العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل الخامس
*أنـــتِ لـــي*
مشاعرنا كحبات الرمال.. تتناثر هُنا وهُناك دون حساب.. لفحة هواء بعثرتها دون خجلٍ.. أيُمكن ببضعة قطراتٍ من ماء نجتمع حبيبي..!
" دار عائلة العفريت "
اقتربت الساعة من الثانية عشر بعد مُنتصف الليل ولم تعود " ليال " إلى المنزل حتى الأن.. لاحظ غيابها الغير مُعتاد جدها و " زين " لكن لم يرغبا في بث الرُعب في قلوب الباقية.. كانت جميع العائلة تجتمع بحديقة المنزل الكبيرة.. سهرة لطيفة لا تخلو من مزاح الشباب ومرحهم وضحكات الكِبار وحكمتهم.. لم ينتبه أحد أخر إلى غيابها لأنها هاتفتهم قبل عدة ساعات وأخبرتهم أنها رُبما ستتأخر بالعمل اليوم..
وأثناء تلك الجلسة كانت تجلس " بتول " في ركنٍ خاص تبعد عدة أمتار عن باقية العائلة ذلك بسبب وجود المدعو " كريم " معهم.. كان الأخير يُرسل إليها نظرات استفزازية يشوبها الغموض لكنها لم تعبأ بهِ ولم تنظُر نحوه حتى مما جعله يستشيط غضبًا..
كانت تقرأ كتابًا كعاداتها وتتجاهل تمامٍ نظرات " كريم " المُستفزة الموجهة نحوها عندما صدح صوت رنين هاتفها وكانت المُتصلة صديقتها " شروق ".. فتحت الخط قائلة بغيظ:- هو دة اللي ساعة وهكلمك، دي الساعة داخلة على 12 بالليل وإنتِ لسة فاكراني دلوقتي.!
ضحكت صديقتها قائلة بأسف:- أنا أسفة يا " بيتو " بس أخويا جيه متأخر ومرضيش ينزلني لوحدي.
تنهدت " بتول " قائلة ببساطة:- خلاص ياحبيبتي ولا يهمك، ممكن تجيبي الفستان وقت تاني.
هدرت " شروق " قائلة سريعًا:- لالا أنا قدامي دقيقة وأبقا عند بيتك، " وليد " جايبني أهو، اطلعيلي بس برة عشان معنديش وقت أدخلك لإني مستعجلة.
عقدت " بتول " حاجبيها بإستغراب لكنها أجابتها بالموافقة وأغلقت معها الخط.. نهضت من مكانها متوجهة نحو التجمع العائلي قائلة بهدوء:- " شروق " واقفة برة هطلع أخُد منها حاجة وأجي.
هتفت السيدة " لطيفة " قائلة بتعجب:- طب ما تدخليها يا " بيتو " وتقضي معانا السهرة وتبقي توصليها إنتِ وحد من الشباب، أو حتى تبات معاكِ فوق.
مطت شفتيها قائلة ببساطة:- شكلها مستعجلة ورايحة مشوار مع أهلها يا خالتو.
اومأت خالتها بتفهم فتحركت هي تسير بخطواتٍ هادئة داخل الحديقة حتى وصلت إلى الحديقة الخلفية.. فتحت البوابة الصغيرة سريعًا عندما لمحت صديقتها تقف بجانب سيارة شقيقها تنتظرها.. اقتربت منها قائلة بتعجب:- هو الفستان كان هيطير يعني، ما كُنتِ جبتيه يوم تاني وخلاص.!
ضخكت " شروق " وهي تُعانقها تقبلها بمرح على وجنتيها قائلة:- يابنتي كدة كدة نازلة مع أهلي رايحين نتعشا برة فقولت أعدي عليكِ بالمرة يعني.
ابتسمت " بتول " بتفهم وقبل أن تُجيبها صدح صوت من خلف صديقتها قائلًا بنبرة رخيمة:- إزيك يا أنسة " بتول ".
نظرت إلى الشخص المُتكلم من فوق كتف صديقتها وقد كان " وليد " شقيقها.. شاب وسيم ولبِق.. مُهندس في منتصف عِقده الثاني.. تحترمه " بتول " بشدة ولطالما أظهر هو احترامٍ مُماثل.. تتبادل معه عدة أحاديث ودية قصيرة جدًا عندما تكون في زيارة لصديقتها ويأتي هو فجأة.. ابتسمت هي بهدوء قائلة بخفوت خجول:- الحمد لله بخير، إزاي حضرتك يا بشمُهندس.؟
أبتسم " وليد " بإعجاب غير قادر على السيطرة عليه بعد قائلًا بنبرة هادئة:- بخير عشان شوفتك أكيد.
توردت وجنتيها حياءًا فطريًا ولم تعرف بماذا تُجيب فضحكت صديقتها بخُبث مما جعلها تزجرها بنظراتها.. بتلك اللحظة شعرت بمن يحاوط كتفيها بذراعِه يضمها إلى صدره.. انتفضت " بتول " بهلعٍ عندما أبصرت " كريم " يقف بجانبها يضُمها بتلك الحميمية ولكنهُ لم يكُن ينظر نحوها بل كانت نظراته موجهة نحو... " وليد "..!!
نظراتٍ جافة.. غاضبة وجهها نحو شقيق صديقتها وهو مازال مُحتجزها بين ذراعه وصدره.. حاولت أن تتملص منهُ بهدوء دون أثارة جلبة لكنهُ ضغط عليها أكثر وهو يُرمقها بطرف عيناه بنظرة تحذيرية ثُم وجه حديثه إلى " وليد " قائلًا بإبتسامة سمجة:- أخبارك إيه يا أستاذ " وليد "..؟
كان " وليد " ينظر إليه بعبوس وهو يرى طريقة احتضانه لها لكن عبوسه ازداد عندما نعته بـ " الاستاذ " مما جعله يهدر قائلة بضيق:- بخير الحمد لله، وعلى فكرة أنا مهندس مش أستاذ.
ضحك " كريم " بسخافة بينما ملامحه لا تحمل شيءٍ من المرح ثُم هدر قائلًا:- إيه دة أنت منهم..!
عقد حاجبيه قائلًا:- مين دول..؟!
وجاءته الإجابة سريعًا من " كريم " قائلًا ببرود:- المهندسين المعقدين نفسيًا، اللي شايفين الحياة عبارة عن شوية بني آدمين ومهندسين بس.
شهقت " بتول " من وقاحته واشتعل غضبها بشدة.. لكن " وليد " أجاب قائلًا بهدوء منافي لغضبه الحالي:- لو كنت جربت الهندسة وقتها كنت هتفهم ليه المهندس بيعتز بلقبه.
نظر إلى شقيقته قائلة بنبرة عادية:- يلا يا " شروق " عشان منتأخرش على معادنا.
