العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري
الفصل الرابع
*فتاة التوك توك*
شيء من بعيد ناداني..
وأول ما ناداني..
جرالي ما جرالي..
يُنادي مُنادي بإسم الحُب.. والعاشق المُتيم هو فقط من يُجيب.. وليس على القلوب بسلطانٍ.. تائهة.. شاردة بطريقها الذي لم تُفكر يومٍ بالسير بهِ.. لكنها صابرة أو بمعنى أوضح خامدة.. خامدة كبركان ظن الجميع أنهُ ميت لا يثور لكنها تعلم أن وقت ثورتها سيأتي لا محالة.. تقف " شهد " أمام غرفة مكتب الضابط الذي كانت هي بداخلها قبل قليل لكن بتلك اللحظة " روان " هي من بالداخل برفقة " زين " والسيد " صُبحي " مُشرف الجمارك التي قامت الثانية بضربه.. شاردة في اللاشيء تنتظر خروج الجميع من تلك الغُرفة اللعينة غافلة عن ذاك الذي يُراقبها منذُ مُدة لا بأس بها.. تائهًا في ملامحها يُسافر عبرها كرحال ضل طريق العودة إلى وطنه حتى وجده بإحداهن فأصبحت هي وطنه وملجأه..
مهما فرقت بينهما السبُل يعلم أن بنهاية الدرب سيجدها وستجده وستتحد قلوبهما..
أقترب " أسعد " منها حتى وقف أمامها لكنها كانت شاردة إلى درجة أنها لم تنتبه لهُ.. فهتف قائلًا بنبرة رخيمة:- اللي واخد عقلك يتهنى بيه..!
رفعت سوداويتيها نحوه بملامحها الناعمة رُغم جمودها.. تنظر إليه بثبات وعينين ناعستين بفطرة خالقها.. سارت قشعريرة بجسدها عندما استمعت إلى نبرته الرخيمة الهادئة.. دائمًا كانت لنبرته مفعول السحر عليها.. عندما كانت تثور وتغضب وتُقرر هدم المعبد على الجميع كانت تهدأ فقط بكلمة واحدة منهُ.. لكن ذلك كان قبل زمنٍ قديمٍ ولىَّ وانتهى.. عندما كانت فتاة صغيرة وبعنفوانها مُقبلة على الحياة دون أن تُهاب أو تعبىء بشيءٍ..
تأملت ملامح وجهه السمراء الخشنة.. خصلات شعره السوداء الناعمة وغرته القصيرة التي لطالما ضايقته لكنها كانت تعشقها.. عيناه بلون العسل الصافي نافذتين مُعبرتين تترجمان كل ما يدور بخلده لها دون الحاجة لحديث لن يسمن ولا يغني من جوع.. جبهة صلبة.. حاجبان كثيفان سوداوين.. أنف شامخ.. وفك صلب قاسي.. وأخيرًا جسد رياضي ممشوق بطول فارع يليق بعمله كضابط بالشُرطة..
انتبهت أنها أطالت شرودها بهِ دون أن تُجيبه حتى هو انتبه لذلك فتحولت نظراته إلى أخرى داكنة أكثر.. مُخيفة بعُمقها ومعانيها.. وكان هو الأخر يتأمل ملامحها التي اشتاقها كثيرًا دون أن يجروء على البوح بكلمات العِشق والشوق..
أبتسمت هي بسخرية قائلة بنبرتها الباردة:- متهني بيه متقلقش أنت بس يا حضرة الظابط.
أدرك أنها تقوم بأستفزازه ولم يُريد أن ينساق خلفها في شجار سيجعل وقته القصير جدًا معها يضيع هباءًا.. هز رأسه ينفض عنهُ أفكاره ثُم هدر قائلًا بتساؤل جاد:- بتعملي إيه هنا..؟!
وبنفس سُخريتها وبرودها أجابت قائلة:- بعيد الشر عنك وعن السامعين كنت محبوسة.
توسعت نظراته بصدمة.. صدمة تحولت إلى أُخرى مُخيفة جعلتها تتوتر قليلًا لكنها لم تُظهر لهُ ذلك.. همس هو بجمود مُخيف قائلًا:- كنتِ إيه ياختي..! محبوسة..! مين اللي حبسك وأتحبستي ليه..!
هزت كتفيها بالامُبالاة قائلة:- شوية عيال طلعوا عليا على الطريق وأنا راجعة من المينا وحاولوا يكسروا عليا وأنا بهرب منهم طلعلي فجأة كمين الشرطة بتاعكم اللي على أول البلد ودخلت فيه.. قبضوا عليا و " زين " جيه طلعني النهاردة الصُبح.
حاول " أسعد " أن يتحكم بغضبه حتى لا يهدر بها يُعنفها أمام الجميع ويلفت الأنظار نحوهما فهتف قائلًا من بين أسنانه:- هو إنتِ لسة بتسوقي الزفت دة، صح!
هزت رأسها بنعم دون أن تُجيب وهي تُحاول أن تستفزه لتُخرج اسوأ ما بهِ.. مما جعله يقترب منها خطوة واحدة فقط.. خطوة واحدة كانت كافية لتجعل أنفاسه الساخنة الثائرة تلفح وجهها مما جعلها تضيع وتثور بنفس الوقت.. ضائعة بين أنفاسٍ لطالما عشقتها.. ثائرة بسبب عشقٍ لم يُجلب لها سوى الآلام.. انتبهت عليه وهو يهمس قائلًا بنبرة بطيئة غاضبة:- أقسم بالله يا " شهد " لو مبطلتيش تسوقي الزفت دة لهتصحي في يوم تلاقيني مولع فيه تحت بيتك.
أبتسمت بأستفزاز أكبر قائلة:- واريني شطارتك وأنا هتلاقيني مولعة في بيتك كله.
