العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري
الفصل الثامن
*مَــــن أنــــا*
بنظرة تقدير للموقف وبحسبةٍ سريعة ادركت أنها هالكة بينهم لا محالة.. مجموعة الذئاب البشرية تلك لن تتركها حية اليوم حتى تنال مُرادها.. بنظرة شمولية سريعة نحو شقتها الصغيرة تبحث عن مخرجٍ من تلك الكارثة لمحت سلاحها الفتاك والذي لم يُخذلها يومٍ لتُحيك خيوط خطتها سريعًا برأسها.. أخفت بسمة مُنتصرة كادت أن تتسلل إلى شفتيها وحافظت على جمود ملامحها هي ترفع كفيها نحو قميصها لتبدأ بحل ازراره.. بينما الثيران الأربعة لم ينتبهوا في خضم ترقبهم تاركين شهوتهم تقودهم إلى ملامحها القاسية ونظرات التوعد بمقلتيها.. غافلين عن أن من تتبع شهواته وجد بالنهاية هلاكه.. تعرف أن قتال مع أربعة ثيران مثلهم ستكون الخسارة من نصيبها لكن خسارتها ستكون روحَها وليس جسدها..
كانت نظراتهم الشهوانية تتبع حركة أصابعها في أنتظار ما سيكشف أسفل القميص الأسود الذي ترتديه.. تلك اللحظة كانت بمثابة إشارة لها لتتحرك.. وبخفة التقطت المنضدة الخشبية الصغيرة المُستديرة التي كانت تقف بجانبها بكفيها ثُم رفعتها عاليًا وهوت بها على وجه الضخم الذي أمامها بضربة عنيفة جعلته يرتد إلى الخلف ثُم يسقط على أجساد الرجلين الذان خلفه.. ركضت بأقصى سرعة تملكها نحو باب الشقة حيثُ وضعت سلاحها الذي لا غنى عنهُ بالمنزل أو خارجه.. كانت تعلم أن الرابع يتبعها لذلك التقطت " الشومة " خاصتها سريعًا وبنفس السرعة كانت تلتف لتضربه بوجهه ضربة جعلت الدماء تنفجر من أنفه..
وبالرُغم من سيطرتها على الموقف حتى الأن إلا أنها كانت تعلم أن تلك السيطرة ما هي إلا سيطرة لحظية.. وليدة الموقف ولأنها استخدمت عنصر المُفاجأة فقط.. لكن لو أستمرت في العراك معهم ستكون هي الخاسرة الوحيدة..
لذلك وبدون لحظة تردد واحدة كانت تفتح باب الشقة الصغيرة وتترجل خارجٍ وهي تصرُخ بأعلى نبرة تملكها.. تصرخ بأستنجاد بأيّ أحد.. ستتسبب في إيقاظ الأموات بصوتها العالي لكن لا يَهم.. ستُنقذ نفسها حتى لو أثارت فضيحة.. فضيحة تعلم أنها ستكون من نصيب الوغد الذي أنجبها.. كم تكرهه.. كم تكرهه بتلك اللحظة وتتمنى موته.. ليته يموت..
وعلى إثر صوتها بدأ الجيران في الخروج من منازلهم والرجال الذين كانوا يسهرون بمقهى الحارة الشعبية ركضوا سريعًا نحو الصوت ليتفاجئوا بهيئة " فلك " أبنة منطقتهم ومن خلفها أربعة رجال بهيئة مُريبة..
وقبل أن يفر هؤلاء الأوغاد هاربين كان رجال الحارة يقبضون عليهم.. بينما هي توقفت بمنتصف الحارة بشعرها الأشقر المُسترسل على ظهرها يصل إلى نهايته لكنه مُشعث كثيرًا إثر المجهود الذي بذلته الدقائق الماضية.. بقميصها الواسع الطويل المفتوح حتى المنتصف لكن لحسن الحظ ترتدي أسفله كنزة قطنية من نفس اللون تخفي جسدها عن الأعين.. حافية القدمين فهي كانت قد خلعت حذائها قبل أن يصل هؤلاء.. حتى أن قدميها ينزفان دمٍ الأن لأنها ركضت بالشارع دون أن ترتدي شيءٍ يحميها.. تقف بين أهل حارتها تمسك بعصاتها السميكة وهي تتطلع نحوهم ببغض وكُره..
وعلى مدخل الحارة كان يقف " فتحي " المُخبر الخاص " بزين " والذي كلفه قبل عدة أيام بتقصي أخبارها ومعرفة كل تفاصيل حياتها.. وقد كان بالحارة قبل قليل ليفعل ما أمرهُ بهِ سيده.. وكان على وشك المُغادرة لكن صياح " فلك " أجبره على التوقف ومتابعة ما يحدث.. حيثُ تعرف عليها سريعًا فهو رأها تصعد إلى منزلها قبل قليل..
وسريعًا كان يفتح هاتفه ويقوم بمُهاتفة " زين "..
----------------------------
" دار عائلة العفريت "
يجلس " محمد العفريت " بشقته بمنزل العائلة يلعب " البلاي ستيشن " برفقة شقيقه الأكبر " زين ".. طفلًا في الثالثة عشر من العُمر بشعر أشقر ناعم.. وعيون عسلية بريئة.. وبشرة بيضاء شاحبة.. وعلى الرُغم من صِغر سنه لكنهُ كان ذو لسانٍ يحتاج إلى القص.. مُشاغب لا يخشى أحد..
صدحت ضحكاته العالية بالمنزل قائلًا بمُشاكسة:- وعاملي فيها كبير العفاريت، ومحسسني إنك كبير ذئاب الجبل وأهو أنا مخسرك 4 ماتشات.!
