العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري
الفصل ٢٣
*أمــطــار وغــيــوم*
ما أجملك.. وردية جميلة رقيقة.. جمالك يُشبِه شروق الشمس.. والنظرة إليكِ تُصيبني بدفئها الوهاج.. هل من نظرةً مولاتي..!
حديقة جميلة واسعة مُزينة بالورود مُختلفة الألوان.. مجموعة من الصِغار يلعبون ويلهون هُنا وهُناك بمرحٍ يليق بأعمارهم اليافعة.. يضحكون ولا يحملةن للدُنيا همٍ..
ومن بين الصِغار فتاة آية في الجمال.. بشعر أسود يُشبه ظلام الليل طويل.. ترتدي فُستان وردي مُزين بورود بيضاء صغيرة.. ملامحها بريئة ورقيقة مما يجعل وجهها قِبلة للنظر..
تركض بين الصِغار بحماسٍ وهي تضحك بمرحٍ.. لكن بلحظة كانت على وشك أن تسقط أرضٍ وقبل أن تفعل ألتقط كفها الصغير صبي يُكبرها بعامين فقط.. صبي على أعتاب المُراهقة بشعرٍ غزيرٍ أسود اللون.. عيناه سوداء تميل إلى البُني الداكن..
أبتسمت الصغيرة قائلة بخجلٍ رقيق:- شكرًا يا " كارم " كُنت هقع لو ملحقتنيش.
أبتسم الصبي قائلًا بلهفة:- بعد الشر عليكِ يا " ليال ".
أبتسمت " ليال " الصغيرة ببراءة وقبل أن تُجيب كان يقف بينهما فتى يكبرهما بأعوامٍ قليلة يقترب منها ويحاوط ذراعيها بين قبضتيه قائلًا بنبرة يملؤها الخوف واللهفة:- إنتِ كويسة يا " ليال " في حاجة حصلتلك.؟
نظرت " ليال " إلى " عاصي " لترى نظرات الرُعب عليها بعيناه الرمادية المُميزة.. لطالما كانت عيناه مصدر جذب لها..
همست قائلة بخجلٍ بريء:- لا أنا كويسة، " كارم " لحقني.
لم ينتبه الفتى إلى نظرات شقيقه التي تحولت إلى غيمة مُبهمة من المشاعر.. مشاعر عميقة مُعقدة لم يفهم الكثير منها حينها لكنهُ كان يفهم شعور الغضب الذي يتفاقم بداخله بتلك اللحظة و.. والغيرة..
التقط " عاصي " كف " ليال " الصغير ورحلا معًا وهما يبتسمان لبعضهما البعض.. دون أن ينتبها إلى شرارة الحقد التي إندلعت بداخل فتى صغير أُخِذَ منهُ للتو الشيء الوحيد الذي تمناه حينها....
--------------------------------
ندبات الماضي لا تزول.. وندبات الطفولة لا تزول ولا تُنسى.. مهما حاولت أن تنسى أو تتناسى لن تفعل.. تبدأ بجرحٍ صغير ثُم يكبر ويكبر حتى يتسع بداخلك فلا تعرف كيف تُداويه.. ويكبر الصغير وتتحول جراحه إلى ندبات لا تظهر للأخرين لكنها لا تختفي من أمام ناظريه هو.. جراح وندبات الطفولة مَدخل جيد جدًا للشيطان ليصل إليكَ من خِلاله.. احترس..
عاد من شروده وذكريات طفولته الكريهة بالنسبة لهُ وهو يشعر أن غضبه قد تجدد من جديد.. غضبه الذي أشتعل بذلك اليوم الذي أدرك بهِ أن شقيقه حصل على كل ما يُريده هو..
ولم يملك أن يفعل شيءٍ حينها.. لقد كان مجرد طفل صغير يرى جميع عائلته تُبجِل وتُمجِد في شقيقه فقط لأنهُ الحفيد الأكبر وولي عهد العائلة.. لكن عِندما كَبر الصغير وأصبح رجلًا يهابه الرجال قبل النساء فعل الكثير.. لقد دمر تلك العلاقة التي كانت سببٍ في أرقه أيامٍ وليالي بل ولسنواتٍ طوال..
لسنواتٍ يتخيلها ستصبح زوجة أخيه.. ستُكتب على إسمه.. وتُصبح زوجته قولًا وفعلًا.. عندما كان يتخيل هذا الأمر كان يشعر بنيرانٍ تنشب في كامل جسده وتحرقه حيًا.. حتى أنه كان يستنشق رائحة الإحتراق من حوله.. وها هو الذي أنتصر بالنهاية.. وتأكد من أن نهاية " ليال وعاصي " قد كُتِبت وعلى يده هو..
