أخر الاخبار

رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل السابع

العفاريت 

رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل السابع


 رواية العفاريت بقلم ايه صبري
 الفصل السابع

     *سُـــم الأفـــعـــى*



الحياة حرب.. وكل حرب خدعة.. وكل خدعة يُحاوطها آلاف الصدمات.. 


" مجموعة آل سُليماني "



بداخل غُرفة أجتماعات " السُليماني جروب ".. غُرفة كبيرة تضم طاولة يصل طولها إلى ما قبل نهاية الغُرفة بقليل.. تضُم أيضًا شاشتيّ عرض كبيرتين لعرض مشروعات العمل القادمة.. وحول المائدة يجلس مجموعة من كِبار موظفيّ الشركة.. مع مُساعديهم وبعض الموظفين الآخرين.. وأمام واحدة من الشاشات يقف شاب في الثلاثين من العُمر يشرح شيءٍ ما وهو يتصبب عرقًا خوفًا من أن يُخطيء فيُعاقب.. بينما من يتوسط الطاولة " چيداء السُليماني " حفيدة " عبدالرحيم السُليماني " وضلع من أهم أضلاع العائلة.. شابة في التاسعة وعشرون.. طويلة بجسد فارع.. ممشوقة القوام.. تمتلك خصلات شعر بُنبة طويلة تسترسل على ظهرها بتموجاتها الخلابة.. وعيون بلون الشيكولاتة الذائبة.. يحاوطهما أهدابها الكثيفة.. يعلوهما حاجبان كثيفان منمقان.. وبشرة قمحية ناعمة.. كانت تجلس بمنتصف الطاولة ترتدي بذلة كلاسيكية باللون الأزرق الداكن بينما خصلاتها جمعتها على جانب واحد فقط.. تجلس على مقعدها الوثير تضع قدم على الأخر وتستند بمرفقيها على جانبيّ المقعد براحة.. تُراقب ذاك الذي يشرح شيءٍ ما بملامح مُبهمة.. لا يستشف منها أية ردة فعل مما جعله يتوتر أكثر ويُخطيء أكثر من مرة..  وفور أن انتهى وقف ينتظر رأيها لكن كل ما حصل عليه هو مُجرد نظرة غير راضية ثُم التفتت لتواجه موظفيها دون كلمة واحدة.. وإذا كان الصمت علامة الرضا كما يقولون.. فصمت " چيداء السُليماني " يعني عدم الرضا إطلاقًا.. خرج الموظف من غُرفة الأجتماعات مُطأطيء رأسه أرضٍ بحزن لفشله.. وعادت هي تستكمل أجتماعها الذي أنتهى بعد أكثر من ثلاث ساعات.. 


دلفت إلى غُرفة مكتبها تتبعها مُساعدتها الخاصة " رنيم " التي هتفت قائلة من خلفها بجدية:- " كارم " بيه جيه وسأل عليكِ أكتر من مرة يا " چيداء " هانم، وطلب إن أول ما الأجتماع يخلص أبلغه عشان عايز يقابلك. 


جلست " چيداء " على مكتبها قائلة بنبرة صوتها الناعمة:- أبعتي خليه يجي لما نشوف عاوز إيه. 


اومأت المُساعدة بهدوء وخرجت لتُنفذ طلبها.. وبعد قليل اقتحم " كارم " المكتب قائلًا بمرح مُفتعل:- إيه يا ست المُهمة، كل دة عشان أقابلك.! 


تراجعت تستند بظهرها على ظهر المقعد قائلة بنبرة عادية:- ما أنت عارف الشغل، ولا أنت جديد معانا هنا.! 


اوميء لها كموافقة على حديثها ثُم صمت يبحث عن طريقة يبدأ بها حديثه.. بينما صمتت هي الأخرى وتطلعت بهِ تتأمله.. " كارم السُليماني " إبن عمها الأكبر وشقيق " عاصي " كبير العائلة بعد عُمرًا طويلًا لجدها.. " كارم " بنفس عُمرها لكنهُ يَكبرها بشهرين فقط.. ورُغم ذلك لم يكُن مُقربًا لها.. لم تُحبه أو تستريح لهُ يومٍ.. جسده الضخم.. طوله الفارع.. عضلات جسده المُتكدسة بصورة تجعله يُشبه لاعبين كمال الأجسام.. ملامحه السمراء الخشنة.. ولحيته السوداء المُشذبة.. بينما عيناه أكثر ما يجعلاها تنفر منهُ.. عيناه سوداء تميل إلى البُني الداكن لكنها غير مُريحة.. تعلم جيدًا أي خبيث هو.. 


عادت من شرودها على صوته اللئيم وهو يهتف قائلًا:- عاجبك ولا إيه يا جوجو، لو كدة أنا ممكن أطلب إيديك من جدي وأهو زيتنا يبقا في دقيقنا. 


انهي حديثه بضحكة عالية لكنها لم تهتز.. لم تتغير تعبيرات وجهها بل تحدثت بهدوء واثق:- شكرًا لعرضك يا ابن عمي، بس وعد لو يوم كرهت نفسي وقررت أقرفها هتجوزك. 


تجهمت ملامحه وصمت بينما هي أبتسمت بأنتصار بداخلها ثُم هتفت قائلة بتساؤل:- مش هتقولي بقا كنت عاوزني في إيه.! 