توسعت نظراته بشرارة الغضب.. وانتفخت اوداجه دليلًا على غيظه منها ومن وقاحتها وقبل أن يُعنفها صدرت جلبة قُرب باب الغُرفة الواقفان أمامها إشارة على خروج الجميع من الداخل.. ابتعد عنها بغيظ دون أن يُجيبها .. وبتلك اللحظة فُتح باب الغُرفة وخرج " زين " بصُحبة الأستاذ " صُبحي " وتتبعهما " روان " المُغتاظة.. هتف الأول قائلًا بنبرة مُتملقة:- خلاص مرضي يا أستاذ " صبحي "، أنت عارف معزتك عندي إزاي وعايزك تكون مرضي وأنت ماشي.
تشدق المدعو " صُبحي " قائلًا بلزاجته المعهودة:- والله يا " زين " بيه عشان خاطرك بس أنا اتنازلت، غير كدة أنا كنت هموت وأحبسها.
وقبل أن يُجيب " زين " هدرت " روان " قائلة بفظاظة:- ما خلاص ياعم " صُبحي " في إيه.. هو أنا ضربتك برصاصة في نُص راسك.. دي حيالله كوباية ماية..!
جز شقيقها على أسنانه بغيظ من حديثها بتلك اللحظة تحديدًا بينما هدر " صُبحي " قائلًا بصياح غاضب:- شايف، شايف يا " زين " بيه عمايلها وطريقتها معايا.. أنا ممكن أحبسك دلوقتي والله.
هدر " زين " قائلًا بلهفة:- لا تحبس مين استهدى بالله بس.. هي خلاص عرفت غلطتها ومش هتتكرر تاني.. يلا يدوب تتكل أنت على الله عشان تلحق أشغالك.
رحل المدعو " صُبحي " وهو يُرمق " روان " شزرًا بينما هي لم تتوانى للحظة عن رد النظرات لهُ بأخرى أشد..
تنفس شقيقها الصعداء أخيرًا بعد أن انتهى من حل مشكلة قسم الشرطة اليوم لكنهُ انتبه إلى وجود " أسعد " يقف بجانب " شهد ".. اقترب منهُما قائلًا بترحيب:- أهلًا يا" أسعد " عاش من شافك يا راجل.. فينك مُختفي ليه.!
بادله " أسعد " الترحيب قائلًا:- مشاغل والله يا " زين " وأنت عارف طبيعة شُغلي عاملة إزاي.. مبترحمش.
اومأ صديقه موافقٍ قائلًا بهدوء:- الله يكون في عونك بس أبقا خلينا نشوفك.
وبعد تبادل القليل من العِبارات الودودة بين الشابان رحل " زين " برفقة " روان " و " شهد " التي كان يُتابعها " أسعد " بنظراته الشغوفة حتى أختفت عن أنظاره...
-------------------------------
تُجبرك الحياة يومٍ أن تنسلخ عن جلدك.. هويتك.. طبيعتك التي خلقك بها خالِقك.. تُشّكلك كما تُريد هي وليس كما تُريد أنت.. وأنت العَبد الضعيف الذي تدور بهِ دائرة الأيام مجبور على تسير أمورك.. غير قادر على المُقاومة.. ومن تقاوم..؟! ذاتك أم الحياة..!
وقفت " فلك " بالموقف الخاص بـ " التكاتك " تنتظر دورها لركوب الزبائن معها.. تقف تستند على أحد الأسوار الأسمنتية وبيدها قدحٍ من الشاي الساخن.. تُتابع المارة بنظراتٍ فارغة.. الحياة بجميع معانيها تشّلكت على وجوه هؤلاء العابرين أمامها.. الكثير من الحكايات تحكيها ملامحهم بتلك اللحظة.. التجاعيد ترسم وتقُص قصصها على وجوه الأكبر سنًا بينما التعاسة وقلة الحيلة ترتسم بوضوح على وجوه الشباب الصغار.. شباب أرادوا يومٍ الحياة فكانت لهُم الموت..
ارتشفت رشفة من مشروبها الساخن بهدوء لكن تحول هدوئها إلى غضب عندما لاحظت ما يحدُث.. لقد كان هذا دورها لتقوم بتحميل الزبائن وها هو يؤخذ منها للمرة الثانية اليوم.. هل لأنها صمتت ومررتها بالمرة الأولى سيستضعفونها..! حسنًا هُم من أرادوا الشر فيامرحبًا..
اقتربت " فلك " من شخصٍ ما وهو المسؤول عن تنظيم السائقين بداخل الموقف ثُم هتفت قائلة بعصبية:- إيه ياسطا " هيما " الواد " عجوة " خد دوري وأنت واقف تنظمله المرور..!
أجاب الأسطا " هيما " قائلًا بالامُبالاة:- استني إنتِ يا " فلك " الدور دة، الرجالة لسة بتحمل.
صاحت هادرة بغضب جم:- يعني إيه الرجالة بتحمل، هو أكل العيش كمان فيه رجالة وستات، أنا هنا من ستة الصُبح وجيت تاني واحدة بعد الأسطا " شيكا " والمفروض كنت أحمل من دورين فاتوا، وعديتها وسكت بمزاجي لكن أنتوا هتستحلوها ولا إيه..!
أجابها الرجُل بضجر قائلًا:-وبعدهالك يا " فلك " دي رجالة فاتحة بيوت وعندها عيال بتصرف عليهم.
اللعنة؛ ما هذا المبدأ العقيم.. توسعت نظراتها بشرارة الغضب.. شرارة قادرة على حرق الجميع والتلذُذ بصراخهم.. هدرت قائلة بشراسة:- يعني هما فاتحين بيوت وأنا فاتحة بيوتي سنتر، ما أنت عارف اللي فيها ياسطا " هيما "، هو أنا لو مشتغلتش يوم هلاقي حد يأكلني اللُقمة، مانا كمان بجري على أكل عيشي.! وإيه رأيك بقا إن الدور دة بتاعي وعايزة دكر يفتح بوقه.
وبالفعل بدأت بتنفيذ كلامها واقتربت من" التوك توك " خاصتها وبدأت تُجذب الزبائن أمام نظرات الرجال الساخطة الغير راضية على مشاركة امرأة بمجالهم.. امرأة كُل ما ارادته أن تعيش بالحلال حتى لو كان الحلال صعب وشاق لكنها لم تنساق خلف الشهوات وتتبع شيطانها.. لكن وإن ابتعد عنها شياطين إبليس ماذا ستفعل بشياطين الإنس..!!
