شايفين الست الحلوة دى اللى جمب عمتي صباح، اهى دى تبجى بنتها اللى متجوزه فى اسكندرية، ودا وائل ابنها اكبر ولادها .

تدخلت نهى تدلي برأيها:

- ما شاء الله، تصدجي فيه شبه منها.

اضافت على قولها بثينة:

- لا وشكله كدة معجب بنيرة. 

- معجب بيا انا ليه يعنى؟

هتفت بها نيرة بعدم تصديق، وقالت بثينة مؤكدة:

- ايوة يا بنتى دا حتى باين اوى من نظرته ليكي.

- مش لوحده! على فكرة الجدع اللى هناك ده برضو عينه متشالتش من عليكى من اول الفرح .

قالتها نهى بإشارة خفية برأسها نحو حربي، لتقع عيني نيرة عليه ثم صرفت بنفسها عنه معقبة:

- لا دا سييبك منه وافتكرى حاجة عدلة، دا تلاجيه عايز يتخانج معايا .

رددت بثينة باستغراب:

- يتخانق معاكي، كده من غير سبب؟

- ايوه من غير سبب، هو كده !


❈-❈-❈


وعلى منصة العرس، وبعد أن استقروا على مقاعدهم ، لتهل أفواج المهنئين من الأصدقاء والأحباب، فظل العريسان على قدميهم وقفان لقرابة الساعة يلتقفوا التهاني والمباركات والتقاط الصور التذكارية. 

عاصم والذي جلس اخيرًا ليريح قدميه، فاتحًا ازار سترة حلته الأنيقة، انتبه على نظرتها ليسألها:

- إيه مالك بتبصيلي كدة ليه؟

بابتسامة عريضة ردت تجيبه:

- أصل شكلك حلو جوي بالبدلة يا عاصم.

شاكسها رافعًا حاجبه بخطر يقول:

- يعني انا عاجبك ، وانتي كمان اللي بتتغزلي فيا يا ست بدور؟ لا دا انتي بابنك نويهالي النهاردة.

ختم الأخيرة بغمزة وابتسامة متوسعة جعلت بدور تضحك قائلة بتحذير:

- بطل تغمزلي يا عم انت، هتبان في الكاميرا. 

ذهبت أنظاره نحو ما تذكر ليعود إليها وعيناه تجول على جمال وجهها الفتان وما ترتديه من فستان أبيض يجعلها كاميرة في الخيال، يشعر أنه في حلم بعد أن تحقق المستحيل بالارتباط بمن يعشقها، ويرى أيضًا عشقها له في نظرة عينيها إليه، فقال يداعبها:

- يعني بتنكشيتي وبعدها تجوليلي خلي بالك من الكاميرا، ماشي يا بدور، خلي الغمزة بعدين، وجتها جاي جريب جوي، خلاص هانت

سمعت منه وكان ردها ضحكة كبيرة، تحاول لململتها بحرج منه


❈-❈-❈


وفي الجهة المجاورة

كان مدحت يحاول لصلح نهال التي غضبت منه بفعل غيرته الغير محدودة، حتى مع أقرب الأشخاص إليها. 

- خلاص بجى، فكي التكشيرة دي وصالحي حبيبك.

ردت نهال وعيناها في لأمام تتجنب النظر عن قرب إليه حتى لا تضعف:

- يعني انت عايزني كمان اصالحك، بعد ما زعلتني وأحرجتني جدام اختي وجوزها؟

بلطف مبالغ فيه همس يجيبها:

- والله انتي عارفاني بغير وجوز اختك بجى هو زودها معاكي، فلازم تعذريني

التفت إليه باستغراب وقد أنساها برده الهادى حلمها:

- على فكرة جوز اختي مش غريب عليا وانتي عارفه، هو دايما بيهزر ويضحك معايا لأنه معتبرني زي أخته الصغيرة وانا شايفاه اخويا الكبير، انت بجى تجرص على يده بعصبية ليه؟ كان عمل ايه يعني؟ عشان بس حط ايده على كتفي بسلامة نية واحنا بنتصور، واختي بطة كمان معانا!