لم يستطع السيطرة على غضبه وهدر قائلًا بغلٍ مكتوم:- عجبك اللي عمله " عاصي " دة، رايح ينقذ بنت العفاريت بعد الفضيحة اللي عملتها لينا من سنين.! 


على الرُغم من تعجبها لتطرقه لهذا الأمر لكنها هتفت قائلة بثقة:- وفيها إيه لما ينقذها، سيبك من أنها حُب عمره ومن أنها لسة مراته، بس حتى لو كانت واحدة غريبة أي راجل عنده نخوة وشجاعة مش هيسيبها في موقف زي دة، ولا إيه.! 


جز على أسنانه قائلًا:- بس دة هيبقا كبير العيلة بعد عُمرًا طويل لجدك، يعني مينفعش يتصرف بناءًا على مشاعره.! 


أبتسمت " چيداء " بثقة وهي ترمقه بنظراتٍ أشعرته بأنها ترى داخله ثُم همست قائلة بجدية:- وهو لسة مبقاش كبير العيلة، لما يبقا الكبير ويتصرف غلط نبقا نحاسبه، غير كدة ملناش حُكم عليه. 


نظر إليها بغضب وعينان تفوحان منهما الشر.. كان على وشك أن يتحدث عندما قاطعته هي قائلة بثبات:- متحاولش معايا أكتر من كدة يا " كارم " عشان صدقني هتخسر. 


هتف قائلًا بملامح مُبهمة:- قصدك إيه.! 


وصلته إجابته سريعًا بنبرتها الباردة:- قصدي إني فاهمة لعبتك، أنت جاي تولعني على " عاصي " وتكسبني في صفك، بس نصيحة مني دي لعبة رخيصة أوي، لو حاسس إن حقك مهدور في العيلة خده بالمواجهة مش بالغدر. 


توترت ملامحه وهتف قائلًا بتساؤل:- إيه اللي بتقوليه دة..؟ 


أجابت قائلة بنبرة قوية:- بقول الحقيقة، واللي أنت فهمتها، روح خد حقك بعيد عني يا " كارم " عشان مهما عملت أنا مش هحارب عيلتي أبدًا، ودة إذا كان ليك حق أصلًا. 


شعر بصدره يحترق لأنها كشفت دواخله خلال دقائق جلسهم أمامها.. أخرسته ولم يستطع النطق.. نهض دون كلمة وخرج من مكتبها بعد رمقها بنظرة حقودة لم تؤثر بها إطلاقًا.. لكنها أبتسمت بسخرية باردة على غبائه منقطع النظير.... 


-------------------------------


=إييه اللي حصلك دة يا " أنس ".! 


تفوهت " بتول " بذلك التساؤل فور أن رأت جلسته على الأرض هكذا كالمشردين بينما ملابسه السوداء يُحيط بها الغُبار من كل جانب.. لم تكد تمر دقائق قليلة على الحدث الأخير وأختفاء أميرة ديزني من أمامه حتى وجد " بتول " بجانبه تخرجه من شروده وتطلب منه تفسيرًا لما حدث.. 


نظر حوله بحرج ثُم نهض من مكانه لينفُض الغُبار عن ملابسه ثُم نظر إليها قائلًا بتوتر:- عادي يعني وقعت بس. 


رفعت حاجباها لأعلى ونظرت إليه كأنهُ كائن فضائي قائلة:- وقعت..! وقعت إزاي يعني.! 


شعر بمدى غبائه فتنحنح قائلًا بتوتر:- قصدي يعني واحدة كانت هتعمل حادثة فأنقذتها وبعدين قامت جريت وأنا كنت لسة هقوم، بس كدة. 


لم تصدقه لكنها لم ترغب في الضغط عليه كذلك.. فهتفت قائلة بهدوء:- طب يلا ندخل الكافيه، أنا عايزة أشرب حاجة مسكرة. 


أبتسم لها ثُم اصطحبها إلى داخل الكافيه وبعد أن جلسا سويًا نظر إليها قائلًا بتساؤل:- أحكيلي بقا مالك، ولو إني حاسس إني عارف مالك.؟ 


ترقرقت عيناها بالدمع وتحولت ملامحها إلى أُخرى حزينة كئيبة.. مما جعله يهتف قائلًا بذهول وهو يمسح عِبراتها التي سالت على وجنتيها:- الله، الله إيه اللي حصل يا " بيتو " للدموع دي كلها، مش " ليال " بقت كويسة الحمد لله.؟ 


هزت رأسها نفيًا ثُم هتفت قائلة بنبرة حزينة:- المشكلة مش في " ليال " أنا الحمد لله أتطمنت عليها. 


تجهمت ملامحه وأجاب قائلًا بغيظ:- يبقا أكيد المشكلة في حبيب القلب، صح! 


اومأت برأسها مما جعل بعضٍ من خصلاتها تسقط على جبهتها فأزاحتهم خلف أذنها بأصابعها برقة قائلة:- أيوة هو. 


وبدأت تسرد عليه أخر تطوراتها مع " كريم " منذُ اللحظة التي واجهها بحقيقة حُبها لهُ بغرفته حتى مضايقته لها ليلة حادثة " ليال " مُتجنبة تمامًا ذِكر قبلتهما الملعونة تلك.. 


وفور أن انتهت هدر هو قائلًا بعصبية:- هو أتجنن ولا إيه، إزاي يكلمك بالطريقة دي، أقسم بالله هقتله لو عايزة. 


