العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل ١٥
*الـفـريـسـة والـصـيـاد*
ذات يومٍ أهديتُکَ زهرة فأهديتني أنتَ صبارًا.. وكانت أشواكهِ قاتلتي..
بطبيعة الحياة تشرق الشمس صباحٍ بوهجها الجذاب وتغربُ ليلًا لتغرق السماء في ظلامها.. لكن هي تختلف عن هذه الطبيعة الكونية.. لقد أشرقت شمسها البارحة وقبل أن يأتي الليل غربت سريعٍ ليأتي ظلامها أسرع.. لكنها تعرف أنها لن تشرق مُجددًا.. فتحت باب منزلها وهي تشعر أن قلبها على وشك أن يتوقف من شدة الألم الذي تشعر بهِ بتلك اللحظة.. وقعت عيناها على هذا الجمع العائلي لكن الرؤية لديها كانت ضبابية.. لقد استنزفت طاقتها في البُكاء ولا تمتلك القُدرة الأن على التحرك خطوة إضافية.. لذلك تركت نفسها واستسلمت لآلامها.. لكن قبل أن تصل أرضٍ تلقفتها ذراعيّ " زين " ثُم حملها متوجهًا نحو غرفتها.. وأثناء ذلك وصل إليها الصراخ والعويل النسائي لوالدتها وخالتيها وشقيقاتها.. الجميع في حالة هلعٍ وهي تستمع إلى بعض الكلمات الغير مفهومة في تلك اللحظة بالنسبةِ لها.. كل شيءٍ ضبابي من حولها.. وأخر ما استمعت إليه صراخ " زين " بهن ليصمتن ومهاتفته للطبيب.. ثُم صمت كل شيءٍ من حولها وسقطت غارقة في ظلامها...
كانت السيدة " لطيفة " تجلس بجانبها على فراشها تحاوطها بذراعيها بحماية وكأنها تتمنى أن تحميها من شرور هذا العالم القاسي ومن نفسها إن لزم الأمر.. تبكي بقهرة على حال أبنتها وجسدها يرتجف من شدة بُكائها.. لا تعلم ماذا أصابها.. لقد كانت مشرقة هذا الصباح حتى أنها أبتسمت بسعادة للمرة الأولى منذُ فترة طويلة.. إذن ماذا حدث لها..!!
دلف " كريم " إلى الغرفة بصحبة الطبيب والذي بمجرد أن رأى هذا العدد من البشر هتف قائلًا بجدية وهو يستعد لفحص المريضة:- لو سمحتوا أتفضلوا برة كلكم وشخص واحد بس هو اللي يفضل معايا.
هزت السيدة " لطيفة " رأسها بأعتراض قائلة من بين شهقات بُكائها:- لا مش هسيب بنتي، لا.
كانت حالتها لا يُرثى لها.. تهذي بإسم " ليال " وهي ترتجف وتبكي.. أقترب منها " زين " ووالدته يساعداها على النهوض من جانبها ليستطيع الطبيب أن يفحصها.. نهضت معهما بتثاقل ثُم خرجت من الغُرفة وهي تدعوا الله أن يُنجي إبنتها الغالية.. لم يتبقى معها بالغرفة إلا " شهد و روان " وأنتظر الجميع بالخارج..
بعد مرور بعض الوقت مر عليهم كسنواتٍ وليست دقائق.. خرج الطبيب من الغرفة بملامح غير مُبشرة بالخير ثُم هدر قائلًا بعجلة:- للأسف الحالة صعبة دي بداية جلطة ولازم تتنقل المُستشفى بسرعة، أنا هتصل بالإسعاف.
بعد كلمة " جلطة " التي اخترقت مسامعهم ووقعت عليهم كالصاعقة صدحت شهقاتهم المصدومة بينما بدأت " رجوى و بتول " بالبُكاء والسيدة " لطيفة " وشقيقتيها بالنواح والعويل.. حينها هدر " زين " قائلًا بحزم:- مش لسة هنستنى الإسعاف، هننقلها في عربيتي وأنت معايا يا دكتور.
وبالفعل دلف إلى غرفتها ثُم حملها بين ذراعيه وهذه المرة لاحظ كم أنها خسرت من وزنٍ حتى أنها أصبحت بخُف الريشة.. كانت تبدوا كزهرة ذابلة فقدت بريقها وعلى وشكِ أن تفقد حياتها أيضًا..
تحركت جميع العائلة خلف سيارة " زين " بسيارتهم يتبعهم أفراد الحراسة.. والجميع بلا تردد يدعوا إلى " ليال " لتنجو...
فور وصولهم إلى المشفى تعامل الأطباء مع الحالة سريعًا لإنقاذها.. وانتظرت العائلة بالرواق ولسانهم يردد الكثير من الدُعاء لها.. وبعد الكثير من الوقت خرج إليهم نفس الطبيب وعلى ملامحه الإجهاد.. أقتربوا منه جميعًا وكانت أول من تحدثت هي والدتها التي هتفت قائلة بلوعة أمٍ على فلذة كبدها:- بنتي حصلها إيه، طمني الله يخليك.؟
تنهد الطبيب قائلًا بعملية وأسف:- خير بأمر الله، بالرغم إن الحالة وصلت متأخر بس قدرنا نلحقها وأخدت حقنة عشان تدوب الجلطة، هي حاليًا في العناية المُركزة وإحنا بنتابع مؤشراتها الحيوية وبإذن الله خير.
تنفس الجميع الصعداء ورددوا الحمد لسلامتها بينما الطبيب استأنف حديثه بجدية قاطعة قائلًا:- بس لازم تاخدوا بالكم من حاجة مهمة جدًا، الجلطات مش دايمًا بتكون أسبابها عضوية، كتير حالات بتيجي بتكون بسبب أنها أتعرضت لضغط نفسي شديد أو زعل أدى للجلطة، ودة اللي باين قدامنا من الفحص الطبي للحالة، عشان كدة بمجرد ما تفوق بإذن الله لازم تبعدوا عنها أي ضغط أو أي شيء أو شخص ممكن يكون وصلها للحالة دي، وحمد لله على سلامتها.