ودعت " شروق " صديقتها واستقلت السيارة برفقة شقيقها ثُم تحرك بالسيارة مُبتعدًا.. عندما اختفت من أمامهما أزاحت " بتول " ذراعه من عليها بعُنف ثُم هدرت قائلة بجنون:- إيه اللي أنت عملته دة..!
نظر إليها ببرود ولأقترابه منها أكثر من المُعتاد لاحظ كم هي قصيرة بالنسبةٍ لهُ.. كانت بالكاد رأسها تصل إلى صدره.. لا يعرف لما هذا الأمر دغدغ مشاعره بشعورًا مختلف عليه لكنهُ قرر أن ينكر ما يشعر بهِ ثُم هتف قائلًا ببرود:- عملت إيه..!
انتفضت من مكانها بغضب جم ثُم صرخت قائلة:- اتكلمت مع أخو صاحبتي بطريقة زي الزفت على دماغك، وحطيت إيدك عليا، إزاي تتجرأ وتعمل كدة..!
لاحظ هو أن صراخها سيُجذب الحرس نحوهما بالإضافة إلى بعض المارة بالشارع وبلحظة ودون تفكير قبض على كفها وسحبها معهُ نحو ركنٍ بعيدًا نسبيًا بالحديقة.. صرخت هي بشراسة لكي يُفلتها لكنهُ لم يفعل وعندما وصلا إلى وجهته ألقى بها نحو الحائط خلفها مُحاوطًا إياها بجسده دون أن يلمسها فعليًا.. لم تنتبه إلى وضعهما لأنها كانت تنتفض من شدة الغضب فهدرت قائلة بشراسة:- إزاي تتعدى حدودك معايا يا بني أدم، مين سمحلك تلمسني أو حتى تبُصلي بس بصة واحدة، فاكر نفسك مين ها.!
كان يُراقب ملامحها الغاضبة بنظراتٍ غامضة لم تكُن تملك أنتباه كافي بتلك اللحظة لتفسرها.. لكنهُ عندما تحدث همس قائلًا بسخريته المُعتادة:- ماشاء الله عليكِ، الزعيق والشراسة ليا أنا، والتوتر والكسوف للغريب..!
كانت حرفيًا تلهث من شدة غضبها.. أنفاسها ساخنة.. صدرها يرتفع وينزل دليلًا على شعورها بتلك اللحظة.. عقدت حاجبيها بعدم فهم قائلة:- بتقول إيه أنت، توتر وكسوف إيه دول اللي للغريب..
أجابها سريعًا بنبرة ساخرة يشوبها بعض الأحتقار:- عاملة نفسك بريئة ومش فاهمة، مش عارفة كسوف إيه وإنتِ وشك كان زي الطماطماية برة لمجرد كلمة إزيك منه، هو لو مكنش " كريم " يبقا " وليد "، ويا ترى في غيرنا ولا مش لاقية حد تاني اليومين دول..!
كانت تهز رأسها نفيًا وهي فاغرة فاهها بعدم تصديق مع كل كلمة مسمومة ينطق بها.. هل يراها بتلك الصورة..! يراها مُجرد فتاة لعوبة تتلاعب بقلوب الشباب بينما هي تتصنع الخجل..! للوهلة الأولى شعرت بالدوار.. وكأنها تُدرك حقيقة أن من يقف أمامها الآن ليس " كريم " ابن خالتها الذي تربت معهُ وتعرفه حق معرفة.. لقد كان يحملها وهي صغيرة ويذهب بها لمحل البقالة ليشتري لها الحلوى.. كان يحميها من أيًا كان من ينظر إليها نظرة لئيمة.. يهدهدها يوميًا بكلماتٍ رقيقة حتى تغفى بين ذراعيه كل ليلة.. لم تعشقه من فراغ.. لقد كان بينهما الكثير.. لكن من يقف أمامها الأن يطعن في شرفها وأخلاقها لم يكُن هو.. كان شخصٍ أخر.. وغدًا.. حقيرًا..
وبحركة خاطفة رفعت كفها الصغير وهوت على وجنته بصفعة مدوية.. صفعة أخرجت بها كل غضبها من حديثه السام.. صفعة صدى صوتها تردد بداخلهما محطمٍ كل ما كان جميلًا بينهما يومٍ ليبدأ فصل جديدًا في علاقتهما..
هدرت قائلة بنبرة خافتة بطيئة تتمنى أن تؤلمه:- الظاهر إن من كتر صحوبيتك للبنات وصياعتك معاهم بقيت مش عارف تفرق بين المحترمة وبين اللي مش محترمة اللي بتترمي في حضنك وتقبض تمنها أخر الليل، إياك، إياك تفكر تقارني بواحدة من الزبالة اللي بتعرفهم، أنا مش زيك ولا زيهم، أنا أنضف منك ومنهم.
كان ينظر إليها بشراراتٍ غاضبة تنبعث من بين عيناه.. لو كانت النظرات تقتل لكانت سقطت هي قتيلة بتلك اللحظة.. كيف تجرأت وصفعته..! لم يجروء رجُل من قبل على فعلها وتأتي تلك الصغيرة القصيرة وتفعلها.. اشتعلت النيران بصدره وأراد مُعاقبتها.. أراد إيلامها وأذلالها.. وباللحظة التالية لحديثها كان يحتجزها بينه وبين الجدار ثُم قبلها..
لامست شفتيه شفتيها وكانت قبلة قاسية عنيفة.. ضغط بجسده على جسدها حينما حاولت التملص منه والفرار لكنهُ أدركها بالنهاية وقام بمحاوطة خصرها يكبلها بذراعيه ليرفعها عن الأرض حتى أصبحت بطوله تقريبًا.. لم يفصل القُبلة وكأنهُ أصبح مُغيب بها.. وإذا كانت صفعتها عِقاب.. فقبلته كانت عذاب..
بعقلًا مُغيب تحولت القبلة من القسوة إلى شيءٍ أخر.. شيءٍ يُشبه النعيم.. وكأنهُ وجد نعيمه الخاص بين تلكما الشفتين..
ابتعد عنها بعد أن شعر بحاجتهما للتنفس أخيرًا.. فتح عينيه يتطلع بها بذهول ليس من فعلته لكن من تأثير فعلته عليه.. بينما هي كانت تنتفض بين ذراعيه لا يعرف غضبًا أم خجلًا لكنها كانت تلهث مثله.. شفتيها متباعدتان منتفختان إثر قبلته لها وكم كانت شهية بتلك اللحظة.. عندما أشرقت شمس ذهبيتيها عليه هالهُ كم المشاعر بهما.. كانت تلمع بعدم تصديق.. لكن غضبها كان يلوح بالأفق وعلى وشك الإنفجار بأي لحظة..
أراد أن يُعيد الكرة من جديد ولكن قبل أن يقترب منها مُجددًا دوى صراخ مُرعب بالجزء الأخر من الحديقة وإسم واحد فقط يتردد على لسان الجميع.. " لــيــال "....