نظر إليه " زين " بشرًا قائلًا من بين أسنانه:- ولا، أنا سايبك تكسب بس بمزاجي، عشان أخويا الصغير، إنما لو عايز أكسبك هكسبك.
زم " محمد " شفتيه ثُم أصدر ضحكة رقيعة كالنساء وهتف قائلًا:- هيهيهيهيي حجة البليد مسح الدِكة.
=دِكة.! أنت يالا بتجيب الكلام دة منين. أنت متربي معانا في البيت دة ولا أنت متربي فين بالظبط.!
=لا أنا مش متربي أساسًا.
أنهى حديثه بضحكة قوية لا تليق بطفولته التي من المُفترض أن تكون بريئة لكنها ليست كذلك على الأطلاق.. نظر إليه شقيقه بذهول وقبل أن يتحدث وجدا " كريم " يندفع خارج غرفته بفعل قوةً ما ثُم سقط أرضٍ.. بينما تتبعه " روان " شقيقتهم تلك القصيرة التي قامت بركله ببطنه قائلة بنبرة جهورية كالرجال:- أنا مش قولتلك متاخدش الشاحن بتاعي تاني، هو أنا هشتري شاحن جديد كل يومين عشان خاطر جنابك ولا إيه.!
نهض " كريم " من جلسته ثُم قبض على تلابيبها يرفعها عدة إنشات عن الأرض وهو يهدر بجنون قائلًا:- يابت إنتِ قد الرامية دي، وبعدين إيه يعني حتت شاحن بنستخدمه سوى، فيها إيه يعني، هو أنا واكل ورثك.!
وجنونها لم يكُن يقل عن جنون شقيقها حيثُ قامت بعض كفه ليتركها وهو يتألم وباللحظة التالية كانت تقبض على خصلاته لتجذبه أرضٍ فيسقطا سويًا وهي تصرخ قائلة بشراسة:- هو أنت كمان عايز تاكل ورثي، مش كفاية واكل شاحني وبتاكل أكلي وكمان بتفكر في الورث، ما أهو دة اللي ناقص.
حرر خصلاته من بين كفيها ثُم قام بجذبها نحوه حتى أصبحت بجانبه تصارعه بشراسة ثُم هدر قائلًا بجنون أشد:- أكلك إيه اللي باكله يابت، دة إنتِ بتتعشي أربع مرات، خربتي بيت أبوكِ من كتر الأكل، لو فتحنا بطنك هنلاقي بقرة حلوب قاعدة جوة أو تنين مُجنح عشان كدة مش بتشبعي، وتقوليلي أكلك، أكل مين يا أم أكل.!
=ياكذاب أنت مش الأسبوع اللي فات أكلت ورك الفرخة بتاعي.!
=قصدك الورك الرابع بتاعك، ما إنتِ كُنت شافطة تلاتة قبله ومفتحتش بوقي.!
كانت الضربات تذهب وتأتي بينهما أثناء شجارهما كالمُعتاد بينما أمام جهاز " البلاي ستشين " يجلس " زين " برفقة شقيقه الأصغر يُراقبهما حتى هتف الأخير قائلًا وهو ينظر نحوه ببراءة:- دول بيتخانقوا.!
قلب " زين " عيناه بملل قائلًا:- أة مانا واخد بالي.
=طب مش هنسلك بينهم، دة حتى أنت الكبير.!
=لا فُكك، أنا من النهاردة الصغير عادي.
ضحك " محمد " بشر قائلًا:- طب بما أنك الصغير أعتبرني أنا أخوكِ الكبير وقوم هاتلي أشرب، وأنزل هاتلي سجاير.
وبمجرد أن انتهى من جملته حتى صدح صوت الصفعة التي هوت على مؤخرة رأسه وصوت شقيقه يهدر قائلًا:- قوم يالا بدل ما أقتل حد فيكم النهاردة، يلا.
بتلك اللحظة صدح صوت رنين هاتفه وكان المُتصل " فتحي " أبتعد قليلًا عن صوت الشجار ثُم أجاب قائلًا بحسرة:- عارف إن مكالمتك في الوقت دة وراها مصيبة، أشجيني.
هتف " فتحي " بعفوية قائلًا:- والله يا باشا مش بمزاجي، ما سعاتك اللي حياتك كلها مشاكل.
زم " زين " شفتيه قائلًا:- ماشي مقبولة منك، أنجز وقولي في إيه.
=البت اللي سعاتك أمرتني أعرف أخبارها وكل حاجة عن حياتها.
عقد حاجباه قائلًا بتعجب:- " فلك "، مالها.!
قص عليه " فتحي " ما حدث أمامه بتلك اللحظة وعندما انتهي هدر هو قائلًا بينما يتوجه نحو الباب:- أوعى تمشي من عندك دلوقتي، خليك هناك وركز في اللي هيحصل وتبلغني أول بأول، أنا دقايق وهبقا عندك.
------------------------------
" عودة إلى الحارة "
كانت " فلك " تقف بين الجميع شامخة.. صامدة.. لكنها بداخلها ترتجف.. ليس خوفًا وإنما غضبًا وكُرهًا.. صدح صوت واحدًا من رجال الحارة الكِبار قائلًا بتساؤل وهو ينقل نظراته بينها وبين الرجال:- إيه اللي حصل يا " فلك " يابنتي، ومين دول.؟
كورت قبضتها على عصاتها التي تمسك بها حتى الأن ثُم هدرت قائلة بصياح وهي تُشير بقبضتها الأخرى نحوهم:- الأو*** دول أتهجموا عليا في بيتي وكانوا عايزين يعتدوا عليا.
صاح واحدًا من الرجال قائلًا بنبرة مُتبجحة:- كدابة دة أحنا متفقين معاها على فلوس، وجينا طلعنا معاها الشقة برضاها.