كان يجلس بمكتبه داخل مجموعة " آل سُليماني " يتأمل الفراغ الذي أمامه كفراغ روحه.. قطع عليه لحظات شروده دخول السكرتيرة الخاصة بهِ وهي تهتف قائلة بجدية:- " كارم " بيه الظرف دة وصل لحضرتك دلوقتي.
نظر إليها بملامحه الصارمة والتي دائمًا ما تعتريها أخرى غامضة لا تفهمها ولم تحاول أن تفهمها من قبل.. أشار لها لتعطيه الظرف المُغلق ففعلت ما طلب منها ثُم رحلت من أمامه..
التقط " كارم " الظرف وقام بفتحه ولم يكُن بداخله سوى رسالة واحدة..
رسالة بثت الرُغب بكامل جسده وجعلته ينتفض بهلعٍ.. حيثُ كان فحواها الآتي..
" عزيزي كارم؛
مبهور بيك وبذكائك اللي قدر يدمر أقوى إتحاد بين عائلتين من أشهر وأقوى عائلات البلد، حقيقي الإنسان لو مقدرش يتحكم في حقده قادر يحرق العالم، صدق اللي قال الإنسان أخطر وأحقر كائن حي على الأرض؛
مش عايز أطول عليك ولا قاصد أرعبك لا سمح الله، أنا عندي ليك عرض كويس، عرض هيخليك تكمل اللي بدأته من ٣ سنين لما بعت الفيديو للـ " ليال " يوم فرحها على أخوك، لينا لقاء قريب جدًا وبتمنى يكون بينا إتفاق.. "
أغلق الورقة بقوة وهو ينتفض بهلعٍ.. لا يصدق أن هناك من يعرف بفعلته سواه.. من الذي استطاع أن يكشف سره.. سره الذي لم يُخبر أحدًا بهِ طوال السنوات الماضية.. لكن ها هي الحقائق تُكشف.. والأسراء تُفضح.. ولا سبيل للنجاة..
سؤال يتردد بداخله الأن " من الذي كشف سره ".؟!
---------------------------------
لا يشعر المرء بقيمة ما يملكه إلا بعد أن يفقده.. والكثير منا لا يملكون الحظ الكافي لإسترداد ما فقدوه من خلال فرصة أخرى.. الكثير بعيشون يأكلون أصابعهم ندمٍ على شيءٍ قيمٍ كان بين أياديهم وبغباؤ مُنقطع النظير.. فقدوه..
آه.. وآه من نيران الغضب التي تنشب في الجسد بلحظة غير متوقعة بالمرة.. تشعر وكأنك تحترق حيًا وأنت فقط من يرى ذلك الإحتراق فلا تنتظر من أحد أن يمد لك يد العون ويُخمِد سعيرك.. ب
داخل دار " آل عفريت " الجميع يعمل على قدم وساق من أجل أهم مُناسبتين بالعائلة.. الأولى زفاف الحفيد البِكر لـ " مُختار العفريت ".. والثانية عودة الغائبون.. غدًا سيعود أزواج بنات الحاج " مُختار " من بلاد الغُربة لحضور الزفاف..
وزوجاتهن يتجهزن بكل ما يملكن من قوة إشتياقٍ لأحباء غائبون.. حتى الأبناء يشعرون بسعادة كبيرة لعودة أبائهم بعد غياب سنواتٍ..
بمنتصف اليوم أجتمع بعض أفراد العائلة بحديقة الدار يتناقشون حول بعض الأستعدادات للزفاف وخلافه.. يترأسهم الجد كبير العائلة وعلى يمينه بناته " لطيفة و سعاد وحنان " وعلى يساره يجلس " زين وكريم وبتول ورجوى ".. بينما " ليال و شهد وروان " مازلن بالعمل..
تحدث الجد قائلًا بتعجب:- أنا والله مستغرب يا " زين " صاحبك اللي مشي مرة واحدة دة، من غير حتى ما يسلم علينا.
وعلى الرُغم من تعجبه هو الأخر من رحيل " تيمور " بتلك الطريقة.. كما أنه لم يملك الوقت الكافي للحديث مع " روان " حول الأمر لذلك لا يعرف الكثير.. لكنه أجاب على كل حال قائلًا بإبتسامة زائفة:- مانا قولتلك يا جدي إن حصله ظرف مُفاجيء وأضطر يمشي، دة أنا يدوب ودعته هلى باب المطار بالعافية، بس بينقل ليكم سلامه وشكره على الفترة اللي قضاها هنا.
تحدث " كريم " قائلًا بمرح:- بس والله كان قعد وحضر فرحك وبعدين مشي، أكيد محضرش أفراح في مصر من كتير.
أجاب " زين " قائلًا بنبرة غامضة وهو ينظر إلى " رجوى وبتول " بطرف عيناه:- هو أكيد مش هيحضر فرحي بس ممكن على السفرية الجاية يحضرلنا أفراح تانية.