بعد أن أنتهى الطبيب من سرد تقريره عن الحالة رحل تاركًا الجميع يقفون حول بعضهم البعض بملامح حزينة.. متألمة.. غاضبة.. صمت هو كل ما يُحيط بهم وكأن على رؤوسهم الطير.. بينما " زين " كان يعلم السبب الذي أوصل شقيقته إلى هذه الحالة.. وبدون إضافة حرف كان ينسحب من بينهم دون أن ينتبه إليه أحدًا منهم.. خرج من المشفى بملامح غاضبة.. عازمة على الثأر.. ثأر لم يبدأ فقط من الليلة بل بدأ قبل أكثر من ثلاث سنوات.. والليلة سينتهي كل شيءٍ....
---------------------------------
لقد فقد لحن هواه منذُ زمنٍ.. فقده باللحظة التي فقدها بها.. عندما اقتحمت حفل زفافهما بملامحها التي كانت تشبه حينها الرُخام الأبيض في جمودها وبرودها.. عيناها كانتا غائرتين ميتتين.. كأنهما لم يعودا ينتميان إلى عالم الأحياء.. لم تهتم بجميع النظرات المُعلقة بها.. بينما هو لم يكُن مُنتبه إلى حالة الإعياء التي تبدوا عليها.. استبد بهِ القلق.. بل الرُعب من أن يكون هناك مكروهًا قد أصابها.. فتحرك نحوها بخطوات متعجلة.. ونظرات مُتلهفة.. ونبضات تخفق بشكلٍ جنوني.. لكن قبل أن يصل إليها كانت ترفع بين يديها شيءٍ كانت تمسكه ولم ينتبه إليه هو في خضم إنشغاله بها.. ثُم قامت بشق هذا الشيء إلى نصفين والقته أسفل قدميه.. والذي لم يكُن سوى فُستان زفافها الأبيض..
وبالرُغم من كل ما حدث سابقًا.. وتلك القطيعة التي دامت بينهما لأكثر من ثلاث سنوات.. لم يشعر بأن نهايتهما قد اقتربت كما يشعر الأن.. ما فعله بها اليوم لن تنساه " ليال " طوال حياتها.. قد تنساه هو.. وتنسى حبهما لكن فعلته لن تنساها.. لقد ذبحها ووقف يشاهدها تلفظ أنفاسها الأخيرة دون أن يحرك ساكنًا.. لكن قبل أن تُكتب النهاية عليه أن يتأكد من أمر خيانته لها التي تتشدق بها وإلا لن يرتاح البال ما حيا..
أمام دار " آل سُليماني " توقفت سيارة " عاصي " في انتظار أن يفتح الحُراس البوابة الخارجية لكن توقفت أمامه سيارة أخرى على حين غرة ولم تكُن سوى سيارة " زين "..
ترجل الأخير من سيارته ثُم سار بخطوات ثابتة نحو سيارة " عاصي " الذي بمجرد أن رأه سقط قلبه بين قدميه مُعتقدًا أن شيءٍ ما سيء أصاب " ليال ".. لذلك لم يتردد وهو يترجل من سيارته هو الأخر يتبعه رجال حراسته الخاصة يُحاوطونه من كل أتجاه.. وقف الشابين أمام بعضهما البعض وبلحظة لكم " زين " وجه " عاصي " بقوة جعلته يختل توازنه ويتراجع خطوتين إلى الخلف بينما هدر الأول قائلًا بصراخ مُرعب:- عايز منها إيه ها، عايز من أختي إيه، عايز توصلها لإيه تاني، عملت فيها إيه عشان توصل للحالة دي تاني.!
كان كل كلمة يتبعها لكمة بمكان مُختلف بينما " عاصي " كان مشوشٍ بسبب حديثه وذكره لها.. لكنهُ تمالك نفسه وقام برد اللكمات إلى " زين " بالمقابل حتى أخرج الأخير سلاحه وأشهره بوجه " عاصي ".. بتلك اللحظة أشهر جميع رجاله سلاحهم بوجه الشاب الثائر والذي هدر قائلًا بقسوة مجنونة:- أنا هريحها منك دلوقتي.
لكن لم يحسب أحد حساب تلك الرصاصة الغادرة التي خرجت من سلاح الحارس الذي يقف خلف " زين " لتستقر رصاصته بجسده دفاعٍ عن رب عمله.. بنفس اللحظة التي خرجت بها رصاصة أخرى من سلاح " زين " لتستقر بجسد " عاصي ".. ليسقطا أرضٍ غارقان بدمائهما..
تزامن صوت إطلاق الرصاص مع خروج عائلة السُليماني بأكملها بعد أن استمعوا إلى الضوضاء بالخارج.. بنفس وقت وصول سيارة " جواد " برفقة " چيداء وتالين " التي بمجرد أن رأت منظر الدماء وجسد ابن عمها مُلقى أرضٍ حتى صرخت بفزع..
كان المنظر مُهيب للجميع.. وكأن ليلة زفاف " عاصي و ليال " تُعاد من جديد.. تحرك " كارم ورامز وجواد " نحو الشابين ليروا ما أصابهما بينما النساء بدأن بالعويل والصراخ.. كما أن والد " عاصي " وعميه برفقة جده توجهوا نحوه ليطمئنوا عليه..
وكان الوضع كالآتي.. الحارس الذي أطلق الرصاصة على " زين " لم يكُن ناويًا إصابته بل فقط إخافته ليترك السلاح من يده قبل أن يؤذي رب عمله.. لكن الأخير تحرك عدة إنشات قليلة بحركة مُفاجأة مما جعل الرصاصة تُصيب أعلى كتفه وكأنها بالكاد لمسته فكان جرحٍ سطحيًا والرصاصة خارجه.. ونتيجة ذلك حادت كف " زين " الممسكة بالسلاح والموجهة نحو " عاصي " عن طريقها مما جعل رصاصته أيضًا تمُر بأعلى كتفه مرور الكرام تاركة جرح سطحي بسيط.. لكن بالنهاية نزفا الشابين وسقطا أرضٍ بألمٍ..