توسعت نظراتها من هول ما سمعت.. أرتجف جسدها أكثر وكأنها على وشك الأصابة بالحمى.. بينما شهقات الناس من حولها جعلتها تغضب أكثر.. صدح صوت نفس الرجُل من حارتها قائلًا بنبرة شديدة:- أخرس قطع لسانك، " فلك " دي بنتنا ومتربية في حارتنا وعارفينها وعارفين أخلاقها كويس.
حينها تدخل " حمامة " صبي القهوة ذو السادسة عشر قائلًا بأنفعال:- الراجل دة كداب، الأسطا " فلك " دخلت الحارة في معادها زي كل يوم، وطلعت بيتها من غير ما تبُص يمين ولا شمال، وبعدها بشوية الأربع رجالة دول وصلوا الحارة ودخلوا بيتها وكان شكلهم مش مُريح أساسًا.
بدأت الهمهمات تصدح من حولها.. الجميع يشكُر في أخلاقها وتربيتها.. كل التعليقات التي سمعتها بتلك اللحظة كانت لصالحها.. تنفست الصعداء ليس لأنها كانت تخشى أحاديث الناس.. بل لأن اخيرًا هُناك من أنصفها..
حينها أشهر رجال حارتها عن مجموعة من الأسلحة البيضاء في وجوههم.. مما جعلهم يوقنون من فشل خطتهم للإيقاع بإبنة صديقهم.. هدر واحدًا من رجال حارتها قائلًا بغلظة:- هتقر وتقول ياض منك ليه مين اللي زقكم على الأسطا " فلك " ولا تتقطعوا وتدفنوا هنا النهاردة.؟
ابتلع الرجال لعابهم بخوف ولم يجدوا مفر من الأعتراف.. هدر واحدًا منهم بتوتر قائلًا:- بصراحة كدة أبوها لعب معانا على فلوس وخسر، ولعب مرة تانية عليها وبرضه خسر، وبصريح العبارة كدة قالنا بالحرف الواحد " اهي عندكم أتبسطوا بيها ".
لو كانت الكلمات تقتل لكانت ماتت في التو.. سقطت رأسها على صدرها بخُذلان واضح للأعمى.. أغمضت عينيها تمنع دِمعة قهر تتسلل خارجهما.. وتتمنى أيضًا لو تستطيع أن تصُم أذنيها حتى لا تسمع تعليقات من حولها وسبهُم للوغد المُسمى بالخطأ " والدها "...
هدر حينها الرجُل الأول الذي تحدث وقد كان أكبرهم سنًا قائلًا:- أخص عليه راجل خسيس وندل، والله حتى صفة الرجولة خسارة فيه.
قبل ذلك قيقة واحدة كان " زين " قد وصل الحارة يتبعه مجموعة من حراسه.. وها هو يقف على بُعد خطوتين منها يستمع إلى ما تفوه بهِ هذا الملعون بمنتهى الصفاقة.. بينما هي تقف بعينين مغمضتين.. ورأس مُتدلي بإنهزام.. وكأنها كانت تُحارب بمعركة بمفردها من أجل شيءٍ ما وخرجت منها خاسرة.. لم تكن كالمرة الأولى التي رأها بها.. عنيفة.. شرسة .. شامخة.. بل كانت مصفوعة.. مخذولة.. مهزومة.. ولا يعلم لما ألمه قلبه على مظهرها هذا..
وبإشارة خفية لرئيس حراسته الذي فهم الإشارة على الفور.. أقتحم التجمع هو ومجموعة من رجاله مزمجرين بقوة بالجميع ثُم قاموا بالقبض على الأربعة رجال ورحلوا بهم.. تصنم الجميع بصدمة مما حدث والكُل ينظر للأخر بتساؤل وعدم فهم.. حتى اقتحم هو الجمع ووقف بهيئتة المُهيبة وطوله الفارع أمامهم لكن نظراته كانت تتطلع بها وحدها..
نظر أخيرًا إلى الرجل الكبير بأحترام قائلًا بنبرة صلبة:- مع أحترامي ليك ياعم " جمال " بس الحوار دة حصل في شارع من شوارع العفاريت، يعني يخصنا.
هتف الرجل الكبير بذهول:- مش مستاهلة والله يابني، أحنا كنا هنسلمهم للقسم.
أبتسم " زين " بهدوء مُصطنع قائلًا:- أكيد طبعًا، ما أحنا برضه هنعمل كدة.
اوميء الرجُل ثُم هدر قائلًا بنبرة عالية:- يلا كل واحد لحاله ياخوانا، خلاص الليلة اتفضت..
بينما هو كان ينظر إليها.. وهي لم تكُن لتبتعد بنظراتها عنه.. وتحولت ملامح الهزيمة على وجهها إلى أخرى شرسة.. صلبة.. وكأنها ترفض مساعدته.. على الرُغم من أنها تعرف أن قوانين العفاريت سارية على كل المناطق التي تقع ضمن صلاحياتهم ومن سوء حظها شارعها واحدًا منهم..
العفاريت لن يمرروا ذلك الأمر مرور الكرام.. وبالطبع الأذى سيطول والدها.. لكنهُ يستحق.. يستحق ما سيحدث لهُ وبجدارة..
تأملها " زين " بداية من خصلاتها الشقراء المُشعثة.. بشرتها الشاحبة إثر الصدمة.. عينيها المُشتعلتين ببريق الغضب.. شفتيها المزمومتين وكأنها تمنع نفسها من التفوه بما لايليق.. ملابسها الغير مهندمة لكنها واسعة وسليمة تستر جسدها.. وأخيرًا سلاحها الحبيب " الشومة ".. يراها تقبض عليها بكل قوتها تُفرغ غضبها بها..