وكعاداة اشباه الرجال عندما يلمحون طيف امرأة يقومون بتهميشه وتجاهله حاولوا تجاهلها لكنها كانت لهُم بالمرصاد.
اقتربت منها امرأة عجوز بصحبة طفلين صغار واستقلوا معها ولكن قبل أن تتحرك اقترب منها واحدًا من السائقين هادرًا بعصبية:- إنتِ مين اللي قالك تحملي دلوقتي، لما دور الرجالة يخلص نبقا نشوف دور النسوان.
أبتسمت بسخرية قائلة:- رجالة..! هما فين الرجالة دول ياسطا..!
=لمي لسانك يا " فلك " وعيب اللي بتقوليه دة..!
صاحت هادرة بعنف وجنون وصوتها يصل إلى نهاية الموقف قائلة:- لموا أنتوا شياطينكم بعيد عني، والعيب اللي أنتوا بتعملوه، فاكريني عشان واحدة ست هتبلعوني في كرشكم وتشربوا ورايا كوباية الشاي السُخنة، لكن لا ياروح أمك منك ليه دة أنا الأسطا " فلك " مش بس أقدر أقف في وش شوية رجالة عرر زيكم لأ، دة أنا بعون الله أقف قصاد بلد بحالها، ولما يجي اللي يحاربني في لُقمة عيشي يبقا عليا وعلى أعدائي..!
وفور ان أنتهت من حديثها قام السائق الذي تتشاجر معه بلكزها بكتفها وهو يهدر بها بجنون ويسُبها بأفظع الألفاظ.. لم تُفكر مرتين وهي تلتفت نحو " التوك توك " خاصتها لتسحب سلاحها المُفضل والفتاك.. عصاه خشبية غليظة وسميكة برأس حديدي مُستدير معروفة بالمناطق الشعبية بإسم " الشومة ".. سلاحها الذي لم ولن تتخلى عنهُ سواء بالشارع أو بالمنزل فهي لا تعلم متى أو كيف ستأتيها الضربة لذلك تقوم بحماية نفسها كما اعتادت منذُ ولادتها ووصولها إلى هذه الحياة.. وعلى الفور قامت برد الضربة للسائق ودارت حرب طاحنة بينهما انتهت بفوز " فلك " نظرًا إلى شراستها الزائدة وتدخُل بعض الصالحين لإنهاء الأمر لصالحها...
---------------------------
اصطحب " زين " معهُ بسيارته شقيقته " روان " وابنة خالته " شهد ".. صدح رنين هاتف الأول فأجاب قائلًا بهدوء:- ها عملت إيه..!
استمع إلى الطرف الأخر ثُم أجاب قائلًا بنزق:- ماشي بس تشوفلي ميكانيكي غير الزفت اللي فات، دة خرب العربية اللي راحتلوا أكتر ما هي كانت خربانة.
وصله رد الشخص الأخر وبعد ان أنتهى هتف" زين " قائلًا:- طب ابعتلي عنوان ورشته وأنا هروحله النهاردة.
أغلق الخط فتحدثت شقيقته قائلة بجدية:- أنت متعبتش من حوار العربيات المُستعملة دة يا " زين ".!
أجابها شقيقها دون أن ينظر إليها قائلًا:- خليكِ في حالك وركزي في خيبتك، ومتنسيش إني لسة جايبك من القسم يا أختي العزيزة.
انتفخت اوداجها بغضب ولم تُجيب بينما " شهد " الجالسة بالخلف تنحنحت قائلة بنبرة رقيقة مُصطنعة:- " زنزوني " هو أنا هستلم الموتسيكل بتاعي أمتى.؟!
أجابها بنفس النبرة قائلًا:- أولًا إسمي " زين " ومتنسيش إنتِ كمان إني لسة جايبك من نفس القسم يا شوية مُسجلين، وبالنسبة للزفت بتاعك فتقدري تروحي تستلميه بكرة، وإنتِ ياست " روان " تاخدي الهانم دي وترجعوا المينا تخلصوا باقي الشغل ومعاكم بكرة بس، لو اتأخرتوا يوم زيادة هبلغ جدكم باللي حصل.
نظروا لهُ شزرًا لكنهُ لم يعبأ بهُما وبعد قليل توقفت سيارته أمام بناية " عائلة العفريت " وهتف هو قائلًا ببرود:- حمد لله على السلامة، واتفضلوا من غير مطرود عشان مش طايق اشوفكم أكتر من كدة.
ترجلا من السيارة وبعد رحيله نظرت " شهد " إلى " روان " قائلة:- والله مش عايزة أمد إيدي عليه عشان خاطرك.
أبتسمت " روان " بسُخرية قائلة:- يا شيخة اتنيلي دة جايبنا من القسم هو جايبنا من دريم بارك.
--------------------------
بالداخل كان يجلس الجد " مُختار العفريت " برفقة بناته الثلاثة " لطيفة وسمر و حنان " عندما دخلا عليهم " شهد و روان " قائلين السلام.. انتفضت السيدة " لطيفة " قائلة بلهفة:- حمد لله على سلامتكم يا حبايبي، شكلكم تعبان أوي كدة ليه..؟
نظرت " شهد " إلى " روان " بطرف عيناها ساخرة:- معلش أصل كنا في دريم بارك.
أبتسمت " روان " بخفة ولم تُعلق بينما هتفت السيدة " سمر " قائلة بحنو:- طب يلا أطلعوا غيروا هدومكم على ما نحضر الأكل.
حينها تحدث الجد قائلًا بنبرة جادة:- خلصتوا الشغل اللي عليكُم ولا لسة يا بنات..؟!
لم تُجيب " شهد " لكن أبنة خالتها أجابت قائلة بجدية:- كله تمام بس فاضل شوية حاجات بسيطة مش هتخلص غير بكرة فقولنا نرجع النهاردة البيت وبكرة هنرجع المينا نكمل بإذن الله.
اومأ لها الجد بصمت بينما تحدثت " شهد " قائلة بتساؤل:- أمال فين باقي البنات..؟!