عندما رأى " كارم " حالة شقيقه انتفض قلبه وبلحظة تهور أخرج سلاحه ليضعه برأس " زين " الذي كان ورُغم جرحه إلا أنه واجهه بصلابة ورباطة جأش.. حينها صدح صوت " عبدالرحيم السُليماني " بنبرة جهورية صلبة قائلًا:- بس أنت وهو، كفاية كدة.
وكأن صوته وحديثه إشارة لصمت الجميع.. وبالفعل أنزل " كارم " سلاحه يتبعه باقية أفراد الحراسة وتوجه " جواد " نحو " زين " يطمئن عليه وهو يلعنه ويلعن ابن عمه أيضًا لكن الأول رفض مساعدته ووقف بجسده الضخم يواجه الجميع بجمود وهو يضع كفه على جرحه مُحاولًا وقف النزيف.. نظر إليهم بعينان تلمعان بالبأس والقسوة هادرًا:- فهم حفيدك إن لو أختي حصلها حاجة، ولو مبعدش عنها المرة الجاية سلاحي مش هيغلط ورصاصتي هتبقا في دماغه.
ودون أن ينتظر رد من أحد تحرك بخطوات ثابتة نحو سيارته ثُم انطلق بها مُخلفٍ موجة غبار من حوله بوجه الجميع وتركهم يقفون بصدمة غير مستوعبين ما حدث حتى اللحظة.. ومالذي جعل بحر الدماء هذا يعود من جديد.. بينما " عاصي " كان يعرف جيدًا السبب لكن ما استوقفه هو سؤالًا واحدًا ما الذي أصابها ليثور " زين " هكذا..!!
---------------------------------------
أوقف سيارته بواحدًا من الشوارع الجانبية الهادئة بذلك الوقت.. رُغم أن الوقت لم يكُن متأخرًا إلا أن الشارع كان هاديءٍ وكم كان ذلك جيدًا بالنسبة لهُ.. أرجع رأسه إلى الخلف وأغمض عيناه لعله يحصل على بعض الراحة.. وضع كفه على الجرح بكتفه والذي كان قد توقف عن النزف لكنهُ مازال يؤلمه.. ولم تكُن آلام جسده هي التي تهمه الأن بل آلام قلبه وعقله.. سقوط " ليال " أمامه اليوم وتعرضها للموت جعله ينتفض داخليًا.. ماذا فعلت ليُصيبها ما أصابها.. منذُ سنوات وهي تتألم.. بعد أن كانت تشُع سعادة وبراءة أصبحت مجرد شبحٍ لفتاة كانت موجودة ولم تعُد على قيد الحياة.. هل كل هذا لأنها أحبت.. هل هذا ما يحدث للمرء حين يُحب.. يذبل ويتذلل..! حسنًا هو لن يُحب حتى لا يتعرض لخيبة أمل تلو الأُخرى..
وفور أن اتخذ قراره راضيًا انتفض على صوت طرقات قوية على زجاج السيارة بجانبه.. اتسعت عيناه بصدمة بالغة.. لا يصدق وجودها أمامه الأن وبتلك اللحظة.. تقف بجانب باب سيارته تنظر إليه بحدائق الزيتون خاصتها القلقتين.. وبدون شعور منهُ همس بإسمها دون صوت.. فقط تحركت شفتيه..
بينما هي قراءت إسمها من بين شفتيها.. وعلى الرُغم من الرعشة التي أصابت قلبها بتلك اللحظة لكنها لم تظهر ذلك وهي تفتح باب سيارته ثُم اقتحمتها عليه.. كان هو مُمدًا على مقعده ومازال كفه على كتفه وقد نساه هُناك وهو يُراقبها تقترب منه قائلة بهلعٍ:- يانهار أزرق، أنت بتنزف.!
كان مشدوهًا بها.. يتأملها بدهشة وقد كانت قريبة منهُ للغاية.. حتى شعر بنفسه يتنفس أنفاسها.. فهي قد أقتربت لتتفحص الجرح ثُم هدرت قائلة بغيظ دون أن تنتبه على ما أصابه من لمسة أصابعها على جسده:- يعني الناس تتعور تقوم تجري على مستشفى ولا عيادة لكن أنت واقف متنح وسرحان.!
أبتسم.. نعم لقد أبتسم ومن ثُم تحولت الإبتسامة إلى ضحكة.. ضحكة عالية أجفلتها وجعلتها تتوقف لثوانٍ تحدق بضحكته التي أرتجف قلبها لها.. حدقت بهِ ببلاهة وعندما أنتبه هو إليها لم يرد أن يُشاكسها كالمُعتاد.. شعر بالخوف من أن تغضب فتهرب وهو بحاجتها الأن.. هتف قائلًا بإبتسامة هادئة:- متنح.! عارفة إنتِ لو راجل وقالي الكلمة دي كان زمانه بقا فين دلوقتي.!
عادت هي من شرودها بضحكته الرائعة ثُم زمت شفتيها بضيق قائلة:- مش عايزة أعرف ياخويا، يلا إتكل على الله على أقرب مستشفى عشان يطهروا ليك الجرح، وحمد لله على سلامتك.
تحركت إنشٍ واحدًا في طريقها للرحيل ولم تحسب حسابًا لتلك القبضة القوية التي أعتصرت مرفقها لتلتفت بقوة وتصطدم بجسده.. شهقت بخجل وذهول من قُربهما المُفاجيء وزحفت حمرة الخجل إلى وجنتيها فتحولتا إلى ثمرتين فراولة.. بينما هو أفلتها سريعًا قبل أن يثير غضبها ثُم هتف قائلًا بنبرة حانية يشوبها الحزم:- مش هروح لوحدي، لو جيتي معايا هروح أطهر الجرح.