حينها رفع نظراته نحوها.. إلى حدائق الزيتون بعيناها.. وأبتسم.. أبتسم لها بمعنى سنتقابل مرة أخرى..
ثُم تراجع خطوتين إلى الخلف وأبتسامته مازالت تحتل وجهه والتفت ليرحل.. تاركًا إيها ترتجف من شدة الغضب.. القهر.. الكُره.. غاضبة ناقمة ترغب في تحطيم كل شيء وأي شيء..
--------------------------------
مر الليل بأحزانه وأفراحه على الجميع.. منهم من لم ينال طعم الراحة ومنهم من نام مرتاح البال.. أشرقت الشمس بنورها الوهاج تُعلن عن بداية يومٍ جديد.. قد يكون رائع على البعض.. وغير مُحتمل على البعض الأخر..
أستيقظت " روان " في تمام الساعة السابعة صباحٍ.. دلفت إلى المرحاض وبعد أن أنتهت من استحمامها بدأت تستعد لبداية يومها.. وقفت أمام مرآتها تُهندم ملابسها المكونة من بنطال من الچينز باللون الزيتي.. وچاكيت بنفس اللون والخامة.. وأسفله كنزة صوفية بيضاء اللون.. ارتدت حذائها الأبيض الرياضي.. ثُم صففت خصلات شعرها السوداء القصيرة بالفرشاة وتركته هكذا يُحيط بوجهها بخصلاته القصيرة..
خرجت من غرفتها ثُم خارج الشقة بأكملها متوجهة نحو شقة خالتها " لطيفة "..فتحت لها الأخيرة وبعد وصلة من السلامات والأحضان تركتها وتوجهت نحو غُرفة " ليال " لتطمئن عليها.. طرقت الباب مرة واحدة ثُم اقتحمت الغُرفة عليها.. لتفزع الأخيرة وتنتفض برُعب.. فهي كانت تُدخن سيجارة كعاداتها في الصباح الباكر.. نظرت إليها " روان " بسُخرية قائلة:- لما إنتِ قلبك خفيف كدة بتشربيها في البيت ليه.!
نظرت إليها " ليال " شزرًا ثُم هتفت قائلة ببرود:- خليكِ في حالك بدل ما أقوم أجيبك من شعرك.
القت " روان " بنفسها على الفراش الواسع قائلة بضحكة مرحة:- صحتك اللي مش قد كدة دي أكيد مقوية قلبك.
كانت " ليال " تنظر إليها بشر فضحكت " روان " عليها بقوة قائلة بلطف كأنها تسترضي طفل صغير:- خلاص متزعليش كدة، إنتِ شطورة وقوية وزي الفل.
=جاية ليه على الصبح إنجزي.!
تنهدت " روان " قائلة بضيق:- رايحة أشوف المصيبة اللي أبتليت بيها دي.
عقدت " ليال " حاجبيها بعدم فهم قائلة:- مصيبة إيه دي؟!
نظرت إليها " روان " قائلة بهدوء:- صحيح إنتِ متعرفيش اللي حصل.
قامت بقص حادثة ذاك الشاب الذي وجدته يتشاجر مع مجموعة من الرجال .. لتضطر حينها أن تطلب لهُ الإسعاف وتنقله إلى المشفى على الفور.. لكنهُ كان بغيبوبة لعدة أيام واليوم صباحٍ قد استفاق منها.. لذلك يجب أن تذهب حتى تقابله..
تنهدت " ليال " بحُزن قائلة:- ربنا يشفيه، خير ما عملتِ يا " روان " إنك أنقذتيه.
اومأت لها بصمت دون حديث.. حينها عادت " ليال " إلى شرودها وهي تُدخن سيجارتها بينما " روان " تُفكر بمصيبتها التي تنتظرها..
-----------------------------
بعد ساعة كانت " روان " تتوقف بسيارتها أمام المشفى لكنها كانت تزفر بضيقٍ بالغ وهي تتحدث عبر الهاتف مع شقيقها المُبجل والذي هدر قائلًا بعصبية:- أنا قولتلك متروحيش المستشفى غير وأنا معاكِ، صح!
زفرت بضيق قائلة:- يابني أنت جاي بعد الفجر، وأنا صحيت بدري والدكتور مكلمني من بالليل عشان أجي بكرة بدري فمرضتش أقلقك يا " زين "، في إيه لكل دة.!
وصلها زمجرته القوية وهدر قائلًا:- فيها إنك أنقذتي واحد غريب منعرفش عنه حاجة، ودلوقتي رايحة يتحقق معاكِ عشان إنتِ اللي نقلتيه للمستشفى، وأنا مكنتش عايزك تتعرضي لكل دة.
زفرت للمرة الآلف قائلة بنبرة حذرة:- خلاص يا " زين " أنا مش هتكلم مع الظابط غير لما أنت تيجي، مبسوط كدة.؟
=نص ساعة وهكون عندك.
أغلق الخط بوجهها لتنظر إلى الهاتف بذهول تحول إلى غضب وهي تسبُه بعقلها وتتوعده برد الصاع صاعين..
-----------------------------------
=فقد إيه، الذاكرة، يعني إيه.!
تفوهت " روان " بتلك الجملة بذهول وهي تتهاوى على المقعد الذي خلفها بمكتب الطبيب المسؤول عن حالة الشاب الذي أنقذته قبل عدة أيام.. تحدث الطبيب قائلًا بنبرة عملية:- للأسف يا أنسة " روان " الضربة اللي أتعرض ليها أثرت على المُخ ومنه أدى إلى فقدانه الذاكرة.
كانت تُريد أن تصفع وجهها عدة مرات لعلها تفيق من تلك الكارثة.. أيعني هذا أنها تورطت معه أم ماذا..!