ابتلعت ريقها بتوتر وحمدت ربها أنها تجنبت أمر القُبلة وإلا كان " أنس " الأن يقتُل " كريم " غير أسفًا.. همست قائلة بضعف:- أنا مش عارفة أعمل إيه يا " أنس "، ومش عارفة هو عايز إيه مني، يعني طالما مش بيحبني ليه مش بيتجنبني زي مانا بعمل معاه.؟ 


سخر " أنس " قائلًا:- حبيبتي في نوعية من الرجالة كدة بيبقا الراجل منهم مش بيحبك وعارف إن هو مش هيحبك بس بمجرد ما يعرف إن البنت جواها أي مشاعر ناحيته يفضل يحوم حواليها عشان يرضي غروره ويفضل معلقها بيه. 


إذا كان يعتقد بأنهُ هكذا يُساعدها إذًا هو مُخطيء.. لوهلة كانت تتمنى لو أن " كريم " شعر بها وبدأ يُبادلها حتى لو الإنجذاب.. لكن حديث ابن عمها الأن حطم أحلامها شر تحطيم.. ولم تجد مفر من أنها تعزم على نسيان " كريم " مهما كلفها الأمر.. 


بينما خارج المقهى وعلى الجانب الأخر كان يجلس الأخير بسيارته يُراقب تلك التي تجلس وتبكي أمام ذاك الوغد الذي لم يتوقف عن مسح عِبراتها بأصابعه.. بينما هي تبكي برقة تُذيب الحجر.. اشتعلت نيران صدره بمشاعر لم يعهدها على نفسه من قبل.. وقبل أن يتهور ويقتحم المقهى ليحطمه فوق رأسهما قاد سيارته مُبتعدًا.. وبتلك اللحظة كان لشيطانه الدور في أن يسلك طريقه جنبٍ إلى جنب.. 


------------------------------


أمام باب غُرفة العناية المُركزة كانت تقف " روان " بجانب " زين و شهد " ينتظرون خروج الطبيب ليطمئنوا على الشاب الذي أنقذته الأولى البارحة.. تحدث شقيقها قائلًا بضيق:- هو أحنا كان ناقصنا مصايب إنتِ كمان.؟ 


عقدت حاجباها قائلة بتعجب:- يعني كنت عايزني أسيبهم يموتوه ولا إيه.! 


نظرت إليه " شهد " قائلة بتبرُم:- صحيح كنت عايزها تسيبه يموت يعني ولا أيه.! 


جز على أسنانه قائلًا بشراسة:- طبعًا على هواكِ إنتِ الأحداث الأخيرة، ما إنتِ تموتي في العنف وبقيتي تخصص أقسام. 


=ياعم مكنتش مرة بقا، ذليتني عليها، أرحم أُمي. 


نظر إليها شزرًا ولم يُجيب بينما شقيقته تحدثت قائلة بهدوء:- إدعوا بس يطلع سليم بدل ما نتدبس في حوار ميخصناش. 


أطلق " زين " ضحكة لا تمت للمرح بصلة قائلًا:- لا بجد لسة واخدة بالك من الحوار دة، دة إنتِ أستني لما جدك يعرف وهو هيعمل من فخادك يا " روان " شاورما سوري، وأنا اللي هحميلوا السيخ. 


زمت شفتيها ونظرت إليه بغضب لكن " شهد " لم تصمت بل تنحنحت قائلة برقة مُصطنعة:- ومين بس اللي هيقولوا يا " زينو " احبيب قلبي.؟ 


=أحبيب قلبك إزاي يعني، وبعدين " شهد " أنا 100 مرة أقولك متحاوليش تبقي رقيقة عشان إنتِ مش كدة، مش بالعافية هي أصلها. 


تحولت ملامحها إلى أخرى شرسة كعاداتها ثُم هدرت قائلة بنبرة سوقية:- هي مين دي يا روح أمك اللي مش رقيقة، دة أنا الرقة عنواني، دة مفيش حد في عيلتك في رقتي، ولا إيه يا " رورو ".! 


وكحالة بنات الخالة سويًا لا يتركن بعضهن دون مساندة.. هدرت " روان " قائلة بتأكيد وهي تُرمق شقيقها بغضب:- طبعًا يا " شوشو " هو إنتِ في في رقتك، سيبك منه الواد اللي مش بيفهم دة. 


= "رورو"  و " شوشو "  هو أنا واقع مع رقاصتين من شارع الهرم، ما كفاية تطبيل لبعض بقا، دة أنتوا هتتحمصوا في جهنم على الكدب دة. 


وقبل أن يهدروا دمه خرج الطبيب من الغُرفة بملامح مُتعبة.. اقتربوا منهُ سريعًا وتحدث " زين " قائلًا بتساؤل جاد:- إيه الأخبار يا دكتور.؟ 


تنهد الطبيب قائلًا بجدية:- الحمد لله عدينا مرحلة الخطر، بالرغم الدم الكتير اللي نزفه، كلها كام ساعة وهيفوق ونبدأ نتأكد من أثار الضربة عليه. 


تنهدوا ببعض الأرتياح فهتف الطبيب مرة أخرى موجهًا حديثه إلى " روان " قائلًا بعملية:- بالمناسبة يا أنسة لما المريض يفوق هتيجي الشرطة عشان تاخُد أقواله فياريت تكوني موجودة لأنك إنتِ اللي جبتيه. 


اومأت لهُ " روان " بشرود فرحل تاركًا إياهم ينظرون إلى بعضهم البعض بقلق.. حتى تحدث " زين " قائلًا بهدوء:-  يلا نروح نتطمن على " ليال ". 