أجابت والدتها قائلة بهدوء:- " رجوى " فوق عند " بتول " و " ليال " في الشغل.
اومأت لها بصمت واستأذنت منهم لتصعد إليهما تتبعها " روان " وفور وصولهما إلى شقة خالتهما المرحومة قاموا بضرب الجرس لتفتح لهُم " رجوى " بعد لحظات وعلى ملامحها الضيق لكنها هتفت قائلة فور رؤيتهما بهدوء:- حمد لله على سلامتكم، ادخلوا.
تركتهما على الباب وتوجهت إلى الداخل ليتتبعاها حتى وصلن إلى غُرفة " بتول " المُغلقة.. حينها هدرت " رجوى " قائلة بغضب:- افتحي الزفت دة يا " بتول " وخلينا نتكلم.
أجابتها " بتول " من الداخل بصوتٍ حزين مكتوم قائلة:- قولتلك سيبيني لوحدي شوية، أنا كويسة سبيني بقا.
هتفت " روان " قائلة بذهول:- هو في إيه..؟
=قافلة على نفسها من الصُبح وبتعيط ومش عارفة مالها.
اقتربت " شهد " من الباب قائلة وهي تطرق عليه:- افتحي الباب يا " بتول " بدل ما هنزل أقول العيلة كلها إنك تعبانة وهتلاقيهم كلهم فوق راسك دلوقتي وهيبقا حوار تاني، افتحي خلينا نتكلم احنا مع بعض.
انتظرن دقائق قليلة حتى قررت " بتول " أن ترحمهن وتقوم بفتح الباب.. اقتحمن الغُرفة سريعًا يتسائلن عن سبب بُكائها لكنها أجابتهن قائلة بنبرة حزينة ووجه مُنتفخ من شدة البُكاء:- مفيش حاجة خطيرة يعني، أنا بس حسيت بشوية خنقة فقومت عيطت.
نظرت إليها " رجوى " قائلة بضيق:- بلاش عبط أنا متأكدة إن في حاجة حصلت، اختصري وقولي في إيه.!
وافقتها " شهد " قائلة:- أيوة صح، في حاجة وكبيرة كمان، قولي يمكن نحلها سوا.
صمتت " بتول " لا تعرف بماذا ستُجيبهم فهي غير قادرة على سرد ما حدث بينها وبين الوغد الذي أحبته، خاصة بوجود شقيقته " روان ".. لم تجد مفر أخر من البُكاء لذلك انفطرت تشهق ببكاء وحزنٍ على حالها مما جعلهن يحزنن عليها ويتأثرن لبُكائها.. كانت " روان " تتابعها بنظراتٍ غامضة وكأنها تعلم ما بها.. تلك المرة لم تستيطع أن تصمت لذلك هتفت قائلة بنبرة قاطعة:- " كريم " هو سبب عياطك..؟!
توقف البُكاء بحلقها من شدة صدمتها بينما " رجوى و شهد " تصنما بمكانهما غير مصدقين معرفة " روان " بأمر حُب " بتول " لشقيقها.. هتفت قائلة بسخرية:- أمال إنتوا فاكرني مش عارفة ولا إيه، مخبين عليا عشان هو أخويا يعني، هو أنا هكره إنه يتجوز بنت خالتي اللي بحبها وعارفة أنها أكتر واحدة هتحافظ عليه وتصونه..!
انتفضت " بتول " مقتربة منها تقبض على كفيها قائلة بلهفة من بين شهقات بُكائها:- لا والله يا " روان " مش دة قصدي، أنا بس خوفت لما أقولك تحاولي تأثري عليه عشان يحبني وأنا مش عايزة كدة، لكن يستحيل هخبي عليكِ عشان قصدي حاجة وحشة.
ربتت " روان " على وجنتها قائلة بأبتسامة حزينة من أجلها:- عارفة يا " بيتو " إن مش قصدك حاجة وحشة، وأنا يستحيل كنت هنزل منك وأروح أتحايل عليه يحبك لأن زي ما هو أخويا وبخاف عليه وبحبه، إنتِ كمان أختي اللي بحبها، ولو محسش بيكِ من نفسه صدقيني هو اللي هيخسر مش إنتِ.
عادت " بتول " لبُكائها من جديد حينها هدرت " رجوى " قائلة بعصبية:- ما تنطقي وتقولي عملك إيه..؟
قصت عليهن ما حدث بالتفصيل وهي غارقة في بُكائها وبعد أن انتهت هدرت " شهد " قائلة بعصبية:- غبي والله، سيبك منه يابت، على رأي أخته هو الخسران.
وافقتها شقيقته بينما أجابت صاحبة الشأن عليها قائلة بجدية:- أنا فعلًا قررت أنساه، لو كان حبني ولو شوية عمره ما كان جرحني كدة، " كريم " مش نصيبي وأنا رضيت خلاص.
تطلعن نحوها بشفقة وحزن على حالها لاعنين " كريم " بسرهن لأنه سبب بُكاءها وحزنها لكن بالتأكيد سيأتي عوضها بيومٍ ما..
-------------------------------
الحُزن هو الوجه الأخر للحُب.. إذا وشمتَ حُبك فوق قلبك فأعلم أن الحُزن رفيقك الدائم لا محالة..
تقف بين مجموعة من العاملين لديها بمنتجعها تعطيهم بعض التعليمات الجديدة الخاصة بالعمل.. الفترة القادمة لديها ضغط كبير وعددًا ضخمٍ من الحفلات والمُناسبات كما أنها تُريد تجهيز حمامات السباحة وكل ما يخُص الصيف نظرًا لأقترابه وبدأ توافد المُصيفين على مُنتجعها الفاخر.. هتفت قائلة بنبرة جادة:- كل واحد كدة أخد التعليمات اللي تخُص صلاحيات شغله، مش عايزة ولا غلطة الفترة الجاية خالص، مفهوم،!
اومأ لها الجميع فأشارت لهُم بالرحيل وفور أن أختفوا من أمامها ظهر فرد من الأمن قائلًا بأدب:- المعلم " حمدان " طالب يشوف حضرتك يا أنسة " ليال ".