أنتبهت إليه جميع الحواس بينما تحدثت السيدة " حنان " قائلة بحماس:- بجد يا " زين " ليه أنت ناوي تتجوز مرتين ولا إيه.!
ضحك الجميع عليها بينما أجابها هو قائلًا:- مرتين إيه بس يا " حنان "، أنا لسة متجوزتش أهو وبقولك اللي يعملها مرة ميعملهاش التانية.
هدرت بهِ والدته قائلة بغيظ:- ما تنطق يا واد أنت هتنقطنا بالكلام، مين اللي هيتجوز تاني من العيلة.؟
نظر إلى جده بطرف عيناه ليأخذ الإذن بالكلام وقد أعطاه لهُ الجد.. حينها نظر " زين " إلى الفتاتين بجانبه قائلًا بنبرة غامضة:- أصل في عريسين متقدمين لبنتين من العيلة با أمي.
أنتفض " كريم " بداخله بمشاعر مُبهمة بينما أظلمت عيناه وهو ينظر إلى " بتول " التي تجلس بجانبه بملامح بلهاء ولا تشُك مجرد شك أن الحديث عنها حتى.. أنتفض مرة أخرى على صوت زغروطة عالية أطلقتها والدته وهي تهدر قائلة بسعادة:- بجد والنبي، يعني هنجوز البنات ونفرح بيهم، أخيرًا النحس هيتفك.
ضحك " زين " قائلًا:- مش تستنى لما نشوف هيوافقوا عليهم ولالا.؟
تدخلت السيدة " لطيفة " قائلة بحماس كبير:- إن شاء الله ربنا يجعل في وشهم القبول ويكونوا شباب كويسة، بس مين العرسان ومين البنتين.؟
أشار الشاب على " رجوى وبتول " وكما توقعت الأولى أن الأمر يخصها.. لم تتوقع الثانية ذلك.. توسعت نظراتها بصدمة.. فغرت فاهها بعدم تصديق.. بينما وجنتيها غزاهما الخجل حتى أصبحتا كحبتين الفراولة الشهية..
هتفت السيدة " لطيفة " قائلة بلهفة:- ما تقول التفاصيل يابني بسرعة هنموت منك.
حينها تنحنح قائلًا بجدية:- عريس " رجوى " يبقا الدكتور بتاعها في الجامعة " إسلام الحشاش " سنه مناسب ليها، عيلة كبيرة وناس محترمة، مستوى إجتماعي ومادي كويس جدًا، والشاب أخلاقه لا غُبار عليها، أنا سألت عنه كويس الفترة اللي فاتت، مش ناقص غير رد بنتنا.
نظر الجميع إليها ليروا وجهها المتورد من شدة الخجل.. بينما صدرها يرتفع وينخفض بتوتى لم تشعر بهِ من قبل.. نظرت إليها والدتها قائلة بحنو:- إن شاء الله تقعد معاه ولو فيه قبول هتوافق، صح يا " رجوى ".؟
أين صوتها الذي لطالما جلل بين أرجاء المنزل.. لماذا تشعر بكل تلك السخونة بوجنتيها.. وكل ذلك الخجل.. هي فقط تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها بتلك اللحظة..
همست قائلة بخفوت:- اللي تشوفوه.
ظهرت بوادر الإرتياح علة وجه الجد بينما هتفت السيدة " سعاد " قائلة بلهفة:- ومين عريس " بتول " يا " زين ".؟
أنتبهت جميع حواس ذلك الغاضب الذي يجلس منذِ بداية طرح الأمر كأنهُ يجلس على جمرٍ.. بينما هدر شقيقه قائلًا بجدية:- دة بقا منقدرش نقول عليه غريب ١٠٠٪، العريس يبقا المهندس " وليد " أخو " شروق " صاحبتك، والراجل شايفك أكتر من مرة وعارفك وعارفاه، دة غير إن هو قالي إنه حاول يفتح معاكِ موضوع الخطوبة دة وياخد رأيك قبل ما يتقدم رسمي بس إنتِ مسيبتيش ليه فرصة لكدة، فجيه فاتحني في الموضوع على طول.
هتفت السيدة " حنان " قائلة بإنبهار:- بسم الله ماشاء الله على العرسان اللي تشرِح القلب، عيلة " شروق " عارفينهم من زمان وأهلها ناس محترمين، وأخوها و " بتول " شايفين بعض كتير، يعني مش هيحتاجوا أكتر من قاعدة مع بعض عشان بنتنا تقرر، صح يا " بيتو ".!
تحولت جميع الأنظار لها.. وهي التي تكاد تموت من فرط التوتر و.. والقهر..