----------------------------------


كانت مُستلقية على فراشها بغُرفتها بالمشفى.. تتصنع النوم حتى لا تتحدث مع شقيقتها أو أبناء خالتها.. لا ترغب في التحدث مع أحد أو حتى رؤيتهم.. ليلة الأمس كانت واحدة من الليالي السيئة التي مرت عليها بحياتها.. ولا تعرف كيف استيقظت حية بعد كل ذلك وبكل هذا الحُزن بداخلها.. لقد اقتات عليها الحُزن لسنواتٍ طوال وهي لم تعُد تملك الطاقة للمواجهة.. تتمنى لو كانت ماتت بتلك الحادثة ولم يُنقذها.. ليته لم يفعل.. لماذا أنقذها من موت برصاصة إذا كان باليوم التالي سيقتلها بكلماته.. كلماته كانت أشد قسوة من تلك الرصاصة التي اخترقت جسدها.. 


بعد أن عادت إلى غرفتها بالأمس لم تستطيع أن تبكي.. لقد جفت عِبراتها بالثلاث سنوات الماضية وبعد أن بكت البارحة بين أحضانه وهو لم يرحمها.. لم تجد المزيد من العِبرات لتزرفها.. لقد ماتت روحها ولم يتبقى إلا جسدها لتواري الثرى.. وعندما حل الصباح عليها شعرت بنفسها مُنطفئة.. لكنها وكالعادة ستنهض من تلك الكبوة بروحٍ ميتة وجسدًا صلبٍ لتواجه حياتها بكوارثها المُعتادة.. 


بتلك اللحظة اقتحمت " شهد " الغْرفة وهي تهتف قائلة بمرح:- صباح الفل يا " ليلو "، عاملة إيه دلوقتي.؟ 


اومأت لها بضعف ناتج عن صدمتها بمن هواه قلبها وليس بسبب تلك الرصاصة الطائشة.. دلفت"  روان " يتبعها " زين " وهتفت قائلة بحنان:- مش هتقومي كدة عشان ترواحي ولا إنتِ عجبتك قاعدة المستشفى.؟ 


ضحكت " شهد " لكن لم تشاركها " ليال " الضحكة.. وقعت أنظارها على " زين " الذي ينظر نحوها بتفحص وكأنه يخترقها بنظراته ليعرف ما بها.. استمرت النظرات بينهما حتى قطع هو الصمت قائلًا بهدوء مُبهم:- الدكتور كتبلك على خروج بكرة، والمحضر بتاع الشرطة اتقفل لأننا مقدرناش نتهم حد بعينه، إنتِ ناوية تتهمي حد يا " ليال ".؟ 


كانت تعرف من الفاعل وتعرف أيضًا كيف سترد الهدية التي أرسلها لها لكن بعيدًا عن أنظار الشرطة بالتأكيد.. تنهدت قائلة وهي ترتدي قناع الصلابة:- لا، أنا مشوفتش مين اللي عمل كدة عشان اتهم حد. 


اوميء لها بعدم تصديق لكنهُ لم يرد أن يُرهقها خاصة بعد العملية الصعبة التي خاضتها عن قريب.. بالأضافة إلى ملامحها الشاحبة بتلك اللحظة.. 


فُتح الباب ودخلت والدتها السيدة " لطيفة " يتبعها شقيقتيها وهن يحملن حقائب كبيرة بها الكثير من علب الطعام المُعد خصيصًا من أجل " ليال " وتغذيتها.. اقتربت منها والدتها قائلة بلهفة أم:- عاملة إيه النهاردة يا ضنايا، عملتلك شوية ورق عنب وبطاية بالبرتقان زي ما بتحبيها عشان تاكلي وتتغذي. 


أبتسمت " ليال " بضعف قائلة:- تسلم إيديك يا حبيبتي، مكنتيش تعبتِ نفسك وكنت هاكل من المستشفى. 


شهقت والدتها بصدمة كأنها سبتها ثُم هدرت قائلة:- تاكلي من المستشفى، هو دة أكل يا بنتي، دة أنا طابخة بالسمن البلدي عشان تتقوي يا قلب أمك. 


صمتت بدون تعليق فهي تعلم أن الجدال مع أمها بلا جدوى.. تبادلت بعض الأحاديث مع خالتيها وهكذا بدأ الوقت يمُر... 


-----------------------------


للصُدف النصيب الأكبر في لقاءاتنا.. لا يَهم من أنت.. أو من أين أنت.. أو كيف أتيت.. يكفي أن يكون مكتوب لكَ صدفةً قريبة بمكانٍ ما.. 


توقفت " رجوى " بسيارتها المكشوفة أمام بوابة جامعتها ثُم ترجلت منها وهي تُلملم خصلاتها البُنية القصيرة التي تتطاير من حول وجهها.. تأففت بغضب فهي لم تكن تُريد أن تأتي إلى الجامعة اليوم وتترك " ليال " حتى تخروج من المشفى لكن صديقتها أخبرتها أن أستاذها " إسلام الحشاش " أخبر الدُفعة البارحة بأن هناك اختبار مُفاجيء اليوم ومن سيتغيب سيخسر خمسين درجة كاملة.. كانت تسير بخطواتٍ مُتعجلة لتصل قبل أن يدلف هو.. فأستاذها المُبجل لا أحد يدخُل المحاضرة بعده.. 