تشنجت ملامحها ببغضٍ فور أن استمعت إلى ذلك الإسم الذي أصبحت تمقته مؤخرًا ولكنها أجابت قائلة بثبات:- خليه يجي.
اتخذت مقعدًا ما وجلست عليه في انتظار المدعو " حمدان " الذي ظهر بعد ثوانٍ قليلة.. كان رجُل ببداية الأربعين.. من أصل بدوي يعيش بالجبل مع عائلته ومجموعة من العائلات الأخرى مُشكلين جماعة قوية لا يُستهان بها البتة.. اقترب منها ثُم جلس على المقعد المُقابل لها قائلًا بثبات:- سلام عليكم يابنت العفاريت.
أجابته " ليال " ببرود قائلة:- وعليكم السلام يا معلم " حمدان "، اقدر أعرف سبب الزيارة الكريمة إيه.!
انفجر بها قائلًا بضيق بالغ:- يعني مش عارفة سبب زيارتي إيه ياست " ليال "، مش إنتِ برضه اللي لاغيتي صفقة الحديد اللي بينا وبين شركتكم ورجعتوا الشرط الجزائي كمان.
اومأت لهُ قائلة ببرود ثلجي:- أيوة حصل، إيه بقا اللي معصبك كدة..!
هدر من بين أسنانه قائلًا:- فيها إنك ضيعتي وقتي ووقفتي حال شغلي ولسة بقا على ما الاقي شركة موثوقة زي شركتكم عشان توردلي حديد.
=والله يا معلم أنا رجعتلك الشرط الجزائي اللي بينص عليه العقد اللي بينا في حالة إننا فسخناه بغض النظر عن الأسباب، يعني اللي ليك عندي أخدته خلاص خالصين.
ضرب الطاولة التي بينهما بكفه هادرًا بغضب:- لا مخلصناش، أنا عايز أعرف إيه سبب فسخ العقد معايا يا ست" ليال ".
وبنفس ملامحها الباردة ونبرتها الأكثر برودة أجابت قائلة:- معنديش أسباب ولو عندي مليش مزاج أقولهالك، شرفتني يا معلم.
فور أن انتهت من حديثها نهضت لترحل تاركة إياه يغلي ويزبد خلفها دون أن تهتم بهِ لكنه توعدها برد الضربة وقريبًا جدًا....
-------------------------------
ما أجمل عيناكِ.. تحكيان حكاية شقاءِك.. تُبهران الناظر إليهما.. وأنا المُغفل الوحيد الذي سقط صريعٍ لسحرهما..
يقود سيارته الفارهة يتحكم بالمقود بكف والكف الأخرى يمسك بها هاتفه ويعبث بهِ.. يتطلع نحو الطريق تارة ونحو الهاتف تارة أخرى.. يبحث عن وسيلة للخروج من تلك الحارة الضيقة التي دمرت سيارته العزيزة دون رحمة..
لعن صديقه بسره ولعن نفسه عندما استمع إلى نصيحته وجاء إلى ذاك الميكانيكي المحترف بتلك الحارة.. وها هو بعد أن ذهب إليه وأجرى اتفاقه معه لتصليح سيارة قديمة لهُ ورحل لا يعرف طريق الخروج من تلك الأزقة.. جميعها مُتشابهة وعلى الرُغم من أن بلدته صغيرة لكنهُ أحيانًا يضيع بها..
زفر بضيق عندما يأس من أن يساعده جهاز تحديد المواقع " Gps " في الخروج من هنا.. القى بالهاتف على المقعد بجانبه ليتدحرج قليلًا ويسقط بأرضية السيارة.. وقبل أن يحاول التقاطه ظهرت اسوأ وسيلة مواصلات صُنِعت في تاريخ البشرية " التوك توك " ليصطدم بمقدمة السيارة وتتدمر تمامٍ.. وبالطبع لم ينجو الـ " توك توك " من ذلك الاصطدام..
توسعت عيناه بصدمة سرعان ما تحولت إلى غضبٍ عاصف وهو يخرج من سيارته ليطمئن عليها أولًا ثُم يقتُل سائق تلك الكارثة المُسماة " توك توك " ثانيًا..
كان على وشك الأصابة بذبحة صدرية عندما رأى مدى الضرر الذي أصاب سيارته لكن ما كان صادم لهُ بحق هو صياح السائق الأخر هادرًا بشراسة أجفلته:- يا أخي حسبي الله ونعمة الوكيل فيك، دمرت المكنة اللي باكل منها عيش، إيه اللي دخلك بسفينة تايتنك دي حارتنا بس..!
نظر أمامه ليجد شاب قصير القامة.. ضئيل الجسد.. لم يُدقق في ملامحه كثيرًا نظرًا لأختفاء معظمها بداخل " كاب " السويت شيرت الذي يرتديه لكن نبرة صوته القوية العالية جعلته يستشيط غضبًا منهُ.. اقترب منهُ سريعًا وهو يهدر قائلًا بعُنف:- يعني أنا اللي غلطان ومش أنت ياعديم النظر اللي دخلت فيا بالدبانة دي..!
لم يكُن الشاب ينظر نحوه بتلك اللحظة لكن عندما نعت " التوك توك " خاصته بالذبابة التفت لهُ على الفور وعلى ملامحه إمارات الشر ثُم هدر قائلًا بنبرة بطيئة مُخيفة:- إيه.. أنت قولت على فتحي إيه..!
نظر إليه وكأنهُ كائن فضائي لا يستوعب وجوده ببلدته نهائيًا ثُم هتف قائلًا بصدمة:- فتحي مين.. أنت مسمي الكارثة دة فتحي..!
دار شجار بينهما كاد أن يصل إلى التطاول بالأيدي حتى تحدث أخيرًا واحدًا من رجال الحارة والذي تدخل لفض النزاع قائلًا بصوتٍ جهوري:- خلاص يا جماعة ميصحش كدة.. خلاص ياسطا " فلك " حقك عليا أنا.. امسحيها فيا..
توسعت نظرات الأخر بصدمة.. عدم استيعاب.. ثُم هدر قائلًا وهو ينقل نظراته بينها وبين الرجُل بريبة:- " فلك " مين.. مين دي اللي " فلك " .. يعني الواد دة بنت..!!
