العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري
الفصل العاشر
*إخــتــطــاف*
الكثير منا لديه رفيق مقدر لهُ.. لا تعلم متى أو أين أو كيف ستراه.. قد لا تُدرك للوهلة الأولى إنكَ أمام رفيق روحك..
كانت " چيداء " تقود سيارتها متوجهة نحو الشركة لحضور الأجتماع الهام الذي لديها.. صدح صوت رنين هاتفها.. التقطته لتُجيب وأثناء ذلك لم ترى تلك السيارة التي توقفت فجأة أمامها.. لتصطدم بسيارتها بها وتفقد وعيها سريعًا إثر اصطدام رأسها بمقود السيارة..
على الجانب الأخر كان يقود سيارته بتهور كعاداته.. مهما حذره الجميع ليتأنى لا يفعل ولا يهتم.. هو يعشق السُرعة.. ولولا مهنة سباقات السيارات ليست مربحة ببلده ولا يوجد الكثير ممن يهتمون بها لكانت أصبحت مهنته الأساسية بلا شك.. بدلًا من المُحاماة التي ورثها عن والده.. يُمارسها.. بارع بها.. لكنهُ ليس شغوف بها..
وأثناء قيادته بذلك الطريق الصحراوي الشبه خالي من البشر.. ظهر فجأة أمامه حيوانٍ ما لم يتمكن من تحديد ماهيته.. مما اضطرره للتوقف بشكل مُفاجيء جعل من عجلات سيارته تصطدم بالأرض الأسفلتية بشدة..
تنفس الصعداء لعدم وجود خسائر.. فهو بطريق صحراوي.. خالي من البشر.. لذلك لم يصطدم بأحد من الأمام.. وقبل أن ينظر في المرآة ليرى هل هناك سيارة بالخلف أم لا.. كانت تلك السيارة الحمراء الفارهة تصطدم بمؤخرة سيارته بشدة..
اتسعت عيناه برُعب ثُم ترجل من سيارته سريعًا ليتفقد صاحب السيارة الذي بالتأكيد تأذى من ذلك الاصطدام.. وصل إلى السيارة ثُم قام بفتح بابها لتقع عيناه على هذه الجميلة الفاقدة للوعي أمامه..
تأمل ملامحها الجذابة لوهلة قبل أن يستوعب أنها فاقدة للوعي وقد تكون ماتت خاصة بعد أن لمح خط الدماء الذي سال من جبهتها إثر اصطدام رأسها بالمقود..
لعن تحت أنفاسه من شدة الغضب والتوتر.. ولم يترك نفسه للصدمة أكثر بل على الفور قام بحملها بين ذراعيه متوجهًا بها نحو سيارته ووضعها بالداخل.. ثُم عاد إلى سيارتها وقام بصفها بجانب الطريق وإغلاقها جيدًا قبل أن يعود أدراجه لسيارته.. يقودها بسرعة فائقة نحو أقرب مشفى لأنقاذ الجميلة النائمة بجانبه.....
-----------------------------
غالبًا ما يولِد الضغط الأنفجار.. الصمت لا يعني الرضا.. الصمت يُمكن أن يكون علامة للرفض.. بمنزل " حبيبة " كانت نائمة لا تشعر بشيءٍ بعد أن عادت ليلة أمس تكاد تشعر أن عظامها مُتحطمة بسبب عملها الشاق بمحل الملابس التي تعمل بهِ لتُعيل نفسها ووالدتها المريضة.. ورغم كل الشقاء الذي تحياه لكن راتبها الشهري ومعاش والدها المتوفي ومعاش والدتها بالكاد يكفي احتياجاتهم وعلاج والدتها المُكلف.. حيثُ أنها مريضة فشل كلوي وبالكاد تستطيع أن تُساعد ولو قليلًا بأعمال المنزل..
تحمد ربها أن اليوم إجازتها الرسمية لأنها تُخطط أن لا تستيقظ قبل العصر.. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفُن.. فها هي والدتها العزيزة تقتحم غرفتها لتجعلها تستيقظ وهي تهتف بحماس مُفاجيء عليها:- اصحي يا " حبيبة "، اصحي يا حبيبة أُمك يلا.
إنزلقت " حبيبة " أسفل الغطاء دون أن تُجيب.. لكن والدتها لم تيأس وبعد عدة مُحاولات هدرت قائلة بنبرة نائمة:- يا ماما سبيني شوية، مش شايفة أصلًا عشان أصحى.
=يابت دة الضهر أذن، ناوية تنامي للمغرب ولا إيه.!
=ياريت، سبيني بقا.
زفرت والدتها بضيق ووقفت بمُنتصف الغُرفة قائلة بعصبية:- والله يا " حبيبة " لو ما قومتي لهنزل عليكِ بحزام ابوكِ الله يرحمه زي زمان، قومي يابت.
انتفضت " حبيبة " من نومتها لكنها لم تكن تملك القدرة الكافية لتفتح عينيها.. هتفت قائلة بضيق بينما خصلات شعرها الحلزونية تُحيط بوجهها بفوضى:- عايزة إيه يا ماما مني، حرام عليكِ مش قادرة افتح عيني.
هدرت والدتها قائلة بسعادة:- أصل طنط أم عادل كلمتني وجاية هي وعيالها يزورونا، وعايزاكِ تصحي عشان تساعديني في التنضيف والحلويات.