هتفت قائلة بلهفة:- طب مفيش أي أمل ترجعله ذاكرته في أقرب وقت.!
=دي حاجة في علم الغيب، حالات فقدان الذاكرة مش بيكون معروف أمتى ممكن ترجعلها ذاكرتها، في ناس ممكن ترجع بعد أسبوع، وناس بعد شهر، وناس بعد سنة، وفي ناس فقدتها وللأسف مرجعتش لغاية دلوقتي، ودة بيعتمد كمان على المُحفزات اللي بيتعرض ليها العقل عشان تنشطه.
هتفت قائلة بتوتر:- يعني إيه.!
تنهد الطبيب قائلًا بصبر:- يعني لازم أهل المريض يحاولوا ينشطوا عقله بذكريات بينهم وبينه، أو على الأقل يحاولوا يخلوه في بيئته اللي نشأ وعاش فيها يمكن في أي لحظة العقل يلتقط أي إشارة تخليه يتحفز إن هو يتذكر.
هتفت قائلة بحيرة:- بس أنا للأسف معرفوش، وعرفت كمان إن مكنش معاه أي أثبات شخصية يوم ما جبته المستشفى، إزاي ممكن أخلق ليه البيئة دي.؟
أجابها الطبيب بجدية:- أحنا عرفنا إسمه.
توسعت نظراتها على مصرعيها قائلة:- إيه، إزاي.؟
=يوم الحادثة مكنش معاه أي أثبات شخصية ولا حتى ورقة واحدة تدلنا عليه، ولا حتى تليفون بحيث نتصل على أي رقم تبعه، بس لاقينا في جيبه صورة فيها 3 اشخاص، هو وشخصين كمان ومكتوب فوق صورة كل واحد فيهم إسمه.
=وهو إسمه إيه.؟
=تــــيـــمــــور..
-------------------------------
خرجت من غُرفة الطبيب وهي توشك على أن تترنح من شدة الصدمة.. ماذا ستفعل الأن بتلك المصيبة.. هل ستتركه يواجه مصيره وهو الذي لم يعُد يعرف في الدنيا شيءٍ..!
هو حتى لا يمتلك عملًا الأن ولا منزل.. كيف سيواجه الحياة هكذا..! شعرت بشفقة شديدة نحوه.. فهو الأن فقد هويته.. لا يعلم ماضيه.. ولا يمتلك حاضر ليعيشه.. ولا يعلم ماذا يُخبيء لهُ المستقبل..
وجدت نفسها أمام غرفته.. ترددت قليلًا في أن تدخل أم لا.. لكنها بالنهاية حسمت أمرها وقررت الدخول بعد أن غلبها فضولها في أن ترى حالته الأن..
طرقت الباب لتستمع إلى صوتٍ هاديءٍ رخيم يسمح لها بالدخول.. تنفست بعمقٍ ثُم توكلت على الله وفتحت الباب لتدلف إلى الغرفة..
وقعت أنظارها عليه يجلس نصف جلسة ويستند بظهره على الفراش.. يتطلع إلى الأمام بشرود لكنهُ أنتبه إلى دخولها وقد كان يتوقع واحدًا من التمريض.. تأملها قليلًا ليراها فتاة قصيرة.. نحيفة الجسد.. ترتدي ملابس تُشبه الرجال قليلًا.. شعرها أسود قصير يصل إلى قبل كتفيها بقليل.. عينيها بندقية وأهدابها كثيفة تحاوطهما.. بشرة قمحية تميل إلى البياض بعض الشيء.. ملامح مُنمنمة صغيرة تجعلك تحتار في عُمرها..
بينما هي كانت تفعل المثل وتتأمله مثلما يفعل معها.. شاب طويل لا يقل عن مائة وثلاثة وثمانون سم.. جسد رياضي كلاعبين المُلاكمة.. بشرة بيضاء.. عينيه بلون زُرقة مياه البحر.. خصلات بُنية ناعمة كثيفة..
انتهت من تأملها وهي تتحرك خطوتين إلى داخل الغُرفة دون أن تُغلق الباب خلفها.. بينما هو يُتابعها بعيناه حتى وقفت أمام فراشه قائلة بنبرة هادئة:- صباح الخير، حمد لله على سلامتك.
لم يُجيبها على الفور.. كان يتطلع نحوها شاردًا بها حتى همس قائلًا بنبرة رخيمة:- الله يسلمك، إنتِ مين.؟
أجفلها بسؤاله المباشر السريع.. وعلى الرُغم من أنها من أنقذته لكنها تشعر بالتوتر يحاوطها من مُجرد وقوفها أمامه.. منذُ اللحظة الأولى لها بالغُرفة وهي تشعر بهالة من القوة والغموض تحيطان بهِ.. هذا الرجُل الذي أمامها ليس مُجرد شخصٍ عاديًا وهي تشعر بذلك وتثق بحدسها..
تنحنحت قائلة بثبات:- أنا " روان "، أنقذتك يوم الحادثة بتاعتك ونقلتك على هنا.
أغمض عيناه وكأنه يتألم لثوانٍ ثُم فتحهما قائلًا بحيرة:- أنا مش فاكر أي حاجة، الدكتور بيقول إني فقدت الذاكرة نتيجة ضربة قوية على راسي.
اومأت لهُ قائلة بجدية:- أيوة، وقت ما شوفتك كنت بتتخانق مع أربع رجالة، أعتقد كانت محاولة سرقة وأنت كنت بتقاومهم، نزلت من عربيتي عشان أساعدك بس قبل ما أوصلك كان واحد منهم ضربك بحديدة على راسك، وطلعوا يجروا.
تجنبت الجزء الخاص بإطلاقها للنيران عليهم.. فهي في غنى الأن أن تشرح لهُ من هي أو لماذا تمسك بسلاح ناري معها أينما كانت.. انتبهت إلى حديثه قائلًا بنبرة قانطة:- ومكنش معايا أي أثبات شخصية.