نفخت وجنتيها بضيق كالأطفال وهمست قائلة بتبرم وهي تُسرع بخطواتها نحو قاعة المحاضرات:- أمتحان إيه اللي مُفاجيء، إللهي تتشك في فخادك يا شيخ. 


=فخادي.! 


تجمدت قدميها بالأرض فور أن وصلتها تلك الهمسة من خلفها.. لالا بالتأكيد حظها ليس عثر إلى تلك الدرجة.. هو مجرد تشابه أصوات لا أكثر.. أو رُبما تشابه أفخاد.. 


ابتلعت ريقها بتوتر ثُم التفتت ببطء وهي تتشاهد.. فهو بالتأكيد سيقتلها بعد هذا التطاول.. التفتت أخيرًا حتى أصبحت بمواجهته.. وعلى الرُغم من أنها متوسطة الطول وليست بالقصيرة لكنها أمامه كانت قصيرة.. صغيرة.. ضئيلة.. 


ابتلعت ريقها مرة أخرى قائلة بنبرة مُرتعشة:- أحم، صباح الخير يا دكتور " إسلام ". 


تفحصها هو بنظراته الواثقة.. بداية من خصلات شعرها البُنية القصيرة.. بشرتها البيضاء الشاحبة.. عيناها بلون العسل الصافي.. ناعستين كعيون القطط.. جسدها الممشوق كعارضات الأزياء.. ثُم عاد من تفحصه لها إلى عيناها ليتجمد بمكانه وهو يراها تنظر نحوه بغضب بالغ.. فهي بالتأكيد انتبهت على نظراته لها.. لم يُعيرها أهتمام بل هتف قائلًا بنبرة هادئة:- كنتِ جايبة سيرة فخادي ليه بقا..؟ 


توسعت نظراتها من فحوى السؤال.. وبحياءًا أعجبه همست قائلة بخفوت:- أنا.. أنا مقولتش حاجة، ممكن حضرتك سمعت غلط. 


لمعت عيناه بتسلية نادرًا ما يشعر بها.. ثُم هتف قائلًا بثبات:- ماشي، هعمل نفسي مسمعتش حاجة، ورايا. 


قال كلمته الأخيرة وتخطاها بأتجاه القاعة دون أن يستمع إلى حرفٍ منها.. بينما هي تنفست الصعداء لرحيله السريع لكنها أيقنت من رسوبها هذه السنة في مادته.. فهو بالتأكيد لن يُمرر وقاحتها مرور الكرام.. 


دلف " إسلام " إلى قاعة المُحاضرات ليسود الصمت التام بالمكان.. تتبعه " رجوى " بملامحها الغاضبة منه ومن لسانها السليط.. بدأ بشرحٍ قصير لبعض نقاط المنهج قبل الاختبار وقد كان محط أنظار الفتيات من حوله.. فهو " إسلام الحشاش " الإبن البكر لعائلة " الحشاش " أشهر تُجار أقمشة بالمدينة.. شاب بالثامنة والعشرون.. طويل القامة.. عريض المنكبين.. ممشوق الجسد.. يمتلك خصلات بُنية قصيرة مُصففة بعناية وتهذيب يليق بهِ كأستاذ جامعي.. عيون خضراء بلون الزرع وبشرة قمحية وملامح رجولية خشنة .. 


كان من أشهر وأمهر أساتذة الجامعة رغم صِغر سنه.. لكنه كان شغوف بالدراسة والعلم حتى وصل إلى هذه المكانة الكبيرة بعيدًا عن إسم عائلته.. مما جعله محط للأنظار والأعجاب من قِبل النساء من حوله.. 


كانت " رجوى " تتابع شرحه بتركيز كبير وقد تناست ما حدث بالخارج قبل قليل.. بينما هو كان يُتابعها بعيناه من حين لأخر.. يراها مُهتمة بما يقوله وكم أعجبه هذا.. 


انتهى من الشرح وبدأ الاختبار .. وضعت " رجوى " كل تركيزها بحل الأسئلة غافلة عن ذاك الذي يقف على بُعد عدة خطوات منها ويراقبها بفضول.. 


" چوري العفريت " حفيدة عائلة من أكبر وأشهر وأغنى عائلات البلدة.. فتاة ظاهريًا رقيقة وهادئة لكن بمُجرد النظر لها تُدرك تمام الإدراك أي شيطانة صغيرة هي.. اليوم أمسك بها وهي تدعوا عليه.. دعوة مُضحكة أضحكته داخليًا لكنهُ تصنع الصرامة حتى لا تُكررها وهو يعرف أنها لن تفعلها ثانية.. 


مرت ساعة وانتهى الاختبار.. بدأ الطُلاب في تسليم ورق الإجابات خاصتهم ومن بينهم " رجوى " والتي كانت الأخيرة لأنها وصلت بعد وصول الجميع.. وضعت ورقة اختبارها أمامه دون أن تنظر إليه بينما هو لم تتزحزح نظراته عنها.. سارت خطوتين فقط ثُم توقفت بمكانها ظهرها لهُ ويبدوا كأنها تُفكر أمرًا ما.. مرت دقيقة كاملة قبل أن تلتفت إليه وتطلع نحوه بعينيها القططية الناعسة قائلة بنبرة بريئة لطيفة:- أنا أسفة على الموقف بتاع النهاردة، التعبير خاني وكمان كنت متوترة ومتضايقة. 


نظر إليها بتفحص لعدة ثوانٍ ثُم همس قائلًا بنبرة رخيمة:- لو قولتيلي كنتِ متضايقة من إيه ممكن أسامحك. 