كانت " حبيبة " استطاعت أن تفتح عينيها نصف فتحة تنظر من خلالها إلى والدتها السعيدة أمامها.. عبست بملامحها قائلة بتبرُم:- يعني إنتِ بتصحيني يا ماما عشان كدة، وبعدين أنا مش قولتلك مش كل أجازة تعزمي حد، سبيني أريح أسبوع حرام عليكِ.
=حُرمت عليكِ عيشتك يا بعيدة، إيه ياختي البنات الخايبة دي، عايزاني أقفل باب بيتي في وش ناسي وحبايبي، قومي يابت فزي عشان تساعديني.
وبعد أن ألقت جملتها المُتبرمة خرجت من الغرفة وهي تتوعدها بعقاب قاسي إن لم تستيقظ لتساعدها.. زفرت " حبيبة " بضيق بالغ.. فهي كل ما ترغب بهِ هو بعض الراحة.. إجازة واحدة فقط تنعم بها.. لكن والدتها لا ترحمها من كثرة العزائم بالمنزل دون أن تعبأ بأحوالهم المادية التي لا تتحمل كل هذه التكاليف.. لطالما كانت والدتها هكذا.. تتصرف دون أن تهتم بالآخرين.. مدللة حد الإفساد.. ومن عزز ذلك الدلال والدها الذي كان يدللها حتى لو كان على حساب طاقته وصحته وحالته المادية.. وبعد وفاته اضطررت هي أن تتعامل مع والدتها بهذا العيب الخطير.. لا تعلم أتلومها أم فقط تبحث عن عمل إضافي لتستطيع تغطية مصاريف والدتها المُبزرة..
--------------------------------
هُناك نظرة ستشعر من خلالها إنكَ على حافة العالم.. وستسقط مغشيًا عليك.. ليس خوفًا وإنما شغفًا..
أشرقت بنهريّ الشيكولاتة الذائبة خاصتها على العالم.. تفاجأت أن كل ما حولها باللون الأبيض.. كما أن رأسها تشعر بهِ أنشطر لنصفين من شدة الألم.. تذكرت الحادث الأخير الذي تعرضت لهُ لكنها لا تعلم من الذي أتى بها للمشفى..
دلفت ممرضة إلى الغرفة لتطمئن عليها لتتفاجأ بها مستيقظة.. أبتسمت ببشاشة قائلة:- حمد لله على سلامتك يا أنسة، حاسة بحاجة دلوقتي.!
اومأت لها " چيداء " قائلة بضعف:- حاسة بصداع فظيع، هو إيه اللي حصل.!
أجابتها الممرضة قائلة بجدية:- حادثة بسيطة والحمد لله ربنا نجاكِ منها، هحقنلك مُسكن في المحلول دلوقتي عشان يهدي الصداع خالص.
هتفت قائلة بتساؤل:- مين اللي جابني هنا.؟
=دة الأستاذ اللي خبطتي بعربيتك في عربيته، هو اللي جابك هنا وكان قلقان عليكِ أوي، ولسة برة لغاية دلوقتي.
اومأت لها قائلة بتساؤل:- لو سمحتِ هو أنا بقالي قد إيه هنا.؟
=4 ساعات.
شهقت " چيداء " بصدمة.. أربع ساعات مما يعني أنها لم تحضر الأجتماع.. بالتأكيد الجميع يبحث عنها الأن.. أو أن جدها أُصيب بذبحة صدرية إثر رعبه عليها.. ووالديها لن يكونا بحال أفضل منهُ..
بتلك اللحظة عادت من شرودها على صوت شخصٍ ما معها بالغرفة.. نظرت إليه لتجده شاب طويل القامة.. بجسد رياضي ممشوق.. وكتفين عريضين.. ببشرة قمحية وعيون سوداء تميل إلى البُني.. بشعر أسود كثيف.. يمتلك ملامح شرقية بحتة.. صلبة لكن بها لمعة عابثة..
هو أيضًا كان يتأمل ملامحها الجذابة.. عينان بلون الشيكولانة.. خصلات بُنية تصل إلى منتصف ظهرها.. جسد ممشوق ومُمتليء في أماكنه الصحيحة..
عاد من شروده بها على صوتها الناعم وهي تهمس قائلة:- أنت مين.؟
كانت متوقعة الإجابة لكنها أرادت أن تقطع الصمت الذي لم يرد هو قطعه.. تنحنح قائلًا بنبرة رخيمة:- " قُصي البحيري ".
لم تتغير ملامحها وكأنها لم تهتم بإسمه.. مما جعله يعبس قليلًا بداخله لأنها لم تتأثر بهِ.. لكنه على أي حال هتف قائلًا بنفس نبرته:- أنا كنت معاكِ في الحادثة، أنا عارف طبعًا إن الغلط من عندي لإني وقفت فجأة وعلى طريق سريع بس أنا كنت مضطر أقف، لو حابة تقدمي بلاغ حقك طبعًا بس أنا مُستعد لأي ترضية تحبيها.
صمتت واستمر الصمت لدقيقتين قبل أن تقطعه هي بنبرتها الرقيقة قائلة:- أنا مش هقدم بلاغ، ومش عايزة أي ترضية.
توسعت نظراته بدهشة.. هل تُسامحه وهو الذي كاد أن يودي بحياتها..! نبرتها الرقيقة دغدغت مشاعره وهو الذي عُرف عنه التلاعب بقلوب بنات حواء دون أن تؤثر واحدة فقط بهِ.. لطالما كان كالفراشة يتنقل بين الورورد يمتص رحيقها ثُم يرحل ليبحث عن وردة أُخرى.. هتف قائلًا بذهول:- مش هتبلغي فعلًا.!