وضع كفه أسفل وسادته يستخرج تلك الصورة التي أخبرها عنها الطبيب قبل قليل ثُم همس قائلًا بنفس النبرة:- كل اللي أعرفه إن إسمي " تيمور " ومن الصورة دي، حتى الأتنين اللي معايا فيها معرفش حد فيهم.
اللعنة على شعور الشفقة الذي تغلغل بداخلها تجاهه.. مظهره الحزين أدمى قلبها وهي التي لم تعتاد أن تكون لينة القلب.. لكنها لم تظهر أيًا من مشاعرها على وجهها الصلب.. لم تعرف بما تُجيبه.. فهي بالأصل لا تعرف ماذا ستفعل معه بتلك اللحظة..
هتفت قائلة بهدوء:- الدكتور قال إن ممكن الذاكرة ترجعلك في أي وقت.
أجابها قائلًا بنبرة فاترة:- بتمنى.
كان ينظر إليها وهو يُجيبها لكن نظراته تحركت نحو الباب حيثُ يقف " زين " الذي كان على وشك أن يدلف إلى الغرفة قبل أن تلتقط أذنيه الجزء الأخير من الحديث.. كان غاضب بسبب ما حدث بالأمس بما يكفي لتأتي الأن تلك الكارثة التي وقعت على رأس شقيقته وتستفزه أكثر.. دلف إلى الغرفة قائلًا بهدوء ظاهري:- حمد لله على سلامتك، عامل إيه النهاردة.؟
هتف " تيمور " قائلًا بتعجب:- لله يسلمك، بخير.
لاحظت " روان " نظراته المُتعجبة نحو شقيقها فهدرت قائلة بجدية:- دة " زين " أخويا، دة أستاذ " تيمور ".
هتف شقيقها قائلًا بريبة:- أنا عرفت إنك فقدت الذاكرة، إزاي عرفت إسمك.
قصت عليه شقيقته أمر الصورة سريعًا.. فتحدث قائلًا بأبتسامة لم تصل إلى عيناه:- " روان " عايزك برة شوية لو سمحتِ.
خرجت معه من الغرفة وأغلقا الباب خلفهما تحت نظرات " تيمور " المُتعجبة.. بينما في الخارج أستطاعت أن تُظهر كل ما تشعر بهِ من توتر وضيق.. حينها هدر شقيقها قائلًا بنبرة مُبهمة:- هتعملي إيه.!
جلست على المقعد الموجود أمام باب الغرفة ثُم همست قائلة بقنوط:- مش عارفة، مش عارفة أفكر.
لم يتحدث وتركها تستوعب الخبر قليلًا.. وبعد عدة دقائق تحدثت هي قائلة بتوتر:- بُص أنا أنقذت حياته، وأحنا فضلنا معاه لغاية ما فاق، وهندفع مصاريف المستشفى، وبكدة يبقا عملنا اللي علينا معاه، وهو ليه رب إسمه كريم بقا، أكيد ربنا مش هيسيبه، صح.!
تطلع بها " زين " قليلًا بلا تعبير وكأنه يُخبرها بأنا لا أصدق أنكِ ستفعلين ما تتفوهين بهِ.. أشاحت بنظراتها بعيدًا عنه حتى لا يكتشف دواخلها.. بينما هو تساءل قائلًا:- إنتِ مُقتنعة بكلامك دة.؟
نظرت نحوه وكانت على وشك أن تؤكد حديثها لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة وهي تطرق برأسها أرضٍ غير قادرة على التفوه بشيءٍ.. أشفق عليها مما تعتريه نفسها فهتف قائلًا بخفوت:- أنا عندي حل.
------------------------------
" عودة إلى دار العفاريت "
بعد أن رحلت " روان " إلى المشفى نهضت " ليال " من فراشها ثُم توجهت إلى شُرفة غرفتها لتفتحها على مصرعيها.. أبتسمت فور أن وقعت عينيها على الشيء الأول المُبهج بحياتها-چوچا السُلحفاة خاصتها- سلحفاة صغيرة بحجم كف يدها.. ملامحها لطيفة هادئة.. هي بأكملها كائن حي هاديء.. مُسالم.. غير مُكلف تربيته إطلاقٍ.. كانت " چوچا " كطبيعتها تلهو وتلعب بالمنزل الخشبي خاصتها بنشاط كعاداتها بفصل الشتاء.. المنزل الذي قامت " ليال " بشرائه لها عبر الأنترنت مع الكثير من الرمال من نوع البيتيموس والرمال العادية.. حيثُ قامت بخلطهم سويًا ووضعت مفرش كبير من النوع-المشمع- وفوقه الرمال.. مع عددًا من المخابيء الفُخارية لتختبيء بها " چوچا " وهي تلعب بفصل الشتاء.. وتحميها من شمس الصيف الحارقة التي من الممكن أن تودي بحياتها.. بالأضافة إلى ضلفة من السلك لمنع أي حشرات أو قوارض من أقتحام منزل سلحفاتها وأذيتها.. كما وضعت عدة ألعاب صغيرة وبعض الأحجار الناعمة لتتسلق عليهم أثناء لهوها.. بجانب طبقٍ خشبيًا مسطح للماء وأخر للطعام..