رد ببساطة تغيظ:

- والله انتي عارفة حبيبك بيغير عليكي من الهوا، يعني عودي نفسك.

تسمرت تطالعه بازبهلال وقد أوقف الكلمات بحلقها، واحتارت بما ترد عليه، اقترب منها بابتسامة رائعة يتابع:

- أيه؟ عندك رأي تاني؟

ابتعدت بوجهها تحاول إخفاء ابتسامة ملحة لتدعي الحزم بقولها:

- مهما حاولت تبرر لنفسك برضو مش هصالحك

- خلاص اصالحك أنا.

قالها واقترب برأسه منها يهم بتقبيلها على وجنتها، لتشهق مرتدة للخلف منه قائلة بخضة:

- انت هتعمل ايه يا مجنون؟

اجابها ببرائة:

- بصالحك يا جلبي ، واللي يشوفني هيفتكرني بجولك كلمة في ودنك.

افتر فاهاها بذهول لتخاطبه بعدم استيعاب ضاحكة:

- اقسم بالله انت ملكش حل .


❈-❈-❈


كلمات ياسين مع كل تصرف يصدر من هذا المدعو وائل، والذي لا يرفع عينيه عنها بشكل زاد عليه بالضيق مع قلق غير مبرر يشعر به، حتى اصبح يزفر باختناق، ليترك القاعة حتى يتلمس بعض الهواء النقي يتنشقه، ليتفاجأ بابن عمه الأكبر بلال، يقف بزاوية وحده يدخن سيجارة مع نفسه وذهنه شارد في نقطة ما في الفراغ أمامه، لدرجة جعلته لا يشعر به حتى اقترب منه يخاطبه:

- واجف لوحدك بتعمل ايه يا باشا هنا في الضلمة؟!.

التف متفاجئًا بحضوره حتى سأله باستفسار:

- بتجول حاجه يا حربى؟

سمع منه الاَخير ليردد ضاحكًا:

- وه كمان مش واخد بالك من اللي بجوله؟ ايه بجى؟ سرحان فى ايه يا عم بلال؟

لم يستجيب الاَخر للمزاح، بل نفث دخان كثيفًا بسجيارته وهو يعود للشرود بتنهيدة مثقلة يقول:

- يعنى هكون سرحان فى ايه بس؟ فى الدنيا الغريبة دي، تسافر .. تبعد .. وترجع فى لحظة تفتكر كل اللي وجعك واكنه كان امبارح!

- وجع ايه يا واد عمى اللى فكر تانى عليك ؟! 

سأله حربي بقلق لنبرة الحزن في صوت الاَخر، والذي صمت دون أن يجيبه، ليلتف إليه بعد قليل وينهي الحوار الغامض:

- بجولك إيه؟ ما تياللا بينا ندخل، الفرح جرب يخلص، واحنا جاعدين هنا زي المتعايس، حرك رجلك وتعالى ورايا يالا .

قالها وتحرك ذاهبًا للعودة للقاعة، متجاهلًا الرد والتساؤلات العديدة في نظرات الاَخر، والذي تفاجأ بهذا الوجه الجديد الحزين لابن عمه، المعروف عنه المزاح الثقيل والضحكات الصاخبة .

خطا حربي ليلحق به، وجلس بجوار رائف الذي كان مشغولا بالمرح مع اصدقائه، ليأخذ الفرصة هو لمراقبة بلال الذي رفع ابنته الصغيرة عن الأرض فور دلوفه، ليحتضنها ويداعبها كي تصدر الضحكات الرائعة منها، كان يراه فعل طبيعي يصدر من أب حنون مع طفلته، قبل أن ينتبه على النظرات الخاطفة نحو الطاولة القريبة التي كانت تضم عائلة عمه راجح وابنته بطة التي كانت جالسة تضع ابنها الصغير على حجرها، مندمجة في الحديث مع زوجها الجالس بجوارها يمازحها ويمازح طفلها، غافلين عمن يختلس النظرات نحوهما بحسرة.