أبتسمت " چيداء " بهدوء قائلة:- بُص لنُص الكوباية المليان، أنا لسة عايشة، صحيح ضاع عليا أجتماع مهم بس الحمد لله ربنا ستر، ممكن بس تُبقا تاخد بالك أكتر بعد كدة عشان لاقدر الله الموقف دة ميتكررش تاني.
وعلى الرُغم من الراحة الذي شعر بها لكن لا يعلم لما يشعر أن ذلك الهدوء خادع.. وتلك الرقة خلفها جمود يُجمد القلوب النابضة.. ملامحها كانت هادئة مُريحة للنظر لكن عيناها كانتا صلبتين.. قاسيتين ورُغمٍ عنها تُفلت منهما القسوة..
مزيج غريب لفتاة أول مرة يراها.. لا يعلم ما هي شخصيتها الحقيقة.. لكن لماذا يهتم بها.. فهو سيخرج من هذه المشفى ولن يراها ثانية.. إذًا لا داعي لأن يُشغل باله بها..
عاد من شروده على صوتها الهاديء قائلة:- ممكن استخدم تليفونك لإن موبايلي مش معايا.؟
أخرج هاتفه من جيب سترته وأعطاه لها قائلة بجدية:- أنا ركنت عربيتك وقفلتها مكان الحادثة، وهبعت حد يجيبهالك.
أجابته بنبرة عادية وهي تعبث بأزرار هاتفه قائلة:- مفيش داعي تتعب نفسك، أنا هبعت حد يجيبها.
وضعت الهاتف على أذنها وانتظرت الرد الذي جاءها بعد لحظات لتهتف قائلة بجمود:- أنا في مستشفى "...." تعالالي، ومتقولش لحد في البيت.
أنهت حديثها وأغلقت الخط دون أن تنتظر رد الطرف الأخر.. صُدم " قُصي " من تحولها المُفاجيء.. وأدرك صحة استنتاجه.. هذه الناعمة التي أمامه نعومتها خادعة لا محالة.. أعطته الهاتف فهدر قائلًا بعدم فهم:- هو إنتِ بتفكري تطلعي النهاردة من هنا.؟
رفعت كتفيها وأنزلتهما بالامُبالاة قائلة:- أنا حاسة بنفسي إني كويسة، وهكون مرتاحة اكتر في بيتي.
أجابها " قُصي " قائلًا بجدية:- بس الدكتور قال إن لازم تفضلي تحت المُلاحظة 24 ساعة على الأقل.
تنهدت قائلة بهدوء:- صدقني أنا كويسة، وكمان مش بحب قاعدة المُستشفيات، البيت هيكون أفضلي وهخف أسرع هناك.
لاحظ كم أنها عنيدة.. لن تستجيب لمحاولاته مهما فعل.. لذلك أثر الصمت في أنتظار الشخص الذي سيأتي ليصطحبها.. قد يكون زوجها أو شقيقها.. لكنها لا ترتدي خاتم زواج.. كما أنها لا يُمكن أن تتحدث مع زوجها أو شقيقها بذلك الجمود والعجرفة.. إذن دقائق وسنرى..
وبالفعل بعد مرور ما يُقارب النصف ساعة.. صدح صوت طرق على باب الغرفة فسمح " قُصي " للطارق بالدخول.. ليتفاجأ بعددًا من الرجال الأشداء.. وكأنهم حراسة شخصية لشخصٍ ما هام بالدولة.. لم يأتي بمخيلته لوهلة أن يكونوا تابعين لها.. لذلك انتفض من جلسته قائلًا بعدم فهم:- خير إنتوا مين.!
تقدم منهُ واحدًا منهم ويبدوا قائدهم لكنه تخطاه ووقف أمامها هي قائلًا بأدب:- أنسة " چيداء " أحنا تحت أمر حضرتك.
هتفت هي قائلة بتساؤل:- حد من البيت حس بغيابي.؟
=الأنسة " رنيم " غطت على غيابك يافندم الكام ساعة اللي فاتوا، ومحدش من البيت وصلوا خبر.
تنفست الصعداء لأنها لم تتسبب بحالة زُعر لوالديها وجدها.. يكفي الحالة التي ستُصيبهم عند عودتها ورؤية رأسها بالضماد الطبي الذي يُحيطها.. كانت غافلة عن هذا الذي يقف يُتابع ما يجري بذهول.. لماذا فتاة مثلها يتبعها كل هذا الكم من الحراسة.. من هي..!
نهضت من مكانها قائلة بجدية:- يلا بينا.
وقفت على حين غرة لتشعر بالأرض تُميد بها.. وأول من وصل إليها كان " قُصي " الذي التقط جسدها بين ذراعيه قبل أن تقع أرضٍ.. استندت هي بمرفقيها على صدره الصلب وتشبثت بأظافرها بكتفيه لتمنع نفسها من السقوط..
بتلك اللحظة تقابلت الأعين.. وارتعشت الأجساد.. وفلتت النبضات..
إحساس بصعقة كهربائية انتابته فور أن لمس جسدها وتقابلت نظراته مع خاصتها.. لكنها كانت أكثر صلابة منهُ.. فهي استطاعت أن تُلملم شتات نفسها سريعًا وتعتدل بوقفتها قبل أن تسقط في المحظور..