توسعت عيناها بصدمة قائلة:- أجي معاك فين، وأنا مالي ياعم.!
أحتلت الجدية ملامحه وهدر قائلًا ببرود:- اللي عندي قولته، ولو إنتِ عندك استعداد ترواحي بيتك وتنامي مرتاحة وإنتِ سايبة وراكِ إنسان مسكين زيي بينزف في الشارع لوحده وعلى وشك يموت يبقا مفيش مشكلة، أنا هسيبك لضميرك.
فغرت فاهها بصدمة.. لقد تحول الأمر إلى إنساني بحت بثوانٍ.. أغمضت عيناها بغضب من نفسها لأنها وقفت لهُ بالأساس.. ثُم فتحتهما بعد لحظاتٍ قليلة لتجد نفسها تحت مراقبة عيناه السوداوية الغامضة.. يتأملها بتعبيرًا غامض لم تفهمه أو.. خشيت أن تفهمه..
جزت على أسنانها قائلة بغيظ:- أنقل على الكرسي التاني عشان أنا اللي هسوق.
أبتسم بذهول.. لم يكُن يعتقد أنها ستوافق.. يعلم كم هي صلبة.. عنيدة لكن يبدوا أيضًا أنها طيبة القلب.. وساذجة.. ليست بنسبة كبيرة لكنها بالنهاية ساذجة.. ماذا لو كان شخصٍ أخر وأراد بها السوء..! لكن بتلك اللحظة لم يهتم إلا بوجودها معه.. لذلك بمنتهى الوداعة التي لا يملكها حقًا أنتقل إلى المقعد المجاور.. وأثناء ذلك إتكىء على الجرح فخرجت منهُ آهة مكتومة متألمة.. صعدت " فلك " سيارته ثُم أغلقت الباب خلفها وأقتربت منهُ سريعًا لتتفحص الجرح قائلة بقلق:- دة شكله بينزف تاني، مش تاخد بالك.
ثُم وبحركة عفوية كانت تسحب الشال الرقيق من على رأسها لتسترسل خصلاتها للبُنية المائلة للشُقرة على ظهرها بنعومة أجفلته.. أقتربت منهُ أكثر دون أن تنتبه إلى شِبه إنعدام المسافة بينهما ثُم حاوطت الجرح بالشال الصغير لتوقف النزيف قبل أن يموت..
بينما هو كان غائبًا برائحة الياسمين بشعرها.. غمر أنفه بين خصلاتها بخفة دون أن تشعر بهِ ثُم استنشق عبيرها وتمنى بتلك اللحظة لو كان لديه الحق ليفعل أكثر.. أنتبه على نفسه وعلى ما يفعله ويتمناه وهذا ما يُخالف ما قد وعد نفسه بهِ قبل قليل.. أبعد رأسه قليلًا عنها وهو يتنفس بصعوبة نتيجة مشاعره الهائجة بتلك اللحظة.. بينما هي فور أن أنتهت من ربط الجرح أبتعدت بجسدها وتولت قيادة السيارة قائلة بجدية:- إن شاءالله على ما نوصل هيكون النزيف وقف.
تجاهل حديثها وهدر قائلًا بنبرة متحشرجة:- أطلعي على عيادة دكتور " جمال " في شارع "...".
لم تُجادله وتوجهت إلى هناك صامتة.. تتمنى لو تمر تلك الليلة سريعًا.. لكن الغريب أنها ليست نادمة لأنها ساعدته من البداية..
------------------------------------------
بعد مرور ساعتان أنهى خلالهما الطبيب معاينة جرح " زين " وتطهيره ثُم قام بتقطيبه هتف قائلًا بعملية:- الجرح سطحي ومش خطير، حتى النزيف مش كتير بس هتحتاج تغيير عليه يوميًا وتهتم بيه، هكتبلك على مضاد حيوي وحاجة للسخونية عشان لو الجرح سبب أي مضاعفات، ومتنساش التغذية مهمة جدًا عشان الجرح يلم بسرعة.
اومأ لهُ " زين " بهدوء بينما نظراته كلها متوجهة نحو تلك الشقراء الجميلة التي تقف بجانب باب الغرفة تنظر إليه بثبات لكن لم تستطيع أن تخفي نظرات القلق التي تفر من بين سجن عيناها من الحين والآخر..
كانت هادئة عكس كل مرة رأها بها.. هادئة هدوء يصاحبه قلق عليه وكم أعجبه هذا وأرضى غروره.. منذُ اللحظة الأولى التي رأها فيها وأدرك أنها فتاة وتقابلت نظراتهما شعر بالغيظ لتجاهلها لهُ وعدم رؤيتها تتأثر بهِ وترته وهو الذي لم يعتاد على ذلك من قبل..
لكن الأن بعد أن وافقت على أن تأتي معهُ إلى العيادة وتقف بكل هدوء تتابعه أرضته كثيرًا..
خرج معها من عيادة الطبيب ولاحظ شرودها فهتف هو بنبرة رخيمة قاطعٍ الصمت:- شُكرًا.
رأها تنتفض لثوانٍ وكأنها نست وجوده بجانبه وصوته أعاد لها الذاكرة.. نظرت إليه بعينين هادئتين ثُم هدرت قائلة بنبرة جافة نظرًا إلى طبيعتها التي تفتقد إلى وجود أية مشاعر:- العفو على إيه، أنا معملتش غير الواجب.
أبتسم " زين " بهدوء قائلًا:- أنا مش هنسى وقفتك معايا النهاردة.
توقفت عن السير فوقف هو الأخر ينظر إليها ليجدها تتحدث بكل حزم قائلة:- أنا معملتش حاجة تستاهل، أنت كان ليك جمِيل في رقبتي وأنا كان لازم أسدده.