---------------------------------
في عيناكِ حياتي.. وبين شفتاكِ موتِ.. وأنا بين الحياة والموت اتخبط.. لا استطيع أن أُجزم بأنني ميت.. ولا أستطيع الشعور بحياتي..
صراخ.. صراخ متواصل.. ودماء.. الكثير منها.. لا يعلم أهو صراخه أم لا.. أهي دمائه أم دمائها.. شعور مُرعب من الفقد..
صرخ حتى اختفى صوته.. بكى.. بكى أمام رجاله والجميع.. بكى وهي بين أحضانه لا يعلم أهي ميتة أم مازالت على قيد الحياة.. لم يهتم بمظهره أمام أحد.. لم يهتم بالصراع الدائر بحياتهما.. لم يهتم بالفُراق بينهما.. أن تُفارق حبيبك لكنك تعلم أنه حيًا يرزق يتنفس ويعيش وبخير أفضل من أن يموت وتُدرك أن لا مجال حتى لنظرة واحدة تروي شوقك بالغياب..
لطالما كانت الحياة قاسية.. تمنحك الحلم وقبل أن تلمسه تُيقظك على كابوسٍ.. تضحك بوجهك ساخرة وتُخبرك أن الحلم سيظل حلم.. فلا تتأمل عزيزي..
لا يعلم كيف أو متى وصل بها إلى المشفى لكن رجاله كان لهُم الفضل في ذلك.. لو ترك نفسه لصدمته ورُعبه لمات بجانبها حتى يتحللا سويًا.. سادت حالة من الفوضى بالمشفى فور أن اقتحمها حفيد " آل سُليماني " وهو يحمل بين ذراعيه حفيدة " آل عفريت " غارقة في دمائها وعلى مشارف موت مُحدق.. تلقفها منهُ الأطباء الذين توتروا من صراخ " عاصي " بهم لأنقاذها.. مُهددًا بحرق المشفى وهُم بداخلها إن أصابها شيءٍ..
وها هو يجلس أمام غرفة العمليات بعد ساعة من دخولها ينتظرها.. كلماتها الأخيرة وهي بين أحضانه تُنازع الموت كالرصاص يخترق صدره.. كانت تتمنى أن تراه ينظر إليها بعِشق من جديد.. تتمنى أن تموت بين ذراعيه.. تتمنى وتتمنى وهو لم يكُن قادرًا على تحقيق أُمنيتها..
كيف يفعل وما بينهما ليس بهين.. لقد ذبحته " ليال " من قبل.. قبل ثلاث سنوات دمرت حبهما.. دمرته هو بفعلتها الغادرة ورحلت.. لقد حطمت رجولته أمام أهل البلدة بأكملها ولم تهتم بهِ.. كانت جامدة.. خالية من المشاعر وهي تفعلها.. كأن الحُب والغرام بينهما لم يعُد لهما وجود..
نظر حوله بضياع وهو لا يصدق كيف وصل الحال بهما.. كيف افترقا بعد أن كانا لا يفترقان لحظة.. لقد حملها بين ذراعيه مُجرد طفلة صغيرة بحجم قبضة يده.. كانت طفلة رائعة الجمال تُشبه دُمى باربي.. شهية تُصدر أصواتٍ غاية في الجمال فور أن يلمسها.. تضحك بمجرد رؤيتها لهُ.. وكبرت وترعرعت بين أحضانه.. وقع في غرامها وهي طفلة رضيعة وذاب بها عِشقٍ وهي فتاة شابة.. كان لا يُفارقها ويهتم بجميع شؤونها.. يشتري لها كل ما تطلبه قبل حتى أن تطلبه.. يعرف كل خباياها.. لم يكن هناك مجال بينهما للخجل أو للخوف.. كان يهتم بكل أغراضها ويشتريها.. أغراضها العادية والخاصة منها.. الخاصة جدًا..
لو كانا تزوجا قبل ثلاث سنوات لكان لهُ منها طفل أو أثنان الأن.. لكانت تنعم بالحُب بين أحضانه.. لكن عالمهما انقلب فورًا رأسًا على عقب بلحظة غادرة لم يشفع بها الحُب والغرام..
بداخل الكثير منا شخصان.. أحدهما يتمنى الحُب ويسعى إليه.. والآخر يخشاه.. أحدهما عندما يعشق يعشق بجنون والآخر يتمنى نحر قلبه مع صبيحة كل رفرفة قلب.. وهو يُريد نحر قلبه الأن لأنه مازال يدُق لها.. نبضاته تهمس بإسمها..
-------------------------------
في ذلك الوقت وأمام بوابة المشفى توقفت عدة سيارات تخُص عائلة " العفريت " ترجل منها " زين وشهد وروان ورجوى وبتول وكريم " ثُم السيدة " لطيفة وسمر وحنان " والسيد " منعم " وأخيرًا وتد " آل عفريت " " مختار العفريت "..
قام الرجال بمحاوطة المشفى ومحاوطة العائلة لحمايتهم لكن لم يكُن أحدًا منهم مُهتم بذلك الأن.. الجميع يهتم فقط بـ" ليال " وما حدث لها.. قلوبهم تهاوت بين أقدامهم برُعبٍ خالص وهم يتخيلون اسوأ السيناريوهات..
توتر جميع من بالمشفى فور رؤيتهم لذلك الجيش الصغير يقتحم عليهم المكان مُحاطين بعدد أكبر من رجال الحراسة المُسلحين.. لكن لم يستطع أحد الأعتراض أو حتى التدخُل.. والجميع يدعوا لحفيدة " آل عفريت " أن تعيش حتى لا يتعرض أحد لإيذائهم..
وصلت العائلة إلى الطابق المنشود وقد كان خاليًا من البشر عدا "عاصي" ورجاله.. فور أن أبصرهُ " زين " ركض نحوه بغضب ولم يهتم بالرجال الذين وجهوا سلاحه نحوه عندما قرأوا إمارات الشر تعلو وجهه لأن ببساطة رجال " زين " أيضًا وجهوا سلاحهم نحوهم وأصبحت المشفى ساحة حرب..
كان " عاصي " بعالم آخر.. عالم يخصه هو وهي فقط.. لا أحد معهم.. لا فراق.. لا صراعات.. هو وهي وعشقهما فقط.. خرج من شروده على صراخ " زين " الذي قبض على مقدمة كنزته الصوفية يقتلعه من جلسته ثُم قام برميه نحو الجدار هادرًا بنبرة غاضبة شرسة:-أختي فين، عملت فيها إيه، أقسم بالله لو حصلها حاجة مش هتكفيني أنت وعيلتك.
كان " عاصي " في حالة يُرثى لها.. ما بين الوعي واللاوعي يكاد يسمع صراخ من أمامه. بتلك اللحظة هو لا يرى سواها ولا يستمع إلا لصوتها.. لكنهُ همس قائلًا بنبرة خافتة ثقيلة:- هتعيش، " ليال " لازم تعيش.