إلى هنا وانكشف السر أمام حربي ليفهم ما يؤلم ابن عمه ذو الشخصية القوية والمؤثرة مع الجميع، الشقي الذي يفوز بكل معركة يخوضها، إلا واحدة فقط، وهي معركة العشق، حينما أحب ابنة عمه وفضلت عليه ابن خالها قديمًا .

تمتم حربي بعدم استيعاب مندهشًا

- معجولة لسه بتحب بطة يا واد عمي؟ حتى بعد ما سافرت واتجوزت واحدة زى الجمر ومتفرجش عنيها في الجمال؟ دا حتى حكايتك كانت عاديه حسب ما سمعت، اتجدمت تخطبها وهى اختارت ابن خالها، وخلص الموضوع وانت سافرت واتجوزت وو...

انتفض فجأة باستدراك، يراوده إحساس غريب، وهو يرى زوج بطة يشبه كثيرًا هذا المدعو وائل!

بدون تفكير وجد نفسه ينهض من مقعده بجوار رائف ليسحب كرسي اخر ويجلس بجوار والدته وجمعة النساء، لتهتف به فور رؤيته كعادتها

- ها يا حربي، عجبتك واحدة في الفرح النهاردة تصلج تخطبها يا ولدي،

رد بسأم :

- واحدة إيه بس يامٌا؟ هو انتي معندكيش غير السيرة دي كل ما تشوفيني؟

قالت هدية بانفعال:

- وفيها إيه بس يا ولدي دا حتى البنتة هنا يشرحوا الجلب، كل واحدة أحلى من التانية.

صمت عن الرد فقد كان عقله مشغولا بالأخرى التي أصبحت تحتل تفكيره هذه الأيام، وهذه الليلة تقريبًا لم يرى غيرها، رغم وجود الكثير كما أردفت والدته 

أجفلته صباح بتدخلها، وقد سمعت ما دار من حديث بينه وبين والدته، فقالت مخاطبة والدته:

- إيه يا هدية؟ انت لسة برضوا مالجتيش عروسة؟!.

ردت الاخيرة بحماس:

- أنا اخترت كذا واحدة هنا، بس الأهم رأيه هو طبعًا، يوافج بس على واحدة منيهم.

توجهت صباح بحديثها لحربي:

- وافج على واحدة منيهم يا واد وانا اعملك خطوبتك انت ووائل مع بعض .

سألتها هدية:

- ليه بجى؟ لجيتي عروسة لواد بتك؟

ردت صباح بغمزة بطرف عيناها:

- وهو لسه هايدور يا حبيبتي؟ ما العروسة جاعدة اها وعجبته من اول ما شافها هو وامه؟

سمع حربي وانتبه نحو ما تشير إليه، ليشعر وكأن الأرض تميد به، وكأن قبضة قوية تضغط على قلبه، لتزوغ عيناه، وهو ينقل بأنظاره نحو نيرة التي كانت جالسة مع الفتيات ولا تدري بما يدور فوق الطاولة هنا، وبين هذا المدعو وائل، وهو يرقص بين الشباب يخطف النظر كل دقيقة نحوها


❈-❈-❈


انتهت اخيرًا الليلة الكبيرة ليُزف كل عريس وعروسه إلى غرفتهما بداخل الفندق الذي تم الحجز به للاستراحة وتبديل الثياب، من أجل السفر بعد ذلك لقضاء شهر العسل في الساحل الشمالي 

عاصم وبعد أن اغلق باب الغرفة جيدًا، تقدم خلفها بخطوات متمهلة، قلبه يضرب بالسعادة ولا يصدق أنه بغرفة واحدة معها، اغلق بابها بنفسه ، كانت معطية له ظهرها، اقترب ليداعبها ولكنه أجفل على هذه النظرة الشاردة منها وكأنها غير مندمجة ولا يصلها سحر هذه اللحظة بينهما.

حتى سألها قاطبًا:

- مالك يا بدور، في حاجة مزعلاكي؟

تحركت مقلتيها بحركة مكشوفة أليه لتنكر بكذب:

- لا طبعًا مفيش !