عقد حاجباه قائلًا بعدم فهم:- جمِيل إيه دة.!
أخذت نفسٍ عميقٍ ثُم هدرت قائلة بنبرة حاولت أن تخرج لامُبالاية لكنها خرجت حزينة:- يوم ما أصحاب " صالح "أتهجموا عليا أنت جيت ووقفت معايا، ولسة حابسهم دة غير إنك بتدوار عليه، ودي حاجة أنا عمري ما هنسهالك.
تألم قلبه لنبرة الحزن بصوتها الجميل.. لا يعلم هذه الجميلة التي تقف أمامه ماذا فعلت بحياتها ليكون هذا نصيبها..!
مثلها خلقت للدلال.. خلقت لتكون أميرة وجميع من حولها في خدمتها.. رؤية ملامحها المُتعبة.. نظراتها الحزينة.. نبرتها المُنكسرة كانوا بمثابة لكمات موجهة إلى قلبه.. حتى لو حاولت أن تخفي كل هذا خلف قناع القوة واللامُبالاة لكن من يقترب منها ويراها بوضوح يُدرك أي روحٍ مُهترئة تملكها..
هتف قائلًا بتساؤل جاد:- إنتِ ليه مفكرتيش تشتغلي شغلانة تانية غير دي.؟
صُدمت لتغيير مجرى الحديث لكنها أجابته على كل حال قائلة بجدية:- هشتغل إيه يعني، أنا خريجة تجارة إنجليزي ومعايا لغة بس أنت عارف بقا حال بلدنا، لازم يكون عندك واسطة عشان تشتغل في بنك محترم، وأنا جربت شغل في أماكن كتير، محلات ومصانع وورش، وكل اللي يخطر على بالك، وفي الأخر خلصت على توك توك.
هتف قائلًا بصدمة:- إنتِ خريجة تجارة إنجليزي ومعاكِ لغة.!
ضحكت " فلك " قائلة بمرح طفيف:- مش باين عليا صح.!
لم يستجيب لمرحها فهو كان بأوج صدمته بها.. لذلك هتف قائلًا بجدية:- أعتبري الواسطة موجودة.
نظرت إليه بإستخفاف ثُم هتفت قائلة:- طيب يلا عشان أنا اتأخرت ولازم أرواح.
أستقلا سويًا السيارة وأصر " زين " أن يقود هو هذه المرة فطاوعته دون جدال.. كان الطريق صامتٍ وكأنهما فقدا القدرة على الكلام أو أن الصمت بينهما كان جميلًا لدرجة أنهما خافا أن يقطعاه..
توقفت سيارته " زين " أمام التوك توك الخاص بها.. هدرت هي قائلة بنبرة عادية وهي على وشك أن تترجل من السيارة:- شكرًا على التوصيلة، وحمد الله على سلامتك.
= " فلك ".!
توقفت عن الحركة فور أن أستمعت إلى إسمها من بين شفتيه.. أكتشفت للتو أن صوته لهُ بحة مُميزة عندما ينطق إسمها.. نظرت إليه ببريق عيناها قائلة بخفوت:- نعم.
نظر إليها بعينان تلمعان بتعبيرًا غامضٍ ثُم هدر قائلًا بخشونة وهو يلتهم ملامحها بعيناه:- مش هتسأليني مين اللي ضربني بالنار.؟
مطت شفتيها للأمام قائلة ببساطة:- متعودتش اسأل في حاجة متخصنيش، وبعدين أنا متأكدة إنك أنت كمان علمت عليه وخدت حقك.
ضحك بخفوت فأبتسمت لهُ إبتسامة إرتجف قلبه لها.. ثُم ترجلت من السيارة متوجهة نحو التوك توك.. ترجل هو خلفها وناداها للمرة الثانية بإسمها لتتوقف.. نظرت إليه بتساؤل فهتف هو قائلًا بحزم:- أنا هجيبلك شغلانة في أي مكان تختاريه.
على الرُغم من افتقادها للإهتمام بحياتها لكنها ليست الغرة الساذجة التي ستنخدع بوسامة وشهامة الأمير وولي عهد عائلة العفريت فتُسلم حصونها كالمُغيبة.. لقد تعلمت أن لا أحد يُعطي شيءٍ ما بدون مُقابل.. وبالتأكيد المقابل الذي يريده لا تملكه.. أو تملكه ولن تُعطيه لهُ..
أبتسمت ببرود قائلة:- متشكرين لخدماتك بس أنا مش محتاجة شغلانة تانية، أنا أصلًا مهاجرة ومش ناوية أطول هنا.
وهكذا ببساطة قادت التوك توك خاصتها وتحركت بهِ مُبتعدة عنهُ.. لم تنتبه أنها فضحت سرها الصغير أمامه.. ولم يكُن هو بغافلًا عن أية شاردة أو واردة تصدر عنها.. لذلك عزم على أن يتأكد من أمرها مهما حدث...
----------------------------------
الرغبة في الأنتقام تعني التحالف مع شيطانك لكن أنتبه لا شيء بهذا الزمان بلا مُقابل..
منذُ اليوم الذي عادت بهِ إلى المنزل وهي بالكاد تنام أو تستريح.. الكوابيس تُحاصرها بكل إتجاه حتى بصحوها.. حياتها أصبحت كالجحيم ولا تعرف طريق الخروج منهُ.. صوت الوغد وهو يُخبرها بأنهُ من قتل والدها لا يختفي من عقلها.. وصورة والدها وهو ميتٍ بين أحضانها هي ووالدتها لا ترحمها.. ورغبة حارقة في الأخذ بثأرها تحرق قلبها وأحشائها تحثها على فعل الكثير..
بالأيام الأخيرة بدأت في مراقبة " ماهر المهدي " جيدًا.. ولأن غروره صور لهُ أنها لن تعود لتنتقم لم يهتم بأمرها مُجددًا.. وبالوقت الذي كان يلهو بهِ كانت هي كظله.. لقد عرفت كل شيءٍ عنهُ.. وتكاد تكون أقرب إليه من أنفاسه.. لكنهُ لا يراها..