توسعت نظراتها وفغرت فاهها بذهول غير مصدقة تجاوبه معها.. وهي التي لم تكُن تقصد أن تتجاذب معه أطراف الحديث بل فقط أرادت الأعتذار والهروب سريعًا لكنه صدمها بحديثه الجاد.. ابتلعت ريقها بتوتر ثُم هتفت قائلة:- أختِ تعبانة شوية وكنت متضايقة عشانها. 


وكعاداته يتفحصها أولًا قبل أن يُجيب.. وكأنه يَدرس لغة جسدها ليعرف صدقها من كذبها قبل أن يُقرر بشأنها.. أبتسم بهدوء قائلًا:- الف سلامة عليها، واعتبريني نسيت اللي حصل الصبح. 


زاغت نظراتها بتوتر بكل مكانٍ سواه خاصة بعد أبتسامته المُهلكة التي رماها بها وهي التي لم تكُن مُستعدة لذلك النوع من التشتُت بعد.. نظرت إليه نظرة خاطفة قبل أن تشيح بنظراتها عنه قائلة بهدوء:- شكرًا يا دكتور، عن إذنك. 


وهكذا انهت جملتها وركضت هاربة بعيدًا عنه بينما هو تابعها بنظراته المُتفحصة حتى اختفت من أمامه.. تاركة إياه يبتسم دون وعي منهُ.... 


--------------------------------


=إرتاحي يا حبيبتي وأسندي ضهرك كويس. 


تفوهت السيدة " لطيفة " بتلك الجملة الحانية وهي تُساعد " ليال " على التمدُد بفراشها بداخل غُرفتها بمنزل العائلة.. لقد خرجت صباح اليوم من المشفى وها هي تعود إلى منزلها لتقضي فترة النقاهة بداخله تحت رعاية أهلها.. كانت جميع عائلتها حولها يتحمدون سلامتها.. هتفت خالتها السيدة " سمر " بحنانها المعهود قائلة:- حمد لله على سلامتك يا نور عيني، إن شالله اللي يكرهك يارب. 


أبتسمت " ليال "  بشحوب لكنها همست قائلة بثبات قدر أستطاعتها:- الله يسلمك يا خالتو. 


تدخلت " حنان " خالتها الصغرى قائلة بمرحها وبشاشتها المعهودة:- على ما تستريحي هنكون عملنالك أحلى أكل، وهعملك بإيدي الكريم كراميل اللي بتحبيه. 


وبنفس أبتسامتها أجابت قائلة:- متتعبوش نفسكوا، أنا مليش نفس أكل حاجة يا " حنان ". 


شهقت والدتها قائلة بلهفة:- يالهوي، ملكيش نفس لإيه، دة أنا عملالك شوية ورق عنب وبط بالبرتقان زي ما بتحبيهم، ومكرونة بالبشاميل ورقاق، عايزة حاجة تاني قوليلي.! 


هتفت " ليال " قائلة بصدمة:- أنا هاكل كل دة، يا ماما أنا واخدة رصاصة مش قايمة من ولادة.! 


ضحك الجميع على طرافتها لكن السيدة " لطيفة " لم تُمررها مرور الكرام بل هتفت قائلة بلوعة قلب أم بينما عينيها ترقرقت بالعِبرات:- يسمع منك ربنا، يارب يا " ليال " يابنت بطني أشوفك جمب راجل مالي مركزه ويكون ابن حلال وأشيل عيالك قبل ما أموت. 


شعرت بغصة مؤلمة بحلقها وقلبها معًا.. كيف تُخبر أمها أنها أصبحت معطوبة القلب ولا تصلح لأمور الحُب من جديد.. بل كيف تخبرها أنها لا تستطيع أن تُسلم قلبها إلى شخصٍ سواه.! 


لقد نالت ما نالت عندما عشق القلب ودق.. وها هي تدفع ثمن خطأها بدمائها وروحها.. منذُ اللحظة الأولى لها بهذه الحياة وهي لا تعرف حبيب سوى " عاصي ".. كان لا يُفارقها كظلها تمامٍ.. هو ليس مُجرد رجُل وقعت بغرامه يومٍ.. بل أكثر من ذلك.."  عاصي " هو حبيب الروح.. معشوق القلب.. عِشقه يجري بعروقها كدمائها.. هل تستطيع أن تعيش بدون روحها.. قلبها.. دمائها..! الإجابة لا.. 


عندما طال الصمت تحدثت " رجوى " بمرح ظاهري لتبديد الجو الخانق بالغُرفة قائلة:- كل الدعوات الحلوة لست " ليال " لكن أنا كل ما تشوفيني تحسبني عليا، صح.! 


= يابت هو أنا عارفة أخد معاكِ حق ولا باطل، دة إنتِ مورياني النجوم في عز الضهر. 


بتلك اللحظة طرق الجد " مختار العفريت " باب الغُرفة وهو يهتف قائلًا بنبرته الخشنة:- حمد لله على سلامتك يا بنتي. 


اعتدلت قليلًا بجلستها احترامٍ لهُ قائلة بأدب:- الله يسلمك، أتفضل يا جدي. 


دلف الجد بثبات وبعد القليل من الأحاديث الجانبية طرق الأرض بعصاه قائلًا بخشونة:- سيبوني مع حفيدتي شوية. 