افتر ثغرها عن أبتسامة حنونة وهي ترى " چوچا " تقترب منها بخطواتها البطيئة فور أن فتحت عليها منزلها وهي تُعِد نفسها لوجبة لذيذة من الخضراوات الطازجة وبعض الماء.. وضعت " ليال " الطعام والماء بمكانهما المُعتاد ثُم ربتت على الصدفة خاصتها بحنو وكادت أن تُغلق الضلفة من جديد لكن " چوچا " فاجأتها عندما رفعت رأسها كثيرًا تنظر نحوها وكأنها تترجاها لتبقى.. صُدمت من ما حدث كثيرًا.. لقد قراءت العديد من المعلومات عن السلاحف وأهمها أنها لا تتفاعل مع صاحبها.. كائن معدوم الفهم والأستيعاب.. بطيء الحركة.. لا يعرف سوى الطعام والماء الذي يريدهما من صاحبه وفقط.. لكن " ليال " عندما قامت بشرائها قبل عدة أسابيع كانت تحرص على أن تتعرف عليها وذلك عن طريق حاسة الشم.. كانت تضعها على بطنها وهي جالسة نصف جلسة وتتركها تسير ببطءً حتى تصل إلى وجهها وتبدأ في أن تستنشق رائحتها.. وبتكرار المحاولة لاحظت أنها لم تعُد تخشاها كما كانت.. عندما تقترب منها بيدها لا تخاف وتختبيء داخل صدفتها كما كانت تفعل.. كما أنها تعودت أن تُربت عليها بحنو.. وتتركها تدخُل غرفتها تتمشى بها لبعض الوقت ثُم تُعيدها إلى منزلها الخشبي مجددًا.. وعلى ما يبدوا أن سلحفاتها تتفاعل معها الأن وأصبحت تعرفها وتشتاقها..
أبتسمت " ليال " بحنانٍ هامسة:- إنتِ كمان وحشتيني، أنا كنت تعبانة شوية بس خفيت وهرجع أهتم بيكِ زي الأول متقلقيش.
رفعتها قليلًا وهي تُنظفها من الرمال قائلة بمرح:- شكلك عايزة حمام دافي وبعدين تنامي في حضني شوية، خلصي أكلك عشان تستحمي، يلا هاتي بوسة.
قبلت الصدفة خاصتها ثُم تركتها بأرضية منزلها تسير نحو طبق الطعام وتبدأ في التهامه..
أغلقت الضلفة ونهضت لتخرج من الشرفة عندما اصطدمت بشقيقتها " رجوى " تفف خلفها تتطلع نحوها بذهول ثُم هدرت قائلة وهي تضرب كفًا بالأخر:-لا حول ولا قوة إلا بالله، هي الرصاصة كانت في ضهرك ولا في مخك.
زمت " ليال " شفتيها بضيق ثُم نظرت نحوها بأستيعلاء رافضة إجابتها..
---------------------------------
=يعني إيه مفيش خروج من البيت تاني، هتحبس هنا باقية حياتي يعني ولا إيه.!
هدرت " تالين " بتلك الجملة بقهر تشعر بهِ منذُ أن تعرضت لمحاولة إغتيال واضحة كوضوح الشمس.. لكنها لا تعرف من الوغد الذي جعل حياتها تزداد صعوبة بعد فعلته تلك.. من يُمكن أن يحاول قتلها وهي التي لا تؤذي حتى فراشة.. وبالطبع لم يتواني جدها عن إصدار أمر بسجنها فعليًا بالمنزل لحين إشعار آخر..
أجابتها والدتها قائلة بفتور وهي تجلس تشاهد مسلسلها التركي المفضل حريم السلطان:- دي أوامر جدك، أنا مليش دخل فيها.
جزت على اسنانها بغيظ بينما خصلاتها الشقراء الطويلة-جدًا- تتطاير من حولها ثُم هدرت قائلة:- طب ما تدافعي عني، هو أنا مش بنتك زي " رامز ".!
زمت والدتها شفتيها بضيق قائلة:- وإنتِ هتقارني نفسك بأخوكِ الراجل، إنتِ عارفة وضعه كويس، وبعدين جدك معاه حق وبيخاف عليكِ، إحنا أصلًا منعرفش مين لسة اللي عمل العملة السودة دي.
تطلعت بها " تالين " قليلًا بنظراتٍ مُبهمة دون أن تُجيب.. لم تشعر بخوف والدتها على ما أصابها قبل عدة أيام.. بل على العكس أنفجرت بها تُعنفها لأنها من خرجت ذلك اليوم.. ثُم تركتها ورحلت لتتابع أشغالها بالمنزل.. وكأنها ليست ابنتها..
همست " تالين " قائلة بقنوط:- إنتِ حتى مكنتيش خايفة عليا لما عرفتِ باللي حصل، كإن " رامز " بس اللي ابنك، صح.!
نظرت إليها والدتها شزرًا ثُم هدرت بها قائلة بنبرة قاسية:- في إيه يابت مالك، عايشة دور الأرملة السوداء كدة ليه، وإيه كل شوية " رامز " دي، تلاقي اللي صابه دة من عينيكِ اللي حشراها في حياته، سبيه في اللي هو فيه ياختي وشوفي حالك.
ترقرقت عِبرات القهر بمقلتيها.. ارتعشت شفتيها رغبةً منها في أن تنفجر باكية لكنها رفضت أن تظهر ضعفها أمامها.. لن ينالها إلا بضعة كلمات جارحة أخرى ستُزيد من آلامها.. بتلك اللحظة أقتحمت الجلسة " چيداء " التي نظرت إلى زوجة عمها بغضب ثُم أشاحت بنظراتها بعيدًا عنها لتقترب من هذه الصغيرة الباكية.. الجائعة لبعضٍ من الحُب والأهتمام.. ثُم قبضت على كفها وسحبتها معها نحو الخارج.. بينما زوجة عمها زمت شفتيها بضيق قائلة:- مالها دي داخلة زي الغراب كدة إلا ما قالت سلام عليكم حتى.!
-----------------------------
=ممكن تهدي وتبطلي عياط.