عزمت أمرها على أن تُنهي الأمر سريعًا.. لذلك الليلة كانت مُناسبة تمامٍ لتنفيذ ما خططت لهُ.. خرجت من غُرفتها مُتشحة بالسواد كسواد روحها بتلك اللحظة.. حتى خصلات شعرها اللولبية أخفتهم جيدًا أسفل غطاء رأسها.. مرت على غرفة والدتها ووقفت أمام الباب تتأملها بحُب يشوبه الحزن.. تعلم أنها لن تراها بعد تلك الليلة.. وستتغيير حياتها جذريًا بعد أن تُنفذ ما هي مُقدمة عليه لكن لا تملك إلا أن تواصل ما عزمت عليه.. لن تستطيع أن تعيش وبداخلها رغبة بالثأر تحرقها حية.. لن تستطيع أن تعيش وقاتل والدها حي..
خرجت من بوابة البناية التي تقطنها وأدركت صحة اختيارها لهذا التوقيت.. حيثُ أن الشارع كان هاديءٍ يكاد يكون خاليًا من البشر.. وهذا بالضبط ما تريده.. سارت قليلًا حتى الشارع الرئيسي ومن هُناك استقلت سيارة أجرة.. أخبرت السائق بالعنوان والذي كان ملهى ليلي يسهر بهِ " ماهر المهدي " كل ليلة خميس.. وعند خروجه من الملهى يكون ثمل وبالكاد يقف على قدميه.. كما أنهُ لا يكون معه سوى حارس واحد حتى لا يُلفت إنتباه الناس نحوه.. فهو شخصية معروفة بالنهاية.. اختارت اليوم بالتحديد لأنها عرفت أن " عابدين " بسفرية عمل ولن يعود قبل ثلاثة أيام.. مما يعني أن " ماهر " سيكون بمفرده دون حماية فعلية..
بعد مرور ساعة كانت تقف بشارع ضيق قريب كثيرًا من الملهى.. تراقب الداخل والخارج في إنتظار اللحظة المُلائمة لتنفيذ خطتها.. ملامحها الجميلة شاحبة كشحوب الأموات.. ومخفية أسفل وشاح أسود قامت بلفه حول وجهها لتخفي ملامحها.. عيناه وآآه من عيناها.. فاقدتين للحياة بتلك اللحظة.. بينما ضربات قلبها تنتفض بذعر لكن رغبتها في الثأر كانت أقوى من ذُعرها.. تحتمي بظلام الليل من الأعين..
وها قد حانت اللحظة المُناسبة عندما رأته يخرج من الملهى مُستندًا على حارسه يترنح بعدم وعي وهو يُدندن أغنية ما بسعادة وهمية.. لمعت عيناها بدموع القهر.. صورة والدها لاتنفك تطاردها.. يجب أن تثأر.. لن ترتاح حتى تأخذ بحقه..
تركه الحارس يقف وحيدًا وذهب لكي يُحضر السيارة.. أخرجت من بين ملابسها سكينٍ كبير الحجم بنصل حاد لامع.. ثُم أقتربت منهُ بخطوات حذرة وهي تتأمل خلو المكان من حوله.. نظراتها تتنقل بين الشارع وبينه.. تتأكد من وقوفه أمامها الأن.. ضربات قلبها تكاد تصم أذنيها من شدتها.. لم تكن تتخيل باسوأ كوابيسها أن تتحول إلى قاتلة.. لكنه قدرها وانتهى الأمر..
أصبح بينها وبينه خطوتين فقط وهو يقف أمامها ظهره لها لا يعي ما يحدث من خلفه.. بتلك اللحظة رفعت ذراعها المُمسكة بالسكين عاليًا عازمة أمرها على قتله لكن قبل أن تهوى بها على جسده كانت هناك يد تقبض على ذراعها تسحب منها السكين ثُم تحاوط فمها قبل أن تشهق حتى. وأخرى تُحاوط خصرها وتحملها بعيدًا عن ذلك المكان بأكمله..
توسعت نظراتها برُعب. وتواثبت دقات قلبها هلعٍ.. كانت تتساءل بداخل عقلها بذعر وهي تحاول أن تفر من قبضة ذلك المجهول هل وقعت بين يد رجال " ماهر ".. هل سيتخلصون منها قبل أن تأخذ بثأر والدها..! عند هذه الخاطرة ازداد هياجها وعصبيتها.. كانت تتحرك بجسدها يمينًا ويسارًا وعندما شعرت أن قبضة خاطفها أرتخت قليلًا عن فمها قامت بقضم قبضته بين أسنانها مما جعله يطلق آه متألمة.. استغلت تلك اللحظة لتتحرر منه.. وبالفعل أطلق المجهول سراحها لكنها وجدت نفسها بزقاق ضيق ونهايته مسدودة.. كان وشاح رأسها أنحل فكشف عن خصلاتها الغجرية.. وفستانها الأسود الهفهاف يتطاير من حولها مما جعلها تبدوا كامرأة مجنونة فقدت عقلها.. لكن بالنسبة لذلك المُتيم بها كانت خلابة.. التفتت تنظر إلى من تجرأ وخطفها من أهم لحظة بحياتها لتتفاجأ بـ " جواد " يقف أمامها يتحسس بيده الأخرى مكان عضتها المتوحشة.. يسد عليها الطريق بطوله الفارع وجسده الضخم.. بينما نظراته كانت مُلتهبة.. نعم لقد شعرت بها تحرقها.. كانت عيناه البندقيتين مشتعلتين كجمرتين.. غاضبتين أم.. شيءٍ أخر لا تعلم..
كان صدرها يعلو ويهبط بعدم إنتظام.. أنفاسها تلتقطها بصعوبة ولا تجد القدرة الكافية على تنظيمها بينما أطرافها تشعر بهما كالرخوة.. غير قادرتين على حملها..