لم يكُن " زين " أقل منهُ رعبٍ عليها وذلك جعله لا يرى حقيقة حالة الشخص الذي أمامه.. حينها وبكل طاقة غضبه المُخزنة داخله منذُ سنوات قام بلكمه.. وعلى الرُغم أن " عاصي " قوي البنية ومن الرجال الأشداء إلا أن حالته لم تكُن تسمح لهُ بتحمل تلك الضربة.. لذلك سقط أرضٍ على ركبتيه.. يتألم لكن ألمه ليس بسبب الضربة بل بسبب إحتمالية فراقها.. اللعنة لم يكُن يعرف أن روحه مُعلقة بها هكذا..
بتلك اللحظة تدخل واحدًا من رجال " عاصي " واضعًا فوهة سلاحه على رأس " زين " استعدادًا لقتله لكن وسريعًا كانت " شهد " تقف خلفه وتضع سلاحها على رأسه هو أيضًا.. مما جعل " روان و كريم " يسحبان سلاحهما أيضًا ينضمان إلى رجالهم.. والجميع لديهم نية واحدة.. وهي القتل..
---------------------------------
لم يصل الخبر فقط إلى عائلة " العفريت " بل وصل أيضًا إلى عائلة " السُليماني " وأدرك الجميع على الفور أن حفيد " آل سُليماني " بين قبضة " العفاريت " الأن.. لذلك اصطحب " عبدالرحيم السُليماني " أبناءه وحفيده " كارم " ومجموعة من رجاله الأشداء متوجهين نحو المشفى لإنقاذ " عاصي "...
وقد صدق حدسهم لأن فور وصولهم تصنم الجميع من المنظر أمامهم.. رجال" عاصي " في مواجهة رجال " زين " وقد كان الأخير مُهددًا من قِبل واحدًا من رجالهم.. لكن حتى فتيات " العفريت، يتصدرنّ لهم..
كان المشهد ملحمي.. مُفزع لقلوب الجميع بلا استثناء.. لقد توقفت الحرب الدامية بين " آل عفريت " و " آل سُليماني " قبل سنوات.. بعد أن سقط منهم الكثير من الرجال وأخيرًا تدخل مجموعة من كِبار رجال البلدة لفض النزاعات بينهم حقنًا للدماء وخوفٍ على الأهالي من إراقة الدماء مُجددًا.. والأن وبعد كل تلك السنوات تُفتح الدفاتر القديمة.. وتتواجه العائلتين من جديد.. تُرى من سيفقد روحه هذه المرة..
وبدون لحظة تردُد قام " كارم " برفع سلاحه هو الأخر يتبعه رجاله من خلفه فأصبحت المواجهة أشد قسوة على الجميع..
وقبل أن يتهور أحد الشباب ضرب " عبدالرحيم السُليماني " الأرض بعصاه الأبنوسية الغليظة مما جعل جميع الأعين موجهة نحوه.. بينما " مُختار العفريت " هو الأخر هدر قائلًا بنبرة صارمة خشنة:- نزل سلاحك أنت وهو.
كان يقصد بكلامه رجاله ورجال " آل سُليماني ".. وأخيرًا تواجه الكِبار.. التفت الصديقين قديمٍ والعدوين حديثٍ يتطلعان ببعضهما البعض.. نظراتٍ مُبهمة غامضة لا أحد قادر على تفسيرها.. لكن خلف ذلك الجمود كانت الذكريات تفعل أفاعيلها معهما.. القلب يتذكر والعقل ينفي.. وبين هذا وذاك تتأرجح رغبة الإنسان بين أن يتتبع حدسه وإنسانيته أو يترك نفسه لأهوائه وشيطانه..
يقف كبير" العفاريت " بملامحه الخشنة وتجاعيده التي تحكي قصة كفاح وشقاء لسنوات.. بجلبابه الصعيدي وربطة رأسه البيضاء الناصعة بينما عصاه الأبنوسية بلونها الأسود تُعطيه المزيد من الهيبة.. يتواجه مع كبير " السُليمانية " بملامحه الصارمة ونظراته المُبهمة وجلبابه الصعيدي هو الأخر يقف بجسدًا صلب وقلبًا ميت..
انتهت حرب النظرات عندما تحدث " مُختار العفريت " قائلًا بنبرة بطيئة خشنة:- جاي ليه يا " عبدالرحيم "..!
أجاب " عبدالرحيم " قائلًا بجدية:- عايزني أسيب حفيدي عشان تقتله أنت ورجالتك..!
أبتسم الأخر قائلًا بسُخرية سوداء:- وهو حفيدك عيل صغير مش هيقدر يدافع عن نفسه، وبعدين أنا هستفيد إيه من قتله..؟
وقبل أن يُجيب عليه تحدث مرة أُخرى قائلًا بقسوة:- خد حفيدك ورجالتك وأمشوا من هنا يا " عبدالرحيم " بس الله في سماه لو عرفت إن حد منكم ليه دخل في اللي حصل لـ " ليال " لصدقني إني هحرقك حي أنت وعيلتك من كبيركم لصغيركم.
كان " عبدالرحيم " على وشك قتله عندما صدح صوت من خلفهما جمدهما قائلًا بنبرة بطيئة:- أنا مش همشي من هنا غير لما تخرُج.
كان صاحب الصوت هو " عاصي " والذي بعد أن القى قنبلته توسعت الأعين بصدمة.. لم يخشى أن يظهر حبه وخوفه عليها أمام الجميع.. بل نهض من مكانه ووقف أمامهم يواجههم وكأنه كان نائمٍ واستيقظ للتو.. يتطلع بالجميع بنظراتٍ فارغة لا حياة بها.. بينما ملامحه وكأنها نُحتت من الصخر..
توسعت نظرات جده بصدمة ثُم هدر قائلًا بصرامة:- أنت بتقول إيه يا " عاصي "، أحنا ملناش مكان هنا يا بني.
نظر إلى جده بملامحه الصلبة ونظراته الخاوية قائلًا بنبرة ميتة:- اللي شايف إن ملوش مكان هنا يمشي هو، أنا مكاني هنا ومش همشي غير لما تخرُج.
الغضب استبد بعائلته واصبح الجميع يرى أن ابنهم لم يتخطى عشقه لها بعد.. بل يقف يتبجح بهِ أمامهم بلا خوف أو خجل.. ما هذا الحُب الذي لم يُجلب لأصحابه إلا التعاسة..!
وقبل أن يتحدث أحدهم خرج الطبيب من عُرفة العمليات وملامح الأرهاق تعلو وجهه.. انتفض الجميع لكن أول من وصل إليه كان" عاصي " الذي هدر قائلًا بخوف:- " ليال " عايشة..؟
تطلع نحوه الطبيب الشاب قائلًا بهدوء:- عايشة.