هدرت " چيداء " بتلك الجملة بلهفة وهي تشهد حالة ابنة عمها الصغيرة البريئة المُنهارة في البُكاء ولا تستطيع أن تجعلها تتوقف.. بينما " تالين " هدرت قائلة بقهر ممزوج بشهقات بُكائها:- أنا محدش بيحبني، بابا وماما مش بيحبوني، كل همهم " رامز " وبس، عشان هو ولد يعني، طب مانا كمان بنتهم، لما مش بيحبوني خلفوني ليه.!
اقتربت " چيداء " منها قائلة بحنانٍ خاص:-إزاي بس يا حبيبتي، أكيد بيحبوكِ، إنتِ بنتهم ومهما حصل محدش هيخاف عليكِ زيهم، ممكن بس تكون طنط متضايقة اليومين دول وأعصابها تعبانة بسبب اللي حصل لـ " رامز "، وبتعبر عن دة بطريقة غلط، لكن هي أكيد بتحبك.
حركت " تالين " رأسها بمعنى لا وهدرت قائلة بقهر أشد:- لا، إنتِ بتقولي كدة عشان تواسيني بس، لكن البيت كله عارف الحقيقة دي، عارف إن هما بيفرقوا بينا، عمري ما تعبت وسهرت عليا زي ما بتعمل معاه، طنط " فوزية " وطنط " فاطمة " هما اللي كانوا بيسهروا معايا، لما بنجح محدش بيهتم في حين إن " رامز " سقط أكتر من مرة ولما بينجح بيتعمل ليه فرح، وحاجات كتير أوي غير اللي بقوله، ليه بيعملوا معايا كدة، لــيــه.!
صرخت بجملتها الأخيرة بقهرًا بالغ.. حديثها جعل " چيداء " تدمع من أجلها.. تلك الصغيرة تعيش اسوأ ايام حياتها برفقة أم ذات قلب متحجر.. وأب لا يشعر بها غارق بدواماته الخاصة.. بتلك اللحظة اقترب " جواد " وهو يحمل صينية متوسطة الحجم عليها ثلاث أكواب من عصير الفراولة المُنعش ثُم جلس معهما حيثُ كانا يجلسن بالحديقة الخاصة بالمنزل وهتف قائلًا بنبرة حنونة:- أسف لو هتطفل على قاعدة الأنسات الجميلات الخاصة، بس أنا سمعت صوت عياط وبما إن قلبي رُهيف تجاه دموع البنات-الحلوة- بالذات، فقولت أعمل شوية العصير الحلوين دول ونشربهم على رواقة كدة.
نظرت إليه " تالين " ببراءة وهي تمسح عِبراتها بكفيها كالأطفال ثُم همست قائلة وهي تحاول السيطرة على شهقات بكائها:- لا محدش بيعيط أهو.
أبتسمت " چيداء " بعطفٍ وهي تنظر نحو شقيقها الذي تبادل معها النظرات يُخبرها أنهُ يُدرك ما يحدث.. تحدثت الأولى قائلة ببعض المرح:- شوف يا " جواد " الطفلة الصغيرة دي بتعيط عشان جدك رفض يخرجها من البيت بعد اللي حصل.
نظرت إليها " تالين " بإمتنان لأنها لم تُفصح عن ما حدث لها بينما " جواد " تحدث قائلًا بحنو:- طب ما جدك معاه حق يا " تالين "، هو بيخاف عليكِ يا حبيبتي والله.
لم تعرف بما تُجيب لذلك همست قائلة بخفوت:- عندك حق.
أشفق عليها بشدة لذلك انتفض من مكانه قائلًا بلهفة مرحة:- هروح أقنع جدك إنك تطلعي معايا أنا و " چيداء " وهفسحكم في الحتة اللي تقولوا عليها، بس لو رجعت لاقيت العصير دة زي ما هو وإنتِ لسة بتعيطي اعتبري العرض لاغي.
ثُم ركض نحو المنزل تاركًا إياها بفمٍ فاغر وبدون تردد كانت تلتقط كوب العصير خاصتها وتتجرعه دفعة واحد.. تحت نظرات " چيداء " المُبتسمة والعطوفة..
-----------------------------------
إلى متى ستُحاولين قتلي.. بينما أنا أُقدم لكِ قلبي.!
صدح صوت رنين جرس منزل عائلة " آل سُليماني " فقامت الخادمة بفتحه لتتفاجأ بوجود-مُحضر من المحكمة- أمامها ويطلب رؤية السيد " عاصي رزق السُليماني "..
كان الأخير خارجٍ من غُرفة الطعام بعد أن تناول طعامه برفقة عائلته.. وبمُجرد أن عرف الجميع بوجود مُحضر على باب منزلهم توجهوا معه نحو الخارج..
=حضرتك السيد" عاصي رزق السُليماني ".؟
تفوه المُحضر بذلك السؤال طالبًا إثبات شخصيته ليتأكد.. أعطاها " عاصي " لهُ وهو يشعر بالريبة لوجوده.. ويتمنى أن ما يُفكر بهِ يكون خاطيءٍ.. لكن تأكدت توقعاته عندما هتف الرجُل قائلًا بنبرة عملية:- حضرتك مرفوع عليك قضية طلاق من السيدة " ليال عصام النويري "، أتفضل إمضي هنا بالأستلام.
بتلك اللحظة لو كانت أمامه لم يكُن سيؤذيها بالكلمات.. بل كان سيحرقها حية.. إذًا " ليال " ترغب في التحرر منهُ.. تنتفض لكرامتها بعد عدة كلماتٍ طائشة تفوه بها بلحظة عضب.. هي تُريد أن تلعب.. حــســنًــا لــنــلــعــب يــا.. خــائــنــة..
------------------يُتبع-----------------