بحدة طالعها وبثقة تامة يقول:

- لأ فيه، واختصرى يا بدور واتكلمي على طول عشان انا فاهمك اكتر من نفسك .

ضغطت على شفتيها تتمتم بإحراج:

- طب ما تجولش عليا هبلة.

تكلم بجدية يحاول إخفاء ابتسامة ملحة لهيئنها:

- مش هجول هبلة ولا اتريج، بس انجزى ياللا.

بتردد خرجت الكلمات منها كالهمس وبخجل متزايد مسبلة أهدابها بخفر:

- بصراحة يعني،، انا كنت بحلم انك تدخل بيا شايلنى على ايدك، زي ما بشوف في التلفزيون. 

سمع منها ولم يقوى على كبتها، ليجلجل بضحكة عالية، حتى أثار غيظها، وهي تحدجه بنظرات مشتعلة، تزم شفتيها وكورتها كالأطفال، لتزيد من تسليته، ولكنه تمالك اخيرًا، حتى لا ينقلب غيظها لحزن، وتوقف مجبرًا يقول مهادنًا لها:

- زعلتى!

قالها وامتدت يده، ليرفع ذقنها، ناظرًا بعينيها بعشق متابعًا بحنان:

- أنا أسف لو زعلتك، واوعي تفتكري ضحكتي دي تريجة على طلبك، بالعكس، دي بس طلعت مني عشان اتفاجأت. 

- يعني إيه؟

تمتمت بها، لتجده نزع يده عنها ليلوح بها قائلًا:

- يعني إيه؟ ودي فيها سؤال؟ بجى بدر البدور تزعل وفى يوم فرحها كمان! بجى الجمال دا كله يبجى نفسه فى حاجة وعاصم ما يحججهاش!

عقدت حاجبيها تناظره بعدم فهم، قبل أن يباغتها ويدني بجسده، ليضع يده أسفل ركبتيها، ويرفعها عن الأرض بين ذراعيه الاثنان، لتشهق مجفلة بفرح، وتلف ذراعيها حول رقبته متبسمة بشغف، فقال بمرح:

- هو انتي جيتي في جمل يعني! دا انا اشيل واهشك وادلع كمان.

اصبح يتكلم وهو يميل ويدور بها وكأنه يهادن طفلة صغيرة، لتضحك هي بهستيريا وفرح، وهو يتابع بابتهاج لفرحها:

- جولى اللى نفسك فيه يا جلب عاصم وانا انفذ، أؤمري ومتتكسفيش من اى طلب حتى لو كان تافه .


❈-❈-❈


وفي الغرفة المجاورة كان الاَخر جالسًا ينتظر وأقدامه تهتز بعصبية، بعد أن تركته من أجل تبديل ملابسها، يحصي الدقائق والثواني وأنظاره تقع على ساعة يده كل دقيقة، ليمسح بكف يده على وجهه بتوتر متمتًا:

- وبعدين بجى، دا احنا كدا هنتأخر .

ارتفعت أنظاره فجأة مع فتح باب الحمام ، ليتسمر مزبهلًا لها، وعينيه تتبعها وهي تخطو أمامه، بطقم يصلح للخروج، بعد أن خلعت عنها الفستان الأبيض، شعرها الأسود الجميل منطلق فوق كتفيها وخلف ظهرها بحرية: 

- معلش اتأخرت عليك.

قالتها بعملية وبدون انتباه وهي تتخطاه متجهة نحو المراَة، أوقفها بأن أمسكها من رسغها قائلًا:

- رايحه فين ؟؟ 

نزلت بعيناها نحو كفه التي قبضت على يدها، لتردف قاطبة:

- رايحة الف حجابي عشان منتأخرش .

ترك يدها وارتفعت كفيه الاثنين ليُحيطهم بوجهها، مزيحًا الخصلات المتناثرة عليه، ثم يلمس على خدها الناعم يردف بصوت أجش:

- مجتش على دقيقتين زياده يعني، اللحج املى عينى فيهم من جمالك..... 