تبادلت جميع العائلة النظرات فيما بينهم بتوتر لكن بالنهاية أذعن الجميع لهُ وخرجوا من الغُرفة بطاعة دون حديث.. اقترب منها جدها ثُم جلس على مقعد بجانب سريرها.. وبعد أن فعل هدر قائلًا بنبرة صلبة:- مين اللي عمل فيكِ كدة.؟ 


تعرف جيدًا تلك النبرة.. معناها أن لا مجال للكذب.. ستتحدثين بالصدق إذا أردتِ النجاة.. وبثبات أجابت قائلة:-  " حمدان ". 


= " حمدان "، وهو هيعوز يقتلك ليه.! 


نظرت إليه قائلة بجدية:- في كلام بيتقال في السوق من فترة إنه بيتاجر في السلاح، ومش بس كدة دة كمان بيمول عصابات الجبل ومشغلهم لحسابه عشان يخلصوا ليه شغله القذر، وأنا اتأكدت من دة بنفسي، فرفضت الصفقة الأخيرة اللي بينا وبينه ودفعتله الشرط الجزائي، فهددني وفي نفس اليوم حصل اللي حصل. 


اوميء الجد لها برأسه قائلًا بنبرة مُبهمة:- عصابات الجبل.! عصابات الجبل اللي أحنا نضفنا البلد منهم بدمنا أنا و " عبدالرحيم ".! 


تحدثت قائلة بثقة: - وعمرهم بإذن الله ما هيرجعوا البلد تاني،  متقلقش يا جدي. 


نظر لها الجد بتفحص لبعض الوقت مما أشعرها ببعض التوتر ثُم هدر قائلًا بنبرة قاطعة:- وإنتِ ناوية تعملي إيه.؟ 


كانت تعلم تمام العلم أنه لا يقصد أمر " حمدان ".. بل يقصد شيءٍ أخر.. أمرًا لليالٍ طوال تُفكر بهِ ولم تكُن تملك حلًا لهُ.. 


أرادت أن تتملص من ذلك السؤال لفترة من الوقت.. فهتفت قائلة بالامُبالاة ظاهرية:- هتصرف في موضوع " حمدان " بس شوية لما " جلال " يرجع الشغل تاني. 


طرق الأرض بعصاه وصاح قائلًا بصلابة:-  متلاوعيش في الكلام يا بنت بنتي، إنتِ فهمتي كويس أنا أقصد إيه، مش أن الآوان نشوف حل للأمور المتعلقة بقالها سنين.! 


تنهدت " ليال " بتعب.. تُدرك أن جدها مُحق تمامٍ.. لقد أن الآوان لكي تحل أمورها من جذورها.. تعلم أن السماح والعودة غير مُقدران لهما.. لقد فعلا ببعضهما الأفاعيل.. كما أن حديثه السام قبل يومين بالمشفى لا ينفك يُعاد برأسها.. لقد أصبح الحبيب عدو.. جلاد.. قاسي.. ما مُقدر لهما الأن هو الفُراق.. تعلم أنها لن تُسامحه على فعلته الأولى قبل ثلاث سنوات.. ولن تسامحه على حقارته القريبة معها.. ليس لأنها ذات قلب أسود أو لا تحبه.. لكنها بالنهاية بشر.. وبعض الأشخاص لا يمتلكون القُدرة على المغفرة.. 


رفعت أنظارها إلى جدها لتراه يُثبت نظراته عليها بتفحص ينتظر حديثها.. وكما أعتاد عليها قوية.. صلبة.. لا تُهزم.. أخذت نفسٍ عميقٍ شعرت بروحها تُغادر معه.. وبنبرة بعيدة عنها تمامٍ همست قائلة:- أنا عايزة أرفع قضية طلاق... 


--------------------------------


الجميع عُرضة للخُذلان.. قد يُخذلك صديقك.. حبيبك.. جارك.. لكن أن يُخذلك من يحمل نفس دماءك.. من كان سببٍ  في قدومك إلى هذه الحياة.. بتلك اللحظة تُدرك أن للحياة وجهًا أخر أكثر بشاعة مما كنت تعرفه.. 


الساعة الثانية عشر مُنتصف الليل.. عادت " فلك " إلى منزلها هالكة وبالكاد تحملها قدميها.. اليوم كان واحدًا من الأيام الأكثر صعوبة عليها.. لقد استيقظت قبيل الفجر بقليل.. صلت فرضها وخرجت مع بداية سطوع أول ضوء للنهار.. مرت على منازل الأطفال اللذين تصطحبهم إلى المدرسة الحكومية على الطريق الرئيسي.. ثُم عادت إلى موقف التكاتك لتبدأ وصلة أُخرى من المُعاناة مع السائقين اللذين يُريدون أن ينهبوا حقها لمجرد كونها أنثى.. لكنها وكالعادة تتصدر لهُم بكل قوتها.. 


لكنها سئمت.. نعم سئمت كل ذلك وتُريد أن ترتاح.. لماذا كُتِبَ عليها الشقاء إلى هذه الدرجة.. لا تعترض ولكنها ترغب في بعض الراحة.. فقط القليل منها.. ألا يحق لها أن تعيش كباقي فتيات جيلها.. 


ألقت بنفسها على الأريكة المُتهالكة قائلة بتعب:- هانت يا " فلك "، كلها شهور بسيطة وهتبعدي من هنا نهائي، هترمي كل حاجة ورا ضهرك وهتبدأي من جديد على نضافة، ولا أم تاريخها قذر ولا أب وجوده زي عدمه، هانت ياسطا " فلك ". 