حينها هدرت هي بشراستها المعهودة عليها قائلة بصوتها العالي القوي وهي تقف أمامه تجابهه بشموخٍ:- إسمي الأسطا " فلك " يا.. يا ابن الــعــفــاريــت..
لابُد من أنها تمزح.. لابُد من أن الجميع يمزح معه.. كانت عيناه تتوسعان بصدمة وهو يتفحصها بداية من رأسها حتى أخمص قدميها.. استشاطت غضبًا بسبب نظراته الوقحة المُتفحصة لجسدها مما جعلها تهدر قائلة بشراسة:- أنت بتبُص فين يا جدع أنت، أقسم بالله هفقعلك عينك دي.
انتبه على نفسه أنهُ بالفعل تواقح بنظراته لكنهُ كان يبحث عن أي مظهر من مظاهر الأنوثة المعروفة لدى النساء لكن لم يجد بسبب ملابسها السوداء الفضفاضة بطريقة مُبالغة.. تنحنح قائلًا بهدوء:- هبُص على إيه يعني، على العموم أنا متعودتش أرود على ستات عشان كدة مش هرود عليكِ.
صاح واحدًا من الرجال الذين تدخلوا لفض الشجار بينهما قائلًا بتملُق:- ونعم الرجال يا " زين " بيه والله، وبرضه الأسطا " فلك " بنت ناس وبنت مجدع بـ 100 راجل.
نظر إليها " زين " بطرف عيناه قائلًا بجدية:- لا ما أهو باين طبعًا.
زفرت هي بضيق قائلة:- ممكن بقا تحرك السفينة بتاعتك دي عشان أدخل الحارة.
نظر إلى سيارته ثُم إلى الـ " توك توك " خاصتها قائلًا بأبتسامة خفيفة:- مش شايفة إن صعب شوية أرجع بضهري في الحارة الضيقة دي، وإن رجوعك إنتِ هيكون أسهل وأسرع..!
كان الجمع قد انفض عنهما بعد أن هدأت الأوضاع بينهما لذلك كان يتحدثان بمفردهما فهتفت هي قائلة بعناد:- لا، " فتحي " أكيد مُرهق دلوقتي ومش هيقدر يرجع بضهره.
ضحك " زين " بخفوت قائلًا:- ممممم، بتحبي العِند إنتِ..! ماشي..!
توجه نحو سيارته واستقلها ثُم بدأ يعود بها إلى الخلف بصعوبة نظرًا لضيق الحارة لكنهُ لم يُريد أن يتشاجر معها مجددًا.. توجهت هي نحو الـ " توك توك " خاصتها واستقلته ثُم بدأت تتحرك بداخل الحارة مرورًا بجانب سيارته.. لم تنظر نحوه ومرت من جانبه كأنها ملكة تمُر على رعاياها لكنها لا تتعطف عليهُم بنظرة.. بينما هو لم تغفل عيناه عنها للحظة حتى أختفت عن أنظاره تمامٍ.. بعد رحيلها توجه خارج الحارة وهو يبتسم بأتساع أبتسامة تحولت إلى ضحكة قوية قائلًا من بين ضحكاته:- قال أنا كنت فاكر الخُماسي المرح اللي في البيت دول مسترجلين وبعيد تمامٍ عن الأنوثة، دول طلعوا ستات جمبها والله.
التقط هاتفه ثُم ضغط على عددًا من الأرقام وانتظر حتى أتاه الرد فهدر قائلًا بجدية:- في بنت عايزك تجيبلي عنها كل المعلومات اللي تقدر تعرفها، عايز أعرف عنها كل حاجة من ساعة ما اتولدت، اسمها " فلك " بتشتغل سواقة توك توك في حارة "...." أو ساكنة هناك، المهم متغفلش عن ولا معلومة عنها، مفهوم؟!
---------------------------------
أيُعقل بعد كل ذلك العذاب مازال قلبي يتذكر أبتسامتك.. وعيناي لا ترى سواكِ.. حتى نبضي لا يثور إلا لأجلِك.. كيف يجتمع العذاب والحُب معًا..! ماذا أفعل بروحِ التي تهفو إليكِ..! ماذا أفعل بحالي يا الله..!
" دار عائلة السُليماني.. "
صراخ يهز أرجاء المنزل.. أنفاسٍ لاهثة من شدة الغضب.. قلوبٍ مذعورة وأُخرى مشدودة.. المنزل بأكمله في حالة تأهب بسبب صراخ " رامز " الذي يصدح بالأجواء وتهتز لهُ الجدران من شدته.. منذُ عدة أيام وهو سجين غرفته بأمر من جده كبير العائلة حتى يتخلص من تلك السموم التي تحتل جسده الشاب لكن الأول لا يهدأ ولا ينام ولا ينفك يُطالب بجرعة ولو قليلة من السم حتى تُخدر آلامه وينتهي عذابه..
لكن هيهات من يتصدر لذلك الأمر هو كبير العائلة من بعد " عبدالرحيم السُليماني " حفيده الأكبر " عاصي " وهو من يقف الأن أمام باب غُرفة أبن عمه الصغير يحدثه بهدوء وتروي قائلًا:- اللي بتعمله دة مش هيفيدك يا " رامز "، كلها كام أسبوع والسموم دي تروح من جسمك وترتاح، قاوم شوية وخليك راجل.
صرخ " رامز " بغضب ثُم هدر قائلًا:- افتح الزفت دة وملكش دعوة بيا، محدش ليه دعوة بيا، اشرب مخدرات ولا لا أنا حر، دي حياتي مش حياتكم.
هدر بهِ " عاصي " بصبر قائلًا وهو يلتفت بخفة ينظر إلى عمه وزوجته وشقيقة " رامز " الذين يقفوا خلفه مع باقية العائلة يتابعون ما يحدث بصدمة وصمت مؤلم:- لا مش حر في حياتك طالما ليك أهل وعندك عيلة كبيرة بتحبك وعايزة سلامتك، أنت لو تشوف دلوقتي أبوك وأمك وأختك عاملين إزاي بسببك وبسبب خوفهم عليك هتقدر دة وهتقاوم عشانهم يا " رامز ".