- ها.

تمتمت بها مرتبكة من فعله، لتتابع:

- طب الطيارة وو..... 

قطعت مجبرة، وتوقفت الكلمات بحلقها، بعد أن فاجئها بتقبيله لجببهتها، ثم هبط برقة لتجول شفتيه على باقي وجهها بنعومة حتى توقف عند شفتيها، ليتذوقهم بتمهل ثم تعمق ليحيطها بذراعيه، يغمره عبيرها وطعم الشهد يجعله لا يريد تركها، وقد نسى الزمان والمكان ونسي ما ينتظرهم، قبل أن يجفل على صوت الهاتف المزعج، برنة غبية يكرهها وضعها شقيقه مخصوص، ليميز اتصاله.

تنفس بخشونه وهو يتركها مجبرًا، يتمتم بالسباب عليه:

- ماشي يا رائف الكلب.

تبسمت دون ارادتها وهو تبتعد عنه بوجه مخضب بالحمرة لا تقدر على رفع عينيها إليه، لتزيده حنقًا من أخيه حتى ختم بسبة وقحة، أجفلتها لتبرق عينيها ثم تقول بدهشة مختلطة بارتباكها الملحوظ:

- ااا رد على التليفون وانا هاروح الف حجابى .

سمع منها ليفتح على شقيقه قائلًا:

- ايوه يا زفت.

- أيوة يا باشا، بفكرك بس بميعاد الطيارة، ولا يكونش غيرت رأيك يعني ولا حاجة.

- خلاااص كفاية رغي، ادينا نازلين .

- طب وبتتعصب عليا ليه طه؟ بس معلش بجى هجدر انا اكيد رنيت في وجت غير مناسب يا دكتو.....

اغلق المكالمة ينهي المحادثة واستظراف شقيقه بعدم احتمال، ليزفر ويلقي الهاتف على التخت يخاطبها:

- دا الزفت رائف بيستعجلنا عشان ميعاد الطيارة

- ححاضر انا هخلص بسرعة وننزل على طول .

قالتها بصوت مهتز تتهرب بعينيها عنه وعن النظر بانعكاس وجهه أمامها، لتعود إليه مرة أخرى ابتسامة متسلية، ولا يشبع من متابعتها


❈-❈-❈


في صباح اليوم التالي، وبعد أن قضى ليلة كاملة في السهر، بدون أن يغمض له جفن، ليتنظر شروق الشمس ويأتي إلى هنا ينتظرها، على اريكة جدها، فهو يعلم بقدومها في هذا الوقت من أجل أن تأتي بالحليب للمنزل الممتلئ بالزوار من أجل حفل الزفاف والذي تم بالأمس.

وكما توقع وجدها تخرج من المنزل وقد أتت قبله، نهض عن مقعده ليخطو نحوها سريعاً حتى اوقفها بتصدره أمامها، قائلًا:

- صباح الخير .

تفاجأت بحضوره وتصدره أمامها بهذا الشكل، فردت تجيبه باقتضاب حتى تغير طريقها وتتخطاه:

- صباح النور ..

- استنى يا نيرة انا عايزك .

قالها ليعود باعتراض طريقها، ليزيد من استغرابها:

- فى إيه يا حربي ع الصبح؟

تحمحم يقول بتوتر:

- اطمني مفيش حاجة عفشة، أنا بس كنت عايز اسألك سؤال، ممكن يا نيرة؟

ردت بسأم وهي تهم بالتحرك:

- حربي مش وجته الله يخليك، دا انا ماصدجت وصلت الحليب عشان ارجع اكمل نوم .

زفر بضيق يهتف بها:

- وتجيبى انتى ليه الحليب مفيش غيرك؟

تكتفت تجيبه بنزق، بعد أن أجبرها على التوقف:

- لا مفيش يا حربى غيري، عشان خواتى الولاد انت عارف انهم مش موجودين وخواتى البنات متجوزين .