وكأنه أطلق رصاصة الرحمة عليه ليرتاح.. تنفس الجميع الصعداء لأنها مازالت على قيد الحياة بينما تحدث الطبيب مرة أُخرى قائلًا بعملية:- الرصاصة مكنتش في مكان خطير بس نزفت دم كتير وأحنا عوضناه.. هتتنقل دلوقتي لأوضة عادية ومش هتفوق قبل بكرة، عن إذنكم.
أغمض " عاصي " عيناه براحة.. يرغب الأن في ضمها بين صدره واستنشاق عطرها ليرتاح لكن صبرًا..
جاء مُمرض بتلك اللحظة ووقف أمامهم قائلًا برهبة:- في شخص جيه مع المُصابة من كام ساعة، كان واخد طلقة في كتفه ودلوقتي فاق وبيقول إن هو رئيس الحرس الخاص بالمُصابة وعايز يكلم حد من العيلة.
هتف " زين " قائلًا بجدية:- دة " جلال "، أنا هروح أشوفه يا جدي وأكيد هو هيقولنا إيه اللي حصل بالظبط.
رحل " زين " بعد أن سمح لهُ جده وانتظر الجميع عودته لمعرفة الحقيقة.. ما بين مُتربص ومتوتر كان " عاصي " بعالم آخر ينتظر اللحظة التي ستستيقظ بها فقط..
بعد ما يُقارب الخمسة عشر دقيقة عاد " زين " بملامح وجه مُبهمة.. نظراته غامضة وقاسية.. كان أول من تحدث السيد " منعم " قائلًا بتوتر:- إيه يابني اللي حصل، طمنا.!
دارت نظراته بينهم جميعًا حتى توقفت على ذاك الحاضر الغائب الذي يتطلع فقط نحو غرفة العمليات ينتظر لحظة خروجها منها ثُم همس قائلًا بنبرة بطيئة:- " جلال " بيقول إن " ليال " هي اللي طلبت منه يمشي باقية الحراسة، وإن اللي ضرب عليهم نار رجالة مش معروفين، بس قبل ما يُغمى عليه شاف " عاصي " ورجالته وصلوا وهما اللي أنقذوا " ليال " ونقلوا باقي المُصابين من رجالتنا هنا على المُستشفى.
وكأن القدر أراد أن يرحم الجميع من المزيد من سفك الدماء لذلك أنقذ " جلال " ليكون السبب في وقف ما سوف يحدُث.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الأن.. من أراد قتل " ليال العفريت "...؟!
----------------------------------
أن تولد ذكرًا فهذا مُمكن.. وأن تكون رجُلًا فهذا جائز.. إما أن تكون أبًا جيدًا فهذا مُستحيلًا إذا لم تكُن ذكرًا صالح.. ورجُلًا ناضج عاقل..
خرج " صالح " من منزله صافقًا الباب خلفه بعنفٍ اهتزت لهُ جدران المنزل المُتهالك الذي قطنه.. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر بعد منتصف الليل.. بالطبع انتظر " فلك " أن تعود لكي يأخُذ منها ما يرغب من مال لكنها-وكعاداتها مؤخرًا- رفضت إعطائه المال واحتمت بغرفتها حتى لا يستطيع أن يصل إليها.. فخرج غاضبًا يتوعد لها بكل سوء..
وصل إلى الحانة الصغيرة التي يسهر بها كل ليلة حتى مطلع النهار فيعود إلى منزله لا يرى أمامه من شدة الثمالة.. ثُم توجه إلى أصدقاء السوء الذي يعرفهم منذُ زمن ولا يختلفون عنهُ من حيث الشخصية العفنة.. القى " صالح " بجسده على الأريكة الخشبية المُتهالكة بهمٍ بالغ مما جعل صديقه يتحدث قائلًا بتساؤل وهو يسحب نفسٍ من الأرجيلة التي أمامه:- مالك يا " صلوحة " شكلك مهموم كدة ليه..!
زفر بضيقٍ قائلًا:- البنت بنت الـ**** مبقتش بعرف أخُد منها مليم زي الأول، قال يا تعمل شغل البيت وتاخد فلوس يا مفيش.
ضحك الرجُل قائلًا بمزاحٍ ثقيل:- اشتغلي ياختي في البيت بلقمتك.
اشتعلت نيران " صالح " فهدر قائلًا بغضب:- ما تلم لسانك يا حيلة أمك أنت كمان، هي ناقصاك يعني.!
تدخل شخصٍ آخر قائلًا بمهادنة:- خلاص ياعم " صالح " متزعلش كدة، قوم يلا على الترابيزة نلعب وأنت تروق.
مط شفتيه بغضب قائلًا:- منين يا حسرة، أنا مش معايا غير 5جنيه.
اقترب منه نفس الشخص وجلس بجانبه قائلًا بالقرب من أذنه كشيطان يوسوس لعبد ضعيف الإيمان والقلب:- يعني يبقا عندك " فلك " برضه وتقولي مفيش فلوس، دة حتى عيب والله.
عقد حاجباه بعدم فهم قائلًا:- قصدك إيه مش فاهم.!
وسوس لهُ قائلًا بنبرة خافتة:- أنا هسلفك فلوس تلعب بيها وهيبقا بيني وبينك بنلعب على " فلك " بنتك، وهروح أطالبها بالفلوس يإما لامؤاخذة أخدها هي، وطبعًا هي هتلاقي نفسها متورطة وهتخاف فهتدفعلي فلوسي، ومن وقتها كل اللي هتطلبه منها هتلاقيه عشان هتبقا خافت منك وعملتلك حساب.
كان يعرف أي وترًا يضرب عليه.. " صالح " لا يعرف عن الصلاح أو الأبوة شيئًا.. وذلك الشيطان يعرف أن بأمكانه أن يبيع أمه من أنجبته وليست ابنته فقط.. إما عنهُ هو فصمت حتى يستطيع التفكير بالأمر جيدًا وعندما وجد أنهُ سيكون عقاب مناسب لها.. لتلك الشيطانة الصغيرة التي أنجبها وترفض إعطائه المال وافق على الفور.. وافق وهو مُدرك تمام الإدراك لنوايا ذلك الخبيث الذي بجانبه نحو ابنته.. لكن الأمر مناسب لأهوائه.. سيستطيع أن يكسر قوة " فلك " وأخيرًا..
بتلك الليلة لعب " صالح " القمار وخسر كل ما معه لكنهُ لم يغضب على عكس الليالي الماضية فهو يُمني نفسه بالمكسب الكبير الذي سيربحه بعد أن يُحقق هدفه بكسر ابنته...
--------------------------------
العالم كبير جدًا جدًا لكن يُمكن أن يكون نصفك الآخر بجانبك وأنت لا تراه.. فعندما تبصرُه لا تتركه قبل أن تضع بصمتك عليه..
في صباح اليوم الموالي.. خرج " جواد " من باب المبنى الذي يقضي بهِ عمله وخدمته لوطنه يوميًا وهو يحمل حقيبة بها أغراضه الشخصية مستعدًا للرحيل حيثُ تبدأ إجازته التي قد تصل إلى عشرون يومٍ.. أخيرًا سيرتاح قليلًا ويتفرغ لتلك التي شغلت عقله الليالي الماضية..