أبتسمت بهدوء يخفي إرتعاشها الداخلي:- شكرًا، عن إذنك.
وهكذا تحركت بخطوات مُتأنية.. واثقة تسير بين رجالها الذين يحاوطونها كالحوائط البشرية لمنع أي شخص غير مؤغوب بهِ أن يقترب..
أمرت واحدًا من رجالها أن يتولى أمر دفع حساب المشفى.. وتوجهت هي نحو سيارة حراستها الخاصة تستقل المقعد الخلفي.. وبعد دقائق قليلة عاد الحارس قائلًا بجدية:- الأستاذ اللي جاب حضرتك على المستشفى دفع الحساب من لحظة دخولك.
على الرُغم من صدمتها لكنها كانت متوقعة شيءٍ كهذا.. فهو يبدوا كرجل نبيل وليس كقرد متشرد....
---------------------------------
مهما حاولت أن تهرب من مصيرك.. تذكر أن لا هروب من المكتوب.. وصلت " ليال " إلى عملها بالمُنتجع الخاص بها.. وعلى الرُغم من رفض عائلتها لعودتها إلى العمل مُبكرًا هكذا لكن جدها كان يؤيد قرارها ولم يفرض عليها شيءٍ.. وها هي توقفت بسيارتها أمام البوابة الكبيرة لتحاوطها حراستها الخاصة لحمايتها.. وعلى رأس الحراسة كان هُناك " جلال " قائد حراستها الخاص.. يقف في أستقبالها قائلًا بنبرة جادة:- حمد لله على سلامتك يا " ليال " هانم.
توقفت أمامه بملامحها الرخامية قائلة بهدوء:- الله يسلمك يا " جلال "، كويس إنك نزلت الشغل النهاردة.
نظر إليها ليرى عينيها تلمعان بالغموض.. وهو وبعد عِشرة أكثر من عشر سنوات لها يُدرك أنها تُخطط لشيءٍ ما.. بالتأكيد " ليال العفريت " لن تترك ثأرها.. لذلك هتف " جلال " قائلًا بثقة:- تحت أمرك في أي حاجة يا هانم.
لم تتردد وهي تهدر قائلة بصلابة:- المعلم " حمدان " عايزة نُص أسهمه توقع، وهقولك على هدية تانية تبعتهاله.
اومأ لها بطاعة قائلًا بجمود:- اعتبريه تحت رجلك بيطلب الرحمة.
أبتسمت بقسوة على جملته.. تعرف أن " حمدان " سيركض إليها طلبًا للسماح لكنها لن تشفع.. هي لم تعتاد أن تمنح سماحها لأحد.. عدا شخصٍ واحد.. شخصٍ خذلها وطعنها بقلبها ليرديه قتيلًا أمامه ولم تملك إلا أن تعشقه.. شخصٍ كانت نائمة ليلة أمس بين أحضانه بأمان وراحة لم تشعر بهما منذُ زمنٍ ولى بالرُغم من كل الصراعات من حولهما..
نفضت عن رأسها التفكير بهِ في تلك اللحظة.. فهي بحاجة الأن للتركيز على عملها وثأرها من الوغد " حمدان "..
تحركت بخطواتها تتوغل بداخل منتجعها تتلقى السلام والترحيب من الجيع.. وهي تبادل تحيتهم بأبتسامة هادئة لم تصل إلى عيناها..
وقعت نظراتها على " كريم " الذي يجلس على طاولة ما على ما يبدوا ينتظرها.. وهي تعلم سبب زيارته.. اقتربت منهُ بتمهل وعندما لمحها انتفض واقفًا احترامٍ لواحدة من كِبار عائلة العفريت.. لقد قام " مُختار العفريت " بتربية " كريم، رجوى، بتول " على أحترام " ليال، زين " واعتبارهما كبيرين العائلة من بعدِه..
جلست أمامه بهدوء ثُم أشارت لهُ ليجلس ففعل.. تحدث هو قائلًا بنبرة هادئة:- حمد لله على سلامتك، مكنتيش نزلتي الشغل دلوقتي يا " ليال ".
أجابته قائلة بنبرة عادية:-حسيت نفسي أحسن عشان كدة نزلت.
اومأ لها قائلًا بتساؤل:- أكيد طبعًا عرفتي قرار جدك إني لازم أنزل اشتغل معاكم.؟
هتفت قائلة بجدية:- أيوة عرفت.
عقد حاجباه بحيرة قائلًا:- مش مستغربة إني طلبت اشتغل هنا ومش في المجموعة.؟
تعلم سبب طلبه للعمل هنا لكنها لن تمنحه إجابة مريحة.. مطت شفتيها قائلة ببسمة تبدوا عادية لكنها تحمل غموض العالم:- تشتغل هنا أو في المجموعة مش فارقة، كدة كدة كل حاجة لعيلة العفاريت يعني مش بتشتغل عند حد غريب.
اومأ لها بهدوء دون أن يشعر بالراحة بداخله.. فهو يُدرك تمام الأدراك أن " ليال " ليست الشخصية السهلة الهينة التي يظُن أن بإمكانه استدراجها لمعرفة ما يدور ببالها..
لطالما كانت كتاب مُغلق منذُ صغرها لذلك كانت الحفيدة المُفضلة عند " مختار العفريت ".. وبعد ما حدث لها قبل ثلاث سنوات أصبحت أكثر إنغلاقٍ.. بينما هو لم يحاول يومٍ أن يفهمها أو يتقرب منها.. لأنهُ ببساطة.. يخشاها...