لم ينتبه لكلماتها فقد كان اهتمامه منصبًا في ناحية أخرى، ليسألها مقررًا الدخول في الموضوع مباشرة؛

- هو الواد ده اللي اسمه وائل طلبك لجواز؟

ردت مستغربة السؤال:

- لأ لسة، بس عمتى لمحت لابويا امبارح، وجالت هنكمل كلامنا بعد الفرح .

ابتلع ريقه الجاف ليتابع سائلًا:

- وانتى إيه رأيك؟

هزت بكتفيها تقول بعدم اكتراث:

- عادى يعني، انا لسه مفكرتش في الموضوع اساسا عشان ارد.

- جولى لأ وما توافجيش.

- ليه لأ؟

- كده وخلاص .

قالها بعصبية أجفلتها، لتزفر بضيق متمتمة وهي تتحرك لتتخطاه:

- كانك فاضي وجاي تسلي نفسك على أول الصبح.

- استنى ما تمشيش انا عايز اكمل كلامى .

هتف بها بحسم يمنعها من التحرك، لتصيح به بنفاذ صبر:

- يا حربي سيبنى امشى الله يرضى عنك، انا مش فاضيه لخناجة تانى معاك. 

- وما سألتيش نفسك انا ليه كل شوية بتخانج معاكى؟

قالها بنبرة غريبة عنه أربكتها عن الرد، واستطرد: 

- مش يمكن متغاظ منك عشان مش حاسة بيا، ولا عشان حاسس انك مش شايفانى زي عاصم و لا خواتك المتعلمين.

هذه النبرة المحتدة في صوته وهذه النظرة التي لأول تراها عن قرب منه، هذا ليس حربي الذي تعلمه، هذه كلمات تخرج منه بصدق، وتستوجب الرد عليها:

- على فكره انا تعليم متوسط زيك، وحكاية شايفانى انت بتحكم فيها على اساس زكرياتنا وخناجتنا واحنا عيال، لكن دلوك انا كبرت وعجلى كبر معايا، وبشوف كويس على فكرة، وعارفة ان جلبك ابيض وراجل وكد كلمتك كمان، حتى وانت جلف وبتحدف دبش في كل خناجة معايا.

افتر ثغره بابتسامة لصدق كلماتها حتى في سبه، ليتشجع مردفًا:

- طب لو اتجدمتلك مع الزفت ده اللى اسمه وائل تختارى مين فينا؟

للمرة الألف يجفلها بكلماته ولكن هذه المرة تمالكت لتهدر به بعصبية:

- الكلام ده ما يتجلش لبت عمك وع الطريج كمان، ولو حصل بالأصول، يبجى ابويا وهو اللى يحكم يا حربي، إبعد بجى خلينى امشى.

تزحزح عن طريقها ليتركها تكمل طريقها، ولكن الحيرة ما زالت تعصف به، لقد كان يأمل، أن تريحه بكلمة أو حتى بإشارة تدله، ولكنها لم تفعل، تنهد ليطرق رأسه بإحباط ليستدير عائدًا لمقعده، ولكنه وما أن خطا بخطوتين حتى تفاجأ بها تناديه قائلة:

- حربي. 

التف إليها ليجدها تقول 

- نسيت أجولك إني مبحبش الرجالة البيض.

قالتها بابتسامة واستدارت مرة أخرى لتكمل طريقها بخطوات مسرعة جعلته يتابعها للحظات بعدم استيعاب لمغزى كلماتها، وكأن حاسة الفهم توقفت عنده، لتصل إليه المعلومة بالبطيء مغمغمًا:

- يعني ايه؟ طب ما هو انا اسمر.... لكن......وائل ..... ابيض !!!. 

فهم اخيرًا ليضحك كالمجنون، ثم ركض ليلحق بها مرددًا:.

استنى يا نيرة، استني يا بت انا جاى معاكي، يا بت وجفي خليني احصلك، بس حتى لو سبجتيني انا خلاص عرفت طريقى ، وجاي على بيتكم دلوك على طول، اشوف عمى واكلمه.


... تمت بحمد الله ...


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-