استقل سيارته بوجهٍ مُبتسم غير مُدرك للحروب التي تدور بمنزله الأن.. كان قد بدل ملابس الجيش بأُخرى عادية شبابية جعلته أصغر من سنوات عمره الحقيقي.. مما جعله أوسم بكثير.. قاد السيارة بسرعة عالية وهو يُدندن مع أغنية رومانسية تصدح بداخل السيارة وبدلًا من أن يتجه نحو منزل " آل سُليماني " سلك اتجاه آخر نحو منزل آخر.. منزلها هي.. منزل الفتاة الوحيدة التي سرقت النبضة الأولى من قلبه فور رؤيتها.. لم يكُن يومٍ من الرجال الذين يلهثون خلف النساء بل على العكس كان هادئًا رزينًا.. لا يلتفت لإحداهن وكل أهتمامه بعمله وعائلته فقط.. لكن منذُ الوهلة الأولى التي رأها بها لم يعُد هو نفس الشخص.. الليالي الماضية كانت مُضنية وهو يتخيلها معه.. لذلك لم يهدأ لهُ بالًا إلا عندما عرف عنها كل شيءٍ..
وصل إلى الشارع الشعبي الذي تقطن بهِ هي وتوقف بالسيارة على بدايته ينتظرها.. يعلم أنها ستخرج الأن من منزلها لتذهب إلى جامعتها ثُم إلى عملها وستعود إلى المنزل من جديد عند الساعة الحادية عشر ليلًا..
لم تجعله ينتظر طويلًا فها هي تخرج من بنايتها تتبختر بخطواتها المُتعجلة بها وهي تضع الهاتف على أذنها تتحدث ويبدوا عليها الضيق.. تمعن بنظراته بها بداية من خصلات شعرها البني اللولبي المنتشر على ظهرها وحول وجهها بفوضوية مُحببة ثُم إلى ملابسها المكونة من بنطال چينز واسع وسُترة باللون الأبيض " بامب " ليحميها من برد الشتاء.. وحقيبة ظهر بنفس لون السُترة.. وأثناء تفحصه لها أدرك كم هي قصيرة تلك الـ " حبيبة ".. كانت مُمتلئة الجسد بعض الشيء مما جعلها فتاة قصيرة متفجرة الأنوثة.. انتبه أثناء شروده بها إلى ضحكتها المرحة التي أطلقتها بعفوية وهي تقف تنتظر وسيلة مواصلات مناسبة لتذهب مما جعل بعض رؤوس المارة تلتفت نحوها لكنها لم تكُن منتبهة لأحد..
رأها تزفر بضيق وهي تنظر إلى ساعة يدها ثُم بدأت تسير مُبتعدة عن البناية بعد أن يأست على ما يبدوا من أن تمُر سيارة أجرة.. سار خلفها بالسيارة وهو يراها تُسرع بخطواتها لتلحق أتوبيس النقل العام.. لم يُفكر " جواد " كثيرًا وهو يترجل من سيارته ويغلقها ثُم يركض نحو الأتوبيس ليستقله معها هو الآخر في اللحظة الأخيرة..
وكعادة المواصلات العامة بالكاد تستطيع أن تتنفس بها.. رأها تتوغل بين المواطنين حتى حصلت لنفسها على رُكنٍ صغير تقف بهِ وهي تحاول ألا تلمس أحد أو يلمسها أحد.. زحف " جواد " خلفها حتى أصبح على بُعد خطوتين منها ووقف يُراقبها.. بينما هي وضعت سماعة الهاتف على أغنيتها المُفضلة دون أن تهتم بشيءٍ آخر.. أبتسامة حنونة أرتسمت على شفتيه وهو يتأمل ملامحها المُنمنمة الصغيرة هادئة على عكس المرة الأولى التي رأها بها.. لكن لم تكد تمُر دقائق حتى شعر بها تتململ في وقفتها حتى أنها نزعت السماعة من أذنها وتحولت ملامحها إلى أخرى غاضبة مُتحفزة.. بنظرة سريعة إلى من حولها استطاع أن يلمح ذلك الوغد الذي يحاول أن يلمسها من الخلف بينما هي تحاول الأبتعاد عن مرمى يده لكن بهذه الزحمة لم تستطع..
انتفخت اوداجه بغضب وتحولت نظراته إلى أخرى شيطانية وهو يشعر برغبة عارمة في القتل الأن.. ودون ذرة تفكير حرك ذراعيه يُزيح بهما البشر من حوله ويتحرك نحو ذاك الوغد.. تخطاها حتى وصل إليه وبلحظة كان يقبض على مقدمة ملابسه ثُم قام بضرب رأسه بجبهته بقوة جعلت الآخر يصرخ بألم والجميع من حوله يصدمون من سرعة ما حدث..
كانت " حبيبة " على وشك أن تلتفت لتصفع ذاك الوغد الذي تحرش بها لكنها تفاجأت بمن يتخطاها ويقوم بضربه.. رأته كيف أنهال عليه باللكمات والصفعات حتى أصبح وجهه مُدمي.. صرخت النساء وتدخل الرجال للفصل بينهما وحتى لا يتركوا هذا الوحش الثائر يرتكب جريمة قتل بتلك اللحظة.. استطاع بعض الرجال الفض بينهما لكن " جواد " كان يشعر بنيران الغضب والغيرة تحرق صدره.. لقد لمسها هذا الحقير إذًا يستحق أن يقتله بيديه المُجردتين.. بعد أن ابتعد عنهُ التفت إلى تلك المصدومة خلفه والتي كانت تنظر إليه وكأنهُ كائن فضائي.. جسده الضخم كان ينتفض من شدة غضبه لكنهُ استطاع أن يصرخ بالسائق المسكين أن يتوقف وبلحظة قبض على كفها الصغير وترجلا سويًا من الأتوبيس تحت نظراتها المذهولة وثغرها الذي على وشك أن يسقط أرضٍ..
كانت المنطقة من حولهما هادئة قليلًا في هذ الوقت من الصباح مما جعلها تبتلع ريقها ببعض التوتر من أن تكون وقعت بين قبضة مُختل عقليًا آخر غير الذي كان بالأتوبيس.. لكنها تصنمت مكانها عندما نظر إليها بلهفة قائلًا:- إنتِ كويسة..!
نظرت حولها بتوتر وهمست قائلة وهي تتراجع خطوة إلى الخلف بهدوء استعدادًا للهرب:- أيوة كويسة.
عقد " جواد " حاجباه قائلًا بذهول عندما لاحظ خوفها منهُ:- هو إنتِ مش فاكراني..!
توقفت خطواتها وعقدت حاجبيها وهي تتفحصه لكنها لم تستطيع أن تتذكره.. ابتسم هو بهدوء قائلًا بنبرة خافتة:- أنا الظابط اللي كنت مع العسكري المُصاب اللي كان في السرير اللي جمب سريرك، أنا شوفتك يوم ما كُنتِ جاية في تسمُم.