----------------------------------
الكثير منا لديه أوجاعه.. جراحة التي لا تنفك تنزف.. ومع كل قطرة دماء تُهدر منكَ ترى نهايتك أمامك.. العِبرة لم تكن يومٍ بطبيعة الألم.. العِبرة دائمًا ما تكون بما يحدث بعد الألم.. هل تعلمت الدرس.. هل أصبحت على دراية أكبر بفساد من حولك.. هل عرفت قيمة ذاتك وأصبحت تُقدرها..! والمزيد من هل تُطرح والإجابة بالنهاية لديك فقط..
" دار آل سُليماني "
غرفة يغلب عليها اللون الرمادي الشاحب والأزرق الداكن.. خالية من كل شيءٍ عدا فراش أرضي بسيط وجسدًا مُستلقي عليه كالخرقة البالية.. لم يعُد قادرًا حتى على الصراخ.. فقد قدرته على المقاومة.. هو هنا منذُ ما يقارب الثلاث أسابيع دون أن يرى الشارع أو الناس.. حتى عائلته لا أحد يزوره.. والدته تمُر كل فترة تدُق بابه وتسأله إذا كان يرغب في شيءٍ مُعين بطعامه وعندما لم تجد رد ترحل.. والده لم يزوره مرة واحدة حتى.. بينما شقيقته تأتي كثيرًا لكنها لا تتحدث.. لا يعلم كيف يشعر بها لكنهُ يعلم أن " تالين " تقف أمام بابه يوميًا ولا تتركه إلا بعد الكثير من الوقت.. إما عن " عاصي " فهو الوحيد الذي يراه " رامز " يوميًا.. لأنه من يقوم بتقديم الوجبات بيمعادها المُعتاد كل يوم.. وأحيانًا يجلس معه قليلًا يتحدث بأمور شتى ويرحل.. وقبل عدة أيام أحضر طبيبًا خاص بعلاج الأدمان ليبدأ معهُ العلاج بطريقة صحية خاصة بعد أن مرت فترة إنسحاب السموم من جسده..
لا يعلم ماهية شعوره نحو ابن عمه الأكبر.. هل هو غاضب منهُ أم مُمتن لهُ..!
لا يُنكر أنهُ لم يكن يرغب في أن يسلُك طريق المُخدرات لكن زُجت قدميه لذلك الطريق ولم يملك القوة الكافية للتراجع.. وها هو " عاصي " أجبره على العودة.. أجبره أن يعود إلى رشده.. وأن يسترد مكانته كفرد من أبناء السُليمانية..
وعلى الرُغم من تعبه الجسدي وخموله أغلب الوقت لكنهُ يشعر بتحسن لا يمكن أن يغفل عنهُ.. يشعر أن تلك الكبوة هي التي سينهض بعدها.. سينهض بشخصية جديدة كُليًا.. سيكون " رامز السُليماني " جديد..
صدح صوت مزلاج الباب ينفتح وأحدهم يدلف إلى غرفته.. لم يحتاج أن يلتفت أو يتساءل لأن لا أحد يطمئن عليه يوميًا عداه..
تحدث " عاصي " قائلًا بنبرة هادئة:- بقالي كام يوم ملاحظ هدوءك، ومبقتش تكسر في الباب ولا تزعق، ياترى اقدر اعتبر دة إشارة كويسة ولا ابدأ أفكر في عقاب جديد من دلوقتي.!
كان جسده مُمدد على الفراش الأرضي البسيط يتطلع نحو السقف بشرود هاديء.. وفور أن انهى ابن عمه حديثه حرك رأسه لينظر إليه.. بعد دقائق قليلة أجاب قائلًا بنبرة ضعيفة:- شكرًا.
عقد " عاصي " حاجباه بعدم فهم قائلًا:- على إيه.!
وبنفس النبرة أجاب قائلًا:- على اللي عملته معايا، أنت أنقذت حياتي.
ازداد ذهول " عاصي " بحديث ابن عمه الصغير.. اقترب منه وجلس القرفصاء بجانب فراشه ثُم ربت على خصلات شعره البُنية الكثيفة قائلًا بنبرة رخيمة حنونة:- أنا معملتش كدة عشان مستني منك شُكر، أنا عملت كدة عشان أنت مش بس ابن عمي لأ، أنت أخويا الصغير ومكنش ينفع أسيبك في أزمة زي دي.
أبتسم " رامز " بتعب قائلًا:- ربنا ما يحرمني منك، بس هو أنا أمتى هبدأ كورس العلاج الجديد.؟
=الأسبوع الجاي، والدكتور سمحلك تخرج شوية من الأوضة للجنينة، إيه رأيك نعمل شوية تمارين خفيفة كدة هناك.؟
تحدث بلهفة قائلًا:- ياريت، أنا نفسي أوي أخرج من الأوضة دي.
نهض " عاصي " ووقف قائلًا بمرح:- طب قوم استحمى والبس على ما أجهز أنا كمان.
تحرك نحو باب الغرفة ليرحل لكن استوقفه حديث " رامز " الذي هتف قائلًا بخُبث:- بس أنت كُنت فين بدري كدة، شكلك أصلًا مكنتش نايم في البيت.؟
نظر إليه الآخر بغموض ثُم أجاب ببرود قائلًا:- شكلك كدة عايز تقضي الكورس كله في الأوضة صح.!