همست قائلة بذهول وأنفاسٍ لاهثة:- أنت.! أنت عرفت مكاني منين.!
أبتسم " جواد " إبتسامة مُخيفة أكثر منها مُطمئنة ثُم هدر قائلًا ببساطة:- براقبك.
شهقت بصدمة غير مصدقة صراحته.. هل قال للتو أنهُ يراقبها.! أي إنسان طبيعي يراقب إنسانٍ أخر بالأساس.!
عقدت حاجباها قائلة بدهشة:- بتراقبني، ليه.!
تحولت الإبتسامة على شفتيه إلى خط رفيع قاسي ثُم هدر قائلًا بتساؤل:- كُنتِ هتعملي كدة ليه، يستحيل دة يكون رد فعلك لمجرد إن هو خطفك.؟
صُدمت بمعرفته أمر خطفها من قِبل " ماهر المهدي " وهتفت قائلة بإرتعاش:- عرفت منين إن هو اللي خطفني.؟
ضحك بخفوت ضحكة لا تنتمي إلى المرح بشيءٍ ثُم هدر قائلّا بنبرة عميقة أرسلت رجفة بطول عمودها الفقري:- أنا أعرف عنك كل حاجة، كل حاجة ممكن تتخيلها عارفها عنك.
المُترصد.. المُتطفل.. هل أخبرها قبل قليل أنهُ يُراقبها والأن يُخبرها ببساطة أنهُ يعرف عنها كل خباياها..!
هدرت قائلة بعصبية:- أنت شكلك مجنون صح، ما أهو اللي بيحصل دة مش طبيعي، في كل حتة بلاقيك بتطلعلي معرفش منين، أنت عايز مني إيه.!
ضحك " جواد " ضحكة قاتمة ثُم هدر قائلًا بخشونة:- عايزك.
اتسعت حدقتيها بعدم إستيعاب.. فاهها كاد أن يصل إلى الأرض بعد كلمته الجريئة التي تفوه بها هكذا بدون ذرة تفكير.. وعلى الرُغم من غضبها لكن زحفت حُمرة الخجل نحو وجنتيها.. بينما هو كان يُتابع إنفعالاتها بنظراته التي تلتهمها.. يُحبها.. ولا يعلم متى أحبها كل هذا الحُب.. يُحبها ويخاف عليها من كل شيءٍ حولها ومن نفسها أولًا.. شعر بالشفقة عليها عندما رأى غضبها من صراحته وجراءته معها.. لم يكُن يُخطط للأمر أن يحدث بهذه الطريقة لكنها لم تترك لهُ مجال لشيءٍ أخر.. اليوم كانت على وشك إرتكاب جريمة لذلك يجب أن يتزوجها وتبقى تحت عيناه.. سيحميها من نفسها حتى ولو بالقوة..
ضمت قبضتها بقوة تُفرغ بها غضبها ثُم نظرت إليه بعينين ناريتين قائلة بقسوة:- وأنا أقول برضه بتطلعلي زي عفريت العلبة في كل حتة ليه، وليه كل مصيبة بقع فيها بتنتهي بوجودك، وطقم الحنية اللي وزعته على أمي يوم القسم، كل دة بتعمله عشان أغراضك الدنيئة، بس لأ، مش أنا ياحبيبي اللُقمة السهلة الطرية اللي ناوي تبلعها، أنت قولت تلاقيها حتة بت غلبانة وفقيرة هتسلى بيها يومين وأرميها صح.!
أختفى الغضب والضيق منها.. حتى الشيطنة التي كانت مُرتسمة على ملامحه قبل قليل أختفت.. أبتسم أبتسامة واسعة.. هائمة ثُم هدر قائلًا:- حبيبي طالعة من بين شفايفك زي السُكر، ومن ناحية طرية فـصدقيني مفيش أطرى وأهبل منك ياحبيبتي، وبالنسبة لموضوع أغراضي الدنيئة دة أيوة أنا هتجوزك عشان كل الأغراض الدنيئة اللي في دماغك الصغيرة الحلوة دي، فإيه رأيك نلم الدور ونتجوز ولا أعملك فضيحة وأقول إنك بتتغرغري بيا ووقتها هتبقي مضطررة تتجوزيني.!
فقدت القُدرة على النطق.. حقًا أفقدتها قدرتها على الحديث.. لكن غضبها كان ظاهر بوضوح على ملامحها الجميلة.. نظرت إليه شزرٍ قائلة:- دة في أحلامك.
وبنفس الإبتسامة أجابها قائلًا:- لا دة أقرب مما تتخيلي.
نفخت أوداجها بغضب وترفعت عن الرد عليه.. تحركت مُبتعدة عنهُ وهي تنظر نحوه بضيق.. خرجت من الشارع الضيق تبحث عن سيارة أجرة لكنها تفاجأت بمن يقبض على معصمها ويسحبها نحو سيارته التي كانت أمامهما ثُم أدخلها بقوة وأغلق الباب من خلفها..
ثارت ثائرتها وهدرت قائلة بعصبية:- أنت مين سمحلك تمسكني كدة وتسحبني لعربيتك زي البهيمة.!
=وزي ليه يا حبيبتي.!
شهقت بصدمة من وقاحته.. ثُم وبمنتهى الهدوء الزائف هتفت قائلة:- وقف هنا أنا هنزل أخد تاكسي.
بدأ " جواد " يدندن أغنية ما بصوتٍ نشاز شعرت بهِ يخترق طبلة أذنيها ويؤذيهما مُتجاهلًا إياها تمامٍ.. وطوال الطريق لم تتوقف عن الصراخ بهِ بغضب ليتوقف عن الغناء السيء لكنهُ كان يزيد مُحاولًا إستفزازها وبداخله رغبة قوية في ضمها وتقبيلها لا تنتهي....