بكى الشاب كطفلًا صغير.. بكى بألم فهو يشعر بكل خلية بجسده تحترق الأن ولا يستطيع أن يجعل من آلامه تهدأ ولو قليلًا.. هتف من بين بكائه بلهفة:- طب أخر مرة، سيبني بس أخد أخر جُرعة وأوعدك إني هبطل بعد كدة، وهروح مصحة كمان لو عايز.
هز رأسه بمعنى " لا " وهدر قائلًا بصرامة:- لا يا " رامز " مش هيحصل، قدامك حل واحد بس ملوش تاني، انك تتعالج وتخف غير كدة مش هتشوف الشارع تاني.
صرخ " رامز " بهيستيرية مخيفة بداخل غرفته.. حتى لم يجد شيءٍ يحطمه ويفرغ طاقته بهِ، فأبن عمه الأكبر " عاصي " أفرغ الغُرفة من جميع محتوياتها عدا سرير صغير بزاوية الغُرفة خوفٍ عليه من إيذاء نفسه، لقد حول غرفة نومه إلى غرفة تُشبه غُرف مصحات علاج الإدمان بالفعل..
بتلك اللحظة صدح صوت رنين هاتف " عاصي " وعندما رأى الإسم لمعت عيناه ببريقٍ مُختلف وهو يُجيب قائلًا بجدية:- ألو، في جديد..؟!
انتظر قليلًا رد الطرف الأخر والذي بمُجرد أن استمع إليه حتى تواثبت دقات قلبه برُعب وغضب في ذات الوقت، توحشّت نظراته وهدر قائلًا بشراسة وهو يركض نحو الخارج أمام أنظار عائلته المصدومة:- أنا جاي حالًا.
---------------------------------
داريت الشوق وداريت بس هواك كان غلبني وانتهيت..
وبعد ما حلفت لأنساك لاقيت قلبي بيروح وياك..
وحلفت لأنسى وأقسى بس عِشقك في قلبي لسة..
انتهت من عملها في تمام الساعة الثانية عشر منتصف الليل.. كان يومٍ شاق بسبب التجهيزات التي تقوم بها بالمكان.. حتى أنها كانت ترغب في الذهاب إلى الشركة لمُتابعة بعض الأعمال لكنها لم تجد الوقت لذلك، لم تعتاد أن تتأخر في العودة إلى المنزل هكذا إلا في أوقات مُعينة وهي لا تُحب ذلك.. خرجت من المُنتجع بخطواتٍ واثقة رُغم إرهاقها الداخلي.. قابلها رئيس الحرس الشخصي خاصتها قائلًا بأدب:- على البيت ولا رايحة في مكان تاني يا أنسة " ليال ".؟
أجابته قائلة بخفوت:- لا على البيت يا " جلال " وكفاية عربية حرس واحدة، خلي باقي الرجالة ترواح بيتها.
اومأ لها بأحترام وبعد أن أمر بذهاب مجموعة من الحرس تاركًا مجموعة أخرى أقل عددًا توجه نحو سيارتها ثُم بدأ في قيادتها بسلاسة متوجهًا نحو دار عائلة " العفريت ".. بينما هي تستلقى بالخلف مسترخية ومغمضة عينيها بإرهاق تُحاول تصفية ذهنها من جميع الأحداث التي تمُر بها يوميًا..
مر طيفه بعقلها دون إرادتها مما جعلها تجفل برهبة وقلبها يرتجف.. بالماضي كان قلبها يرتجف لهُ عِشقٍ إما الأن لا تعرف ما نوع تلك الرجفة التي تُصيبها كلما تذكرته.. منذُ المواجهة الماضية بينهما لم يعود للظهور بحياتها من جديد على عكس ما توقعت.. لا تعلم أتحزن أم تفرح..؟!
وقبل أن تجد إجابة لسؤالها صدح صوت طلقات نارية بإيطار السيارة خاصتها مما جعلها تتوقف بقوة أيقظتها من غفوتها القصيرة.. عندما توقفت السيارة هدرت هي قائلة بغضب:- في إيه، إيه اللي بيحصل..؟!
وقبل أن يُجيبها " جلال " انهالت عليهم الطلقات النارية من كل حدبٍ وصوبٍ مما جعلها تلتقط سلاحها كما فعل هو ويترجلان خارج السيارة ينضمان إلى باقية الرجال المُلزمين بحراستها يتبادلون إطلاق النار مع أفراد مجهولين.. وهدف الجميع هو حماية سيدتهم " ليال العفريت "..
كانت تستخدم سلاحها بمهارة وتقف بين الرجال تُقاتل مثلهم دون خوف.. لقد اعتادت على ذلك.. اعتادت أن تكون كالرجال.. والفضل يعود إلى جدها " مختار العفريت " الذي كان يصطحبها معه إلى العمل هي و " زين " ولم يكونا قد انتهيا من المرحلة الإبتدائية بعد.. كانا مُجرد صغارًا عندما ألقاهم بين أعماله الشاقة كعمل التباعين الخاصين بسائقين سيارات النقل الثقيل.. يحملان الأثقال وينقلاها مع الرجال إلى السيارات.. وبعد أن اشتد ساعدهما عملا معًا كمساعدين للسائقين.. ثُم سائقين سيارات نقل ثقيل.. كما قام جدهما بتعليمهما بعض الرياضات القتالية للدفاع عن النفس والرماية.. " مختار العفريت " قام بتربيتها كالرجال وأشد.. وها هي تقف بينهم تُقاتل وتُدافع لتحمي نفسها ورفاقها..
هدر " جلال " قائلًا بغضب ونبرة عالية تعلو على صوت الرصاص:- مكنش لازم نمشي الرجالة، العدد اللي معانا قليل ومش عارفين بنواجه إيه.