ضحك " رامز " بقوة قائلًا:- لا وعلى إيه الطيب أحسن، كدة كدة مفيش حاجة بتستخبى في البيت دة وبكرة كله يبان.
لم يتنازل ويمنحه شرف الرد بل خرج من الغرفة بأكملها.. وبطريقه نحو غرفته تقابل مع شقيقه " كارم " الذي كان خارجٍ من غرفته في ذلك الوقت.. استوقفه " عاصي " قائلًا بهدوء:- صباح الخير يا " كارم "، رايح فين بدري كدة.؟
نظر إليه شقيقه بملامح لا يعلوها تعبير محدد ثُم هتف قائلًا بنبرة باردة:- رايح الشركة.
" عاصي " بتساؤل:- طب مش هتفطر.؟
أبتسم " كارم " بسخرية قائلًا:- من أمتى الحنية دي، خليك في حالك ومتتدخلش في حياتي.
عقد " عاصي " حاجباه بذهول من هجوم شقيقه الغير متوقع ثُم هتف قائلًا:- وأنا من أمتى كنت قاسي معاك، أنت بس عارف إني كنت بمُر بظروف نفسية صعبة عشان كدة كنت بعيد شوية عنك، بس في النهاية أنا أخوك الكبير وعمري ما هقسى عليك.
هدر " كارم " قائلًا بنبرة قاسية:- ودلوقتي فوقت لنفسك بعد ما رجعت اتصادفت مع بنت العفاريت من تاني، اللي فضحتك وفضحتنا معاك وخليتك مش عارف ترفع عينك في حد، و..
قاطع حديثه صت الجد الهادر الذي زلزل الجدران بقوته وصلابته حيثُ صاح قائلًا بقسوة:- أخرس يا كلب، أعتذر لأخوك حالًا وإياك تتجرأ وتكلمه بالطريقة دي تاني.
=جدي أنا ااا.
هدر " عبدالرحيم السُليماني " قائلًا بنبرة أشد قسوة:- ولا كلمة، نفذ الي قولت عليه ودلوقتي حالًا وإلا قسمًا بربي هتشوف مني عقاب مفكرتش أنفذه قبل كدة على حد فيكم.
تبادل " كارم " النظرات بينهما بغضب لا يخلو من الحقد.. حقد وشعور بالنقص يتوغلان بداخله منذُ كان طفلًا صغيرًا.. فجوة كبيرة حدثت بينه وبين شقيقه وبمرور الأيام تزداد اتساعٍ.. نظر إلى شقيقه بحنق أجفل الأخير ثُم هدر قائلًا من بين اسنانه:- أسف.
القى بكلمته ثُم تحرك بخطوات غاضبة ينهب الأرض نهبًا وبداخله غضب العالم أجمع.. بينما " عاصي " كان في حالة صدمة مما رأه بعيون شقيقه الصغير.. أيُعقل أن " كارم " يكرهه..!!
-----------------------------------
يضعك الله عز وجل بطريقٍ غير الذي خططت لهُ لزمنٍ.. أنت تُدبر وتُخطط وربك يُنفذ.. لطالما كان هناك طريقان.. وأحيانًا ظروفك تُجبرك على أن تسلُك الطريق الخطأ.. لا يعني هذا إنكَ شخصٍ سيء في الغالب.. ولكن الأهم هو أن لا تتمادى لكي لا تستيقظ في النهاية على صفعة تجعلك تتمنى لو لم تكُن حيًا من الأساس..
" دار آل عفريت "
الساعة الرابعة عصرًا تقف سيارة " زين " أمام منزل العائلة.. لم يكُن بمفرده فهو اصطحب معهُ " تيمور ".. بالنهاية لم يكن سيتركه بالمشفى هكذا وحيدًا بلا مال ولا عائلة ولا حتى مأوى.. وأيضًا بلا ذاكرة.. نظر " زين " إلى الشاب بجانبه قائلًا بتساؤل:- حفظت دورك كويس وعارف أنت مين.؟
تنهد " تيمور " بنفاذ صبر قائلًا:- أيوة أيوة، والله حفظت، أنا أصلًا مش فاهم ليه الكدب يعني، دة أنتوا أنقذتوا حياتي.!
ضحك " زين " مليء شدقيه قائلًا:- لما تتعرف على عيلتنا كويس هتعرف إجابة السؤال دة لوحدك، ثُم إن اللي أنقذتك " روان " أختي مش أنا، واليوم دة هي خرجت من البيت متأخر ومن غير علم حد، ولو جدي عرف مش هيبقا كويس عشانها.
تذكرها القصيرة بندقية العينين.. كانت تزوره في بداية رقدته بالمشفى ثُم انقطعت قبل عدة أيام.. ولم يجد طريقة ليسأل عنها شقيقها خاصة بعد أن أخبره خبر استقباله بمنزله حتى يستطيع تأمين آخر ووظيفة..
دلفا إلى المنزل سويًا ليجدا الجد " مُختار العفريت " يستقبلهما برفقة بناتِه الثلاثة فقط.. جميع الأبناء الأن بأعمالهم وجامعتهم ومدارسهم.. رحب بهِ الأول قائلًا بنبرة وقورة:- نورت دارنا يابني، وحمد لله على سلامتك.
أبتسم " تيمور " بهدوء قائلًا:- الله يسلمك يا حاج، وشكرًا على استقبالك ليا في بيتك.