منذُ اللحظة الأولى لها بالمنزل أدركت أن سبب شقائها بالحياة ليس هنا.. بالتأكيد خرج من المنزل ليلعب القُمار ويثمل.. لقد قطعت عنهُ صنبور الأموال قبل عدة أيام ولا تعلم من أين لهُ بالمال.. لكنها لا تهتم.. فليبتعد عنها قدر المُستطاع.. فقط حتى ترحل من هنا ويجد نفسه بمفرده.. حينها سيضطر مُرغمًا أن يعمل ويتولى مسؤولية نفسه أو بالتأكيد سيموت جوعٍ.. 


صدح صوت رنين جرس المنزل فعقدت حاجبيها بتعجُب.. من الذي سيطرق بابها بذلك الوقت.! 


نهضت من مكانها وهي تئن بتعب متوجهة ناحية باب المنزل ثُم هدرت قائلة من خلف الباب:- مين بيخبط.! 


صدح صوت رجُل غريب عنها قائلًا بلهفة:- مش دة بيت الأسطا " فلك "، أبوكِ معايا سكران ومش شايف وعايز يدخل. 


ودون لحظة شك واحدة زمت شفتيها بضيق وهي تفتح الباب.. وبمجرد أن فعلت حتى اقتحم المنزل أربعة رجال ضخام البنية.. بملامح شرسة غير مُريحة.. 


صرخت قائلة وهي تعود إلى الخلف بفزعٍ:- أنتوا مين وعايزين إيه.! 


أغلق أحدهم الباب ثُم تقدم منها أخر قائلًا بنبرة تفوح منها رائحة الخمر والشر معًا:- أهدي كدة يا حلوة، عشان وشرف أمي لو صرختي لهتكوني مغزوزة وغرقانة في دمك قبل حتى ما تفكري تعمليها. 


فتاة وحيدة تُركت بين أنياب الحياة تنهش بها بكل لحظة دون سند أو حامي.. فتاة عرفت معنى أن تكون هي رجُل نفسها.. تُقاتل بلا توقف حتى لتلتقط أنفاسها.. لقد رأت الكثير ولن يُخيفها أربعة ذئاب آخرين.. 


وبشراستها المعهودة عنها هدرت قائلة:- وهي اللي تخلف نطع زيك تبقا عندها شرف، عايز إيه مني ياروح أمك.! 


وببرود تام كأن من سبتها للتو ليست والدته هدر قائلًا بكلمة جمدتها بمكانها بنبرة تفوح منها رائحة الرغبة:- إقلعي.! 


انتفضت بحدة تتراجع خطوتين إلى الخلف وهي تُرمق الأربع ثيران الذين يقفون أمامها بصدمة.. ملامحها شاحبة كالأموات.. ضربات قلبها تتواثب بذُعرٍ بين أضلعها غير مُصدقة الكارثة التي وقعت بها للتو.. لكن هيهات هي ليست لُقمة سائغة سيبلتعها هؤلاء الملاعين وسيمُر الأمر مرور الكرام.. لطالما قاومت الحياة بكل صفعاتها التي تتلقاها منها ونجت.. وستنجو الأن كذلك.. 


لمعت حدقتيها بنظرات شرسة ثُم هدرت قائلة بنبرة بطيئة:- إيه..! 


طالعها أحدهم وقد كان يبدوا زعيمهم قائلًا بنبرة عابثة:- بصي يا حلوة أبوكِ لعب معانا على فلوس وخسر وفي الأخر لعب عليكِ وخسر برضه ودلوقتي إحنا جاين ننبسط، فإيه رأيك تهدي كدة عشان ننبسط كلنا ونمشي ويا دار ما دخلك شر.! 


لعنت نفسها ولعنتهم ولعنت أبيها سبب شقائها بهذه الحياة.. إذا كان لا يستطيع تحمُل مسؤوليتها لماذا تزوج وأنجبها إذًا..! أغمضت عينيها لثوانٍ تتنفس بعمقٍ وتستجمع شجاعتها ثُم فتحتهما لتناظرهم بضيقٍ قائلة:- وأنا مالي ياجدع أنت وهو، هو لعب وخسر حسابكم معاه، أنا ادفع فاتورته ليه.! 


أبتسم نفس الشخص قائلًا بسماجة:- والله المشاكل العائلية دي يا قُطة تحليها بينك وبين بابي السُكري إحنا اللي لينا هناخده، بالذوق أو بالعافية هناخده. 


بنظرة تقدير للموقف وبحسبةٍ سريعة ادركت أنها هالكة بينهم لا محالة.. مجموعة الذئاب البشرية تلك لن تتركها حية اليوم حتى تنال مُرادها.. بنظرة شمولية سريعة نحو شقتها الصغيرة تبحث عن مخرجٍ من تلك الكارثة لمحت سلاحها الفتاك والذي لم يُخذلها يومٍ لتُحيك خيوط خطتها سريعًا برأسها.. أخفت بسمة مُنتصرة كادت أن تتسلل إلى شفتيها وحافظت على جمود ملامحها هي ترفع كفيها نحو قميصها لتبدأ بحل ازراره.. بينما الثيران الأربعة لم ينتبهوا في خضم ترقبهم تاركين شهوتهم تقودهم إلى ملامحها القاسية ونظرات التوعد بمقلتيها.. غافلين عن أن من تتبع شهواته وجد بالنهاية هلاكه.... 


----------------------يُتبع-------------

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-