وافقته الرأي لكن ما باليد حيلة.. عليهم مواجهة الموقف وإلا سيموتون.. كلما مر الوقت كلما سقط رجالًا من الطرفين لكن طرفها كان قليل لذلك أصبحت هي و " جلال " بمفردهما يواجهان قدر استطاعتهما حتى أصيب الأخير بطلق ناري بالكتف وسقط فاقدًا للوعي.. صاحت " ليال " قائلة بخوف عليه:- " جلال " فوق، " جلال "..!
بتلك اللحظة وجدت نفسها مُحاطة بعددًا من المُلثمين المُسلحين وجميع أسلحتهم موجهة نحوها.. لم تخاف أو تهتز بل كانت تتطلع نحوهم بغضب شرس.. سحب أحدهم سلاحها بينما هدر أخر قائلًا بصلابة:- كل دة عشان نوقع " ليال هانم العفريت "، بس طلعتي تستاهلي اللي اتدفع فيكِ، اتشاهدي على روحك يا حلوة.
نظرت إليه بحدائق الزيتون الأخضر خاصتها المُشتعلتين بلهيبٍ من نيرانٍ ترغب في حرقه حيًا ولم تخف.. لم تخف وتخشاه بل وضعت عيناها بعيناه بصلابة تُحسد عليها.. بينما هو وجه سلاحه إلى رأسها اسعدادًا لقتلها.. وقبل أن يفعل اخترقت رصاصة رأسه فسقط غارقٍ في دمائه..
انتفض الرجال بخوفٍ بالغٍ ينظرون حولهم محاولين استكشاف الفاعل.. حتى ظهر لهُم من على بُعد عدة أمتار عددًا من السيارات المُحملة بالكثير من الرجال المُسلحين..
نظرت" ليال " هي الأخرى لتقع عيناها عليه.. " عاصي " عِشقها وعذابها.. الحبيب الخائن.. يترجل من سيارته حاملًا سلاحه ويقود رجاله نحوها يتبادل إطلاق النار مع هؤلاء المجهولين بتركيز بينما عيناه لم تغفل عنها.. يُطمئنها بنظراته ويُخبرها " أنا هُنا ".." عاصي " هُنا وسيُنقذها كالمُعتاد..
لم تشعُر بنفسها سوى وهي تنهض من مكانها وتركض نحوه.. تخترق الرصاص وتركض نحوه بكل قوة تمتلكها.. لا ترى سواه.. هو هُنا وكفى.. حتى وإن ماتت الأن يكفي أنها ستموت وهو أمامها.. تراه ويراها.. النيران تتوالى عليها دون رحمة أو شفقة بينما هي لا تُحيد عن هدفها.. الوصول إليه هدفها الوحيد..
عندما رأها تركض نحوه هكذا وتلك النظرة بخضراوتيها تلمع.. توسعت عيناه برعبٍ عليها.. لم يشعر بنفسه سوى وهو يركض نحوها هو الأخر.. يتبعه عددًا من رجاله لحمايتهما سويًا.. ركض نحوها وهو ينظر إليها بمعنى ألا تخافي.. تبادله النظرات بمعنى لستُ خائفة..
وبنقطة ما تقابلا.. وقبل أن يتلامسا سبق السيف العزل وخرجت طلقة غادرة من سلاح رجُلًا غادر.. طلقة تعرف طريقها جيدًا.. واستقرت الطلقة بظهرها..
كان على وشك أن يُعانقها.. كانت سترتمي بين أحضانه ليحميها ويخفيها عن الجميع.. لقد أتى ليحميها لا ليراها تموت.. تلقتها ذراعيه برعبٍ.. القت بنفسها بين أحضانه بثقل جسدها.. وسقطت أرضٍ وهو معها يُعانقها بلهفة.. ملامحه شاحبة.. مذعورة.. نظرة عِشق لم يستطيع أن يُسيطر عليها فلتت من بين سجن عيناه.. ونظرة حُزن على حبيبة قُتلت بين ذراعيه تتبعها.. تمدد جسدها أرضٍ بينما هو يحاوط نصفها العلوي بذراعيه لتغرق يداه بدمائها..
ملامحها شاحبة.. حزينة.. مُتألمة.. تنظر إليه غير مُصدقة أنها بين أحضان حبيبها أخيرًا.. وستموت بين ذراعيه أيضًا.. تحاملت على نفسها قائلة بأنفاسٍ لاهثة ونبرة خافتة بطيئة:- كُنت فاكرة إني هموت ومش هشوف نظرة الحُب والخوف دي في عينيك تاني.
التمعت نظراته بالعِبرات بينما رأسه تهتز بمعنى " لا ".. لا تموتي حبيبتي.. لا تموتي الأن.. لا تموتي بين ذراعيّ.. لا تكوني قاسية هكذا..
أبتسمت من بين آلامها قائلة بنبرة ضعيفة:- فاكر من تلات سنين أخدت أنت رصاصة زي دي، كنت واقع في حضني وغرقان في دمك، والنهاردة أنا مكانك.
رفعت كفها تتحس ملامحه القاسية الخشنة قائلة بهمس خافت حزين وعِبراتها تسيل على وجنتيها كالشلال:- الظاهر مش مكتوب لينا نعيش مع بعض في الدنيا دي، بس مكتوب لينا إن واحد فينا يموت في حضن التاني..!
فور أن انتهت من حديثها شهقت بألم شديد.. شعرت بروحها تُغادرها.. غير قادرة على فتح جفونها أكثر من ذلك.. نظرت إليه نظرة أخيرة ثُم أغلقت جفنيها مُستسلمة لمصيرًا محتوم كانت تشعر بأقترابه قبل فترة.. وها هي تعيشه..
شعر بثقل جسدها بين ذراعيه.. وسقط ذراعيها مُتدليان بجانبها.. حتى قلبها توقف عن النبض ولم يعُد يشعُر بهِ.. توسعت نظراته برعب.. وتواثبت دقات قلبه ذُعرًا.. هز جسدها بين ذراعيه يُناديها ولا تُجيبه.. بتلك اللحظة صرخ " عاصي " صرخة أفزعت الطير والحيوان والإنسان حوله.. صرخة خرجت من قلب مكلوم.. صرخة تحمل دموعه وقهره وندمه.. قائلًا:- " لــــيــــال "......
-----------------------يُتبع---------------