أجاب الجد قائلّا بحبور:- دار العفاريت مفتوح دايمًا للحبايب.
كان " زين " قد أخبر جده أن هناك صديق لهُ مصري الجنسية لكنه يعيش بألمانيا وسيأتي لزيارة مصر قريبًا لذلك يريد أن يستقبله بمنزله بدلًا من ذهابه إلى فندقٍ ما.. وافق الجد بترحاب وبدأ في إعداد المندرة الموجودة خلف البناية وقد كانت مجهزة من كل شيء لأستقبال الضيف بها..
اصطحب الجد " زين و تيمور " ليرى المكان الذي سيقيم بهِ وقد أعجب بهِ الأخير بشدة وشكره كثيرًا.. لكنهُ كان يبحث عنها.. لا يعلم لماذا تضايق لعدم وجودها في استقباله لكن ما بيده إلا أن ينتظرها.. دلفت السيدة " لطيفة " إلى الغرفة قائلة ببشاشة:- الغدا جاهز اتفضلوا.
هتف " زين " قائلًا بتساؤل:- مش هنستنى الباقي.؟
=وهما دول ليهم مواعيد، وأكيد مش هنسيب ضيفنا جعان يعني.!
أبتسم لها " تيمور " بهدوء وتوجه الجميع نحو غرفة الطعام...
----------------------------------
انتصف النهار وانتهت " حبيبة " من ترتيب المنزل وإعداد بعض الوجبات الخفيفة والحلويات.. كانت تلهث من شدة تعبها اليوم.. لقد جعلتها والدتها تقوم بأشغال مُضاعفة وكأنها تُعاقبها لرفضها أمر تلك الزيارة في البداية.. دلفت إلى المرحاض لتستحم وتُزيل تعب اليوم.. وبعد أن أنتهت من حمامها الدافيء أرتدت-هودي بلون الكراميل وبنطال قطني مريح- ثُم قامت بتجفيف شعرها بالمجفف وتركته مسترسلًا بخصلاته البنية الحلزونية الفوفوضية التي تعشقها.. خرجت من الغرفة لتجد والدتها تهرول نحو باب المنزل فأدركت أن الضيوف وصلوا إلى منزلهم.. وقفت بجانب والدتها تستقبلهم وقد كانت الضيفة صديقة والدتها السيدة " إبتهال " وبناتها الثلاثة " كريمة وفريدة وأميرة " وأخيرًا أبنها البكر " عادل "..
جلس الجميع بغرفة الصالون يتناولون أطراف الحديث حتى هتفت السيدة " إبتهال " قائلة بتطفل:- وإنتِ يا " حبيبة " لسة متخطبتيش.؟
أبتسمت " حبيبة " بهدوء قائلة:- لسة والله ياطنط النصيب مجاش.
كانت تعلم أن الجلسة ستأتي إلى منتصفها وتتحول بأكملها عليها هي وحياتها.. ستكون مادة الحديث لنهاية السهرة الأن.. وقد صدق حدسها عندما أشارت السيدة نحو أبنتها " كريمة " صاحبة الثلاثون عامًا قائلة بفخر:- وإيه اللي مقعدك دة كله يا حبيبتي، دة أنا بنتي " كريمة " أهي وهي في سنك كان معاه " مازن ".!
تصنعت الرقة وهي تهمس قائلة:- ربنا يحفظه يا طنط.
كانت تقوم بالعد بداخلها لتتروى ولا تدع زمام أمورها تنفلت منها لكن هذه السيدة لم تكن تنوي تركها.. حيثُ هتفت قائلة بنرة خبيثة:- العُمر بيجري يا " بيبة " وإنتِ مبقتيش صغيرة دول 22 سنة، يدوب تلحقي بدل الجواز ما يفوتك.
ضحكت " حبيبة " ضحكة سخيفة ثُم أجابت بنبرة مستفزة:- إن شاء الله ياطنط لما أخلص دراستي هبقا أفكر في الموضوع دة.
وهُنا تدخل " عادل " في الحديث وقد كان شابًا في الثانية وثلاثون من العُمر يعمل فني كهرباء بأحد الشركات قائلًا بنبرة إستخفاف:- وإنتِ هتعملي إيه بالشهادة يعني.؟
نظرت إليه وكأنهُ كائن فضائي ثُم هتفت قائلة بجدية:- هشتغل طبعًا.
وضع قدمٍ فوق الأخرى قائلًا بعنجهية:- وإيه لازمة الشُغل طالما كدة كدة هتتجوزي وتقعدي في بيتك تربي عيالك.!
حاولت أن تتحكم في غضبها ليس من حديثه فقط بل من طريقته المُهينة في الحديث فتحدثت بأكثر نبرة هادئة تمتلكها قائلة:- بغض النظر عن إن لسة بدري أوي بالنسبالي على موضوع الجواز دة بس الست لازم تشتغل حتى لو متجوزة ومخلفة، الدنيا دلوقتي بقت مختلفة وغالية أوي على كل الناس، وبفرض إن أتجوزت حد وطلع مش كويس ومكملناش طبيعي إني هشتغل بشهادتي مانا أكيد مش هشحت يعني يا أستاذ " عادل ".!
أبتسم بأستخفاف قائلًا:- والله أنا شايف إن الست أصلًا ملهاش لازمة في حاجة، يعني ولا برة البيت ولا جوة، واللي زيك يا أنسة " حبيبة " بكلامك دة بتخرب مش بتعمر.