توسعت نظراتها بعدم تصديق.. هذا الشاب الوسيم الذي يقف أمامها هو نفسه الضابط الذي لم تستطع التعرف على ملامحه يومها بسبب الدماء المُختلطة بالرمال والذي كان يُغطيه من أعلاه حتى أسفله.. همست قائلة بعفوية وهي تتأمله بدقة:- انت الظابط..! معلش بس أنت شكلك وقتها غير شكلك دلوقتي خالص، وقتها كنت كأنك لسة طالع من التُربة.
توسعت نظراته بصدمة من عفويتها بينما هي شهقت بصدمة أكبر مُعتقدة أنهُ سيقوم بسجنها بتلك اللحظة بسبب وقاحتها المُعتادة لكن ماذا تفعل بلسانها جالب المصائب لها..
انفجر " جواد " في الضحك بقوة إثر حديثها الفُكاهي.. ضحكة رجولية جعلت وجهه قِبلة للنظر بينما هي خجلت بشدة من تلك الضحكة ولم تملُك إلا أن تعُض على شفتيها بقوة.. نظر إليها يتأملها بحنان ثُم همس قائلة بنبرة هادئة:- أنا فعلًا يومها كان شكلي مش باين لإني نجيت من الموت بأعجوبة بس أحلى حاجة في اليوم دة إني شوفتك.
الصدمات تتوالى عليها بلا توقف وهي لا تستطيع مجاراته.. عاد إليها خوفها منه من جديد.. وتتساءل بداخلها ماذا لو كان مُختلًا ويريد بها السوء..! فهو بالنهاية غريب عنها ولا تعرفه وإذا كان ضابط بالجيش فهذا لا يشفع لهُ..
أخرجها من شرودها صوته وهو يهتف قائلًا بجدية بينما يُشير لسيارة أجرة قادمة:- أنا هوقفلك تاكسي دلوقتي عشان تلحقي جامعتك ومتتأخريش أكتر من كدة.
وبالفعل توقفت أمامهما سيارة الأجرة وبحركة لطيفة لا تليق إلا برجُل نبيل مثله قام بفتح باب السيارة الخلفي لها لتجلس.. بينما هي كالمُغيبة جلست بهدوء وراقبته وهو يغلق الباب ثُم يخرج عدة ورقيات نقدية من جيبه ليدفع للسائق وسط اعتراضها الذي لم يُبالي بهِ.. وقبل أن تتحرك السيارة نظر إليها بنظراتٍ دافئة جعلت شيئًا ما بمعدتها يتحرك كالفراشات وهمس قائلًا بإبتسامة حنونة:- مع السلامة يا أنسة " حبيبة ".
وهكذا تحركت السيارة مُبتعدة بينما هي أخرجت رأسها من النافذة بجانبها تنظر لهُ بذهول ورهبة كأنهُ شبح ما وسيختفي أمامها الآن لكنهُ لم يفعل بل وقف يراقبها بأبتسامته الرائعة حتى اختفت هي عن أنظاره والكثير من الأسئلة تعصف بعقلها وأهمها كيف عرف أنها ذاهبة إلى جامعتها وكيف عرف أن إسمها " حبيبة "...!!!
-----------------------------------
عندما تُفكر في أن تحيا تبدأ في البحث عن شريك حياتك لتحيا معهُ، وعندما تشعر بقُرب نهايتك تبحث عنهُ ولكن لتموت بين ذراعيه..
= " عـــاصـــي "..!
فلت إسمه من بين شفتيها وهي تفتح عينيها على مصرعيهما فور أن استيقظت من غيبوبتها القصيرة.. شهقة عالية كأنها كانت تغرق ببحرًا واسع وعميق دون أمل في النجاة.. من بين الوعي واللاوعي استطاعت أن تلمح تعبير الذهول الذي ارتسم بوضوح على عائلتها المحيطة بها في انتظار استيقاظها.. لم تجد القدرة على إبقاء جفنيها مفتوحان فأغلقت عينيها هامسة للمرة الثانية بلوعة:- " عاصي "..!
أقتربت منها والدتها السيدة " لطيفة " وهي تبكي قائلة:- حمد لله على سلامتك ياحبيبة أُمك، كدة برضه يا " ليال " تحرقي قلب أُمك عليكِ يا ضنايا..!
هُنا بدأ الوعي يعود إليها من جديد.. فتحت عينيها بهدوء لتُطالع وجوه الجميع والتي كانت تحمل الغضب والقلق معًا.. لم تهتم لكل هذا فهي لم تُخطأ.. نظرت إلى والدتها قائلة بنبرة ضعيفة:- الله يسلمك يا ماما، الحمد لله ربنا ستر.
قبلتها على وجنتها قائلة بلهفة:- الحمد لله إنك بخير ياحبيبتي.
الساعات التالية كانت جميع العائلة حولها ترفُض تركها حتى بعد أن تجاوزت ساعة الزيارة.. تلقت منهم التهنئات لعودتها سالمة .. واطمئنت على " جلال " وباقية رجالها المُصابين.. لكنها لم تستطع نطق إسمه مُجددًا وأمام الجميع..
تحدث " زين " فجاة قائلًا بتساؤل:- بس إنتِ متعرفيش مين اللي عمل كدة يا " ليال "..؟
نظرت إليه لثوانٍ صامتة وكأنها تُفكر في شيءٍ ما ثُم تحدثت أخيرًا بهدوء غامض قائلة:- لا معرفش.
وهكذا انقضت الساعات المُتبقية من اليوم ما بين الحمد لله على سلامتها وما بين بعض الأحاديث الجانبية العادية.. حتى أتت ساعة النوم فأصرت السيدة " لطيفة " أن تُبيت معها ليلتها لكنها رفضت رفضٍ تامٍ .. فهي تعرف أن والدتها مريضة ضغط وسكري ولن تستطيع أن تُعرضها لذلك المجهود البدني.. وبعد ساعة من الإلحاح وافقت على مضض أن تبقى " شهد " فقط معها..
وبعد ساعة أُخرى تصنعت النوم مما جعل " شهد " تشعر بالملل من جلوسها هكذا وحيدة.. فقررت الخروج والسير خارجٍ بحديقة المشفى لعلها تستنشق بعض الهواء النقي فتهدأ أعصابها المُتعبة منذُ ليلة أمس.. لقد كانت اسوأ ليلة مرت عليها بحياتها وهي تتخيل أن تخسر شقيقتها.. لكن " ليال " كعادتها قاومت الموت وعادت إليهم سالمة..