--------------------------------------
لم يكذب يومٍ حين قال أن ما بينهما لن ينتهي إلا بالموت.. فها هو كان على وشك الليلة أن يفقد حياته بفضل رصاصة " زين " التي اخطأت طريقها بمعجزة إلهية.. وها هي ممددة على الفراش الطبي ومُحاطة بعشرات الأسلاك الموصلة بالأجهزة الطبية والتي كان صوتها هو الدليل الوحيد على أنها مازالت على قيد الحياة.. جسدها النحيف أصبح ضعيفٍ كالخرقة البالية.. بينما ملامحها الجميلة فاقدة بريقها وشاحبة شحوب أقرب إلى شحوب الموتى.. وعيناها حبيبتيّ قلبه مُغلقتين فلا يستطيع أن يتأملهما بحب كما يُريد..
فور رحيل " زين " قامت عائلته بطلب الطبيب لتنظيف جرحه والأهتمام بهِ.. بينما هو كل ما كان يشغل باله هي.. يُدرك أن الأول لن يأتي ويثور هكذا إلا لو كان الأمر جلل.. لذلك سريعًا قام بمراسلة رجاله للتقصي عن الأمر.. وكانت الصفعة المؤلمة التي نزلت على قلبه قبل وجهه خبر إصابتها " بذبحة صدرية " وأحتجازها بالمشفى..
شعر حينها أن الأرض تتحرك أسفل قدميه.. وأن عالمه بأكمله يدور من حوله.. حتى أنهُ شعر بأن قلبه هو من يتألم بتلك اللحظة بدلًا من قلبها.. كان الطبيب قد أنهى عمله ورحل عندما هدر جده قائلًا بعصبية:- لغاية أمتى هنفضل في المرار دة، عايز إيه تاني من بنت العفاريت، مش كفاية اللي حصل لغاية كدة يا " عاصي "، ومش كفاية قضية الطلاق اللي رفعاها عليك واللي لو حد من البلد شم خبر بيها الفضيحة القديمة هترجع تتفتح تاني ومش هنخلص، اسمع أنت من بكرة هتروح تطلق البت دي، والقصة دي هتتقفل نهائي، فاهم.!
لم يستمع إلى حرف واحد مما هدر بهِ جده للتو.. كان يتأمل هاتفه ونظراته تقرأ رسالة الرجل الذي كلفه بالبحث عنها للمرة الألف.. لا يصدق الأمر..
لم يهتم بحديث أحد من عائلته بل خرج راكضٍ وقاد سيارته بسرعة فائقة.. يلتهم الطريق ليصل إليها.. لا يُريد أن يفقدها.. بل هو بالفعل كان سيفقدها وبسببه.. هو السبب بمرضها.. صدره يرتفع وينخفض بغضب من نفسه ومن كل شيءٍ حوله.. صرخ بغضب وقهر وهو يضرب عجلة القيادة بقبضته.. يُريد أن يُحلق ليصل إليها..
ووصل وتمنى لو لم يكُن قد فعل.. ها هو يقف بجانب فراشها يتأمل رقدتها بعينين غائرتين.. العِبرات تتجمع بهم لكنهُ يأبى أن يذرفهم.. ندم بشدة على قسوته معها.. لم يكُن يجب أن يفعل ما فعل.. لكن ماذا يفعل برغبته القوية بها.. كان على استعداد أن يدفع حياته مقابل أن يلمسها.. يشعر بها.. تعود مُجددًا إلى أحضانه.. ولا يستطيع أن يبعد يداه عنها.. وأمر خيانته لها أثار غضبه القديم والذي لم يهدأ بعد..
سقط على ركبتيه أرضٍ بقميصه الأبيض الغارق في دمائه وذراعه المُضمدة.. مد يده السليمة يُقربها من وجهها.. يتحسسه بحنانٍ كالماضي.. ثُم همس قائلًا بخفوت:- " لـيـال ".
لم تُجيب.. ناداها ولم تُلبي النداء كعاداتها.. هي الأن بين أحضان الموت والفضل الأول والأخير لهُ.. أغمض عيناه بتعب لتسيل عِبراته على وجنتيه.. ثُم فتحهما بعد لحظاتٍ ينظر إليها بحُب العالم أجمع.. أقترب برأسه منها ثُم طبع قُبلة حانية على جبهتها قائلًا بنبرة مُعذبة:- أنا أسف.
أبتعد عنها قليلًا يتأملها بوله وحُب شديدان.. يعشقها
لم تكُن مجرد حُب طفولة بريء.. أو مشاعر مراهقة تكونت بتلك المرحلة وكبرت معهما.. حُبه لها ليس مجرد حُب.. بل هي أنفاسه.. هل يستطيع المرء أن يعيش دون أن يتنفس..!
مرت الدقائق وهو مازال يتأملها ويردد آسفه على ما أصابها بسببه.. ثُم التقط كفها الصغير ولاحظ عروقها البارزة كما لاحظ كم أصبحت ضعيفة.. طبع الكثير من القُبلات عليه بحنانٍ وشغف.. وبعد الكثير من الوقت نهض من مكانه وتحرك نحو باب الغُرفة بينما عيناه مازالتا لا تفارقها.. وكأنهُ يريد أن يشبع منها.. وكأنهُ الوداع....
---------------------------------
في صباح اليوم التالي يجلس " زين " بداخل غرفة مكتبه يتأمل الملف الصغير الذي وصل إليه صباحٍ.. الغبية تُخطط للهجرة حقًا.. إسمها بين أسماء كثيرين آخرين تقدموا بنفس الطلب.. وصورتها تُزين الملف.. حتى أنها بدأت تستوفى جميع الشروط المطلوبة.. يتساءل كيف حصلت على كل هذا المال لتستوفي الشروط.. إذًا هي جادة.. تُريد أن ترحل..
كان يعلم أن فتاة مثلها ليست فريسة سهلة.. لكن من قال أنهُ صيادًا ضعيفٍ أو غبيًا.. تُريد أن تلعب.. حسنًا سيلعب...
---------------------يُتبع--------------