اشتعلت حدقتيها البندقيتين بنيران الغضب فتحولتا إلى حممٍ نارية بركانية على وشك إحراق هذا الوغد الجالس أمامها.. لم تستطع أن تتمالك غضبها على الرُغم من نظرات والدتها التحذيرية لتصمت لكنها هدرت قائلة بشراسة:- نعم نعم نعم، ستات مين دول اللي ملهمش لازمة، لا مؤاخذة يعني أنت جيت بالطريقة العادية اللي بتيجي بيها العيال ولا أبوك عطس فسقطت في حجره، طب يا أخي لو مش عامل حساب ليا ولا لأمي صحاب البيت اللي مضيفينك فيه أعمل حساب للست اللي شالتك في بطنها تسع شهور بحالهم وعشان تيجي أنت الدنيا تقرفنا استحملت جسمها وشعرها يبوظوا وصحتها تروح، وبعدين سهرت وربت وكبرت عشان يجي بغل زيك يقعد متربع أوي ويقولك الستات ملهمش لازمة، قوم فز غور من هنا بدل ما أنزلك على ضهرك.
كانت جميع العيون تقع عليها تطالعها بصدمة شديدة.. الجميع تفاجيء من تحولها على الرُغم من أن " حبيبة " معروفة بشراستها وطول لسانها بمحيط معارفهم لكن لم يُصادف أن تشاجرت مع أحد الأقارب أو المعارف لذلك كان يعتقد البعض أنها مجرد إشاعة مُغرضة لتشويه صورتها فقط.. لكن ها هي الحقيقة تظهر..
أنتفضت السيدة " إبتهال " من جلستها وهدرت قائلة بعصبية وعدم رضا:- لا أنا مسمحلكيش تطولي لسانك على إبني، وأنا اللي قولت عليكِ متربية بس شكلي كدة كنت مخدوعة فيكِ.
أنتفضت والدتها السيدة " نجوى " قائلة بصياح:- لا حاسبي على كلامك يا " إبتهال " ياختي، أنا بنتي متربية أحسن تربية وإبنك هو اللي غلط الأول.
=إبني راجل يا حبيبتي ويقول اللي على مزاجه.
=راجل على نفسه يا ست الكل وعليكِ إنتِ وأخواته، إنما بنتي لا.
أستمرت المناوشة بين والدتها والسيدة " إبتهال " لبعض الوقت حتى رحلت الأخيرة مع أبنائها لتبدأ مناوشة أخرى بينها وبين والدتها أنتهت بصياح " حبيبة " العالي قائلة بعصبية:- إنتِ اللي بتحشريني مع صحابك وعيالهم وإنتِ عارفة إني مش بسكت وبعدين ترجعي تزعلي لما أرود على حد فيهم مع إن أمه من أول القاعدة بتسخف عليا وسكت، وبنتها أتريقت على شعري وسكت، المفروض كنت أعملهم خدي مداس ولا إيه.!
هدرت والدتها قائلة بعصبية أشد:- يابت إنتِ فكراني عبيطة، مانا عارفة إنك كشمتي للواد عشان فاهمة إنه جاي يشوفك ويخطبك فقولتي تدبحيله القطة وتغوريه، صح.!
زفرت " حبيبة " بضيق قائلة:- طب كويس إنك فاهمة إني فاهمة، فمبروم على مبروم ميرولش بقا يا والدتي، ياريت ترحميني شوية من العرسان العرر اللي بتدبسيني معاهم دول عشان أنا جيبت أخري، وعلى فكرة أنا مش معايا أتجهز ها، أحنا مش حيلتنا غير الشقة دي وأنا مش هبيعها لو حصل إيه، والقرشين اللي بقبضهم يدوب بيكفوا اكل وشرب وفواتير وعلاجك، لما تنوي تاخدي ورثك من أخوكِ الحرامي أبقي فكري في جوازي.
أنهت حديثها وخرجت من المنزل لتستنشق بعض الهواء النقي بعد اليوم الطويل والمرهق هذا.. بعد أن خرجت من بوابة البناية التي تقطنها سارت قليلًا إلى الأمام نحو تلك الحديقة الكبيرة نسبيًا الموجودة بشارعها الهاديء بذلك الوقت.. جلست على أحد المصاطب الخشبية تتطلع بالأشجار الذابلة بذلك الوقت في الشتاء.. رائحة الأمطار عالقة بالأجواء وساعدتها على الأسترخاء قليلًا.. لا تُريد أن تفكر في أي شيءٌ الأن.. هي فقط تريد أن تستمع بتلك الأجواء الرائعة..
وأثناء شرودها لم تنتبه لمن يقترب منها من الخلف يتطلع يمينًا ويسارًا ليتأكد أن لا أحد يراه.. وعندما أدرك اللحظة المناسبة أخرج منديلًا من بين ملابسه ثُم أقترب منها حتى أصبح خلفها مُباشرةً وبلحظة أنقض عليها يحاوطها ويضع المنديل على أنفها ليُخدرها..
حاولت " حبيبة " أن تقاوم لكن سرى مفعول المُخدر بجسدها فلم تملك إلا أن تستسلم وتسقط فاقدة للوعي بينما قلبها الصغير ينتفض ذُعرًا..
حملها المجهول نحو مصيرًا مجهول أخر ووضعها بسيارته ليقودها ويرحل بها بعيدًا دون أن يراه أحد ويعرف بأمر أختطافها....
--------------------يُتبع--------------