----------------------------------
كانت تعرف أن " شهد " لن تبقى بالغُرفة معها كثيرًا.. سرعان ما ستشعر بالملل وتذهب للخارج تتجول قليلًا.. طباع العفاريت وتعرفها جيدًا.. لا يبقى أحد بمكانه لأكثر من دقائق.. وتعرف أيضًا أن الليلة حاسمة لما بينهما.. لذلك نهضت بتروي من فراشها وأرتدت شالها الصوف الرمادي فوق منامتها البيضاء الصوفية.. ثُم ارتدت خُفها الفرو الكبير وتحركت بهدوء تسير خارج الغُرفة بخطواتٍ بطيئة يشوبها إرهاقها إثر العملية التي خاضتها قبل يومٍ واحد.. ظلت تسير وهي تبحث عن شيءٍ ما بعيناها حتى وجدت ضالتها-باب مخرج الطواريء- فتحته بهدوء ثُم صعدت الدرج الذي يؤدي إلى سطح المشفى.. ولحُسن حظها لم تكُن تبعُد عن السطح سوى بطابقين.. وهُناك رأت الباب الحديدي الرمادي الذي يؤدي إلى السطح مُباشرةً.. وقفت أمامه تُغمض عينيها وهي تلهث قليلًا إثر المجهود الذي بذلته في الدقائق الماضية.. تُحاول أن تُنظم أنفاسها قبل أن تدلف إلى الداخل.. فتحت عينيها وتوكلت على الله وقامت بفتح الباب..
لم يُقابلها سوى السطح الخالي من كل شيءٍ إلا رياح الشتاء القاسية التي ضربت جسدها الدافيء مما جعل إحساس بالبرودة يسير بطول عمودها الفقري إرتعشت على إثره بقوة.. تنهدت ثُم أغلقت الباب من خلفها وسارت بأتجاه السور المتوسط الطول الخاص بالسطح..
كان السور من الرخام الفاخر ككل شيءٍ بالمشفى.. وضعت كفيها عليه وهي تستشعر البرودة التي أصابتهما لكنها برودة لذيذة أعجبتها.. لطالما كانت من المُعجبين بالشتاء.. ذلك الفصل بالنسبةٍ لها يُمثل كل شيءٍ جميل وهاديء.. كما أن مزاجها يكون رائق كثيرًا بهِ لذلك تعشقه..
راقبت المدينة اللامعة بأضوائها أمامها بعينان ناعستان وملامح مُسترخية على الرُغم من توترها الداخلي الذي تستشعره بتلك اللحظة.. تعرف أن الأمر لن يطول وسيظهر.. سيظهر ليُواجهها.. على الرُغم من أنها غير مُستعدة لتلك المواجهة إلا أنها تعرف جيدًا ما قالته من كلماتٍ وهي بين أحضانه تواجه الموت.. لكنها بذلك الوقت كانت أكيدة من موتها .. لذلك تحدثت دون خوف.. والأن عليها أن تواجه نتيجة زلاتها..
دقائق مرت وهي بمفردها حتى ظهر هو.. استشعرت سخونة جسده الذي يقف خلف جسدها بالضبط لكنهُ لم يلمسها.. حرارته المرتفعة كعاداته أصابتها مما جعلها تشعر بدفء جميل تسلل عبر خلاياها جعلها ترغب في أن تغفو بتلك اللحظة آمنة وهادئة..
تنهدت بخفة وهي تستدير ببطءٍ بالغ لتواجهه.. تواجه قدرها المحتوم.. تواجه ماضيها المشؤوم.. وتواجه حُبها المهزوم..
كانت قصيرة بالنسبة لهُ مما جعلها ترفع عيناها إليه لتراه.. اصطدمت برماديته الناريتين بتلك اللحظة.. كانت تواجهه بحدائق الزيتون خاصتها-كما كان يُحب أن يُسميها قديمٍ- وكانتا هادئتين.. بينما هو يناظرها بظراتٍ مُشتعلة.. لا تعلم بالضبط اشتعالًا من أي نوع.. أهو بقايا عِشق قديم.. أم بقايا رغبة قديمة.. أم حقد حديث نحوها..
كان يرتدي الأسود كعاداته مؤخرًا وكأنه اعتزل الحياة من بعدها.. بينما جسده الصلب الضخم كما هو بل حتى تشعر بأنه ازداد ضخامة وقوة.. توقفت عند عيناه وأخيرًا..
تقابلت النظرات بصمتٍ بدأ هاديء والأن تحول إلى آخر متوتر.. مُشتعل..
تنهدت بتعب للمرة التي لا تعلم عددها وكادت أن تفتح فمها لتتحدث لكن ما حدث جعلها تتصنم لمكانها لا تعلم للحظات أم دقائق أم سنوات..
بلحظة لم تحسب لها حسابٍ قطع " عاصي " الخطوة الفاصلة بينهما ليحاوط جسدها الصغير بين ذراعيه يعتصرها بأحضانه.. كانت مُحتجزة بين جسده والسور الرخامي من خلفها.. وقبل أن تشهق حتى أو تسأله عما يفعله كان ينخفض برأسه حتى وصل إلى مستواها يعرف هدفه جيدًا.. ثُم اقتنص شفتيها في قُبلة طال انتظارها لثلاث سنوات طوال..
ثلاث سنوات كالجحيم مرت عليه.. ثلاث سنوات مرت دون أن يُقبلها.. دون أن ينعم بدفء شفتيها..
كانت قبلة بدايتها قاسية عنيفة وكأنهُ يُخرج بها غضب السنوات الماضية.. ثُم تحولت إلى أخرى أكثر قسوة ولكن من نوع آخر.. قسوة مُحببة جعلتها تئن بإستمتاع جم وهي تترك شالها الصوف يقع من على جسدها ويستقر أرضٍ أسفل قدميها وهي ترفع ذراعيها لتحاوط كتفيه وتعبث بخصلات شعره بشغفٍ لا يقل عن شغفه في شيءٍ.. وكما كان يضمها نحو جسده يرغب في أن يطبعها هُناك على صدره.. كانت هي تفعل المثل.. تُفرغ اشتياقها اللعين لهُ الذي دام لثلاث سنوات طوال..
لم يعلو على صوت الرياح سوى صوت أنفاسهما اللاهثة وأنين يخرج مُستمتعًا بذلك الشعور والحنين لما سبق..
انصهرت الأجساد.. والتقت الشفاه.. واختلطت الأنفاس.. بينما القلوب كانت في واديٍ آخر..
وعندما حاول عقل " عاصي " أن يجعله يستيقظ من تلك الغيبوبة اللذيذة التي عصفت بهِ.. صرخ قلبه حينها رافضٍ تركها.. ولما يتركها من الأساس.. أوليست... زوجـــتـــه..!!
أنـــتِ لـــي..
شـــِئـــتِ مـــا شـــِئـــتِ..
أنـــتِ لـــي..
رفـــضـــتِ قَـــبـــلـــتِ..
أنـــتِ لـــي..
فـــي عـــيـــنــــيــــكِ أحـــلامـــي..
وفـــي حُـــضــنـــكِ.. أنـــتِ مـــنـــزلـــي..
------------------يُتبع---------------