تتساءل بتلك اللحظة لماذا لا يكون ذلك الخاطب هو " كريم " حبيب عُمرها.. وحُب طفولتها وشبابها.. ما الذي ينقصها لكي لا يُحبها.!
وعلى ذِكره لا تعلم لماذا أرادت بتلك اللحظة أن تنظر إلبها.. لعلها تجد الإجابة بملامحه..
رفعت أنظارها المُلتاعة نحوه وكأنها تنتظر منه أن ينتفض ويطلبها لهُ ليرتاح قلبها المريض بحبه لكن.. بدلًا من ذلك وجدت نظرات إستخفاف وغرور أحمق وكأنه واثقٍ من رفضها.. واثقٍ من أنها لن تكون لسواه.. حتى و كان هو لكثيراتٍ غيرها..
استفزتها تلك النظرات.. ولم تفهم أن خلفها غضب أهوج يهدد بحرقها حية إن وافقت..
لذلك وبلحظة تمرد وغضب منهُ ومن قلبها الغبي نظرت إلى العائلة قائلة بنبرة تفوح منها رائحة التحدي و.. والثقة قائلة:- ناخد رأي بابا الأول ولو وافق.. أنا كمان موافقة.
وهكذا كتبت " بتول " فصول قصتها بنفسها.. ولم تحتاج لشخصٍ حتى يُحركها.. تركت العنان لغضب حواء بداخلها.. لتحرق آدم بنيرانها.. بينما هو كان يعتقد أن حواء مازالت بين قبضة يده.. يُحركها كما يشاء كعروسة ماريونيت يتلاعب بها كما يهوى.. وبغرور الذكور المُعتاد أعتقد أن خيوط عروسته بين أصابعها بينما هي كانت قد قطعت تلك الخيوط ورحلت تاركة إياه يتلظى بنيران غروره الأحمق دون أن تتطلع نحوه مرة أخرى....
--------------------------------
الصدمة.. عندما تُصدم في شخصٍ ما.. صديق.. قريب.. زميل عمل.. أو شيءٍ من هذا القبيل.. مهما كانت حجم الصدمة تأخذ وقتها وتذهب.. حتى المرارة لا تبقى كثيرًا.. لكن.. عندما تأتي الصدمة مِن مَن يحمل نفس دمك.. من الشخص الذي أنت على إستعداد تام لتُضحي بحياتك من أجله.. حينها تكون الضربة القاصمة..
_إنتِ قولتي مين.!
تجلس على المقعد أمامه.. جسدها بأكمله ينتفض من هول ما وصلت إليه من حقيقة مُرعبة قادرة بتلك اللحظة على تدمير عائلة كاملة.. ما الذي فعله " كارم ".. لماذا قام بتدميرهما..!
جميع الشكوك بعقلها تدور حوله الأن.. هو الوحيد الذي يعرف بأمر ذلك المقطع اللعين.. شلال الذكريات أنفجر بعقلها بتلك اللحظة ولا سبيل لإيقافه.. ومن بين هذه الذكريات.. ذكرى يوم الزفاف
" فــــلاش بــــاك "
لا تعلم كم مضى من وقتٍ وهي تجلس أمام حاسوبها المحمول تشاهد ذلك المقطع المقزز والذي يظهر بهِ حبيبها و.. زوجها بين أحضان أُخرى غيرها.. صوته الحبيب والذي أصبح مُنفرٍ الأن على أذنيها يتردد بكلماتٍ مِقززة لم تسمعها منهُ من قبل..
قلبها ينتفض بهلعٍ.. لقد تزوجته.. زفافهما بعد سويعات قليلة.. الجميع سُعداء بهذا الزفاف.. عائلتها وعائلته يقفون جنبٍ إلى جنب الأن يستقبلون الضيوف بسعادة..
وهي.. هي تعشقه ولا ترى رجلًا سواه بهذه الحياة.. كان هو عِشق طفولتها.. وحُب مراهقتها.. وهيام شبابها..
سؤالًا لعبنٍ صدح بعقلها بتلك اللحظة " هل خانها عاصي ".!
وبذرة أمل نبتت بين أرض قلبها المفجوع في حبيبه قررت أن تقوم بالكشف عن المقطع لتُثبت لنفسها أن ذلك مقلب سخيف قام بهِ أحدهم لمُضايقتها.. أو خدعة حقيرة من شخصٍ يُريد أن يسبب وقيعة بينهما.. بالتأكيد هذا ما حدث..
قامت بإرسال المقطع إلى هاتفها ثُم نهضت متوجهة نحو خزانتها ترتدي عباءة سوداء وطرحة مماثلة للون.. أخفت بها نصف معالم وجهها والنصف الأخر تولى أمره تلك النظارة الشمسية الكبيرة مما جعل هناك صعوبة في التعرف عليها..
تسللت بين الزحام دون أن ينتبه إليها أحد.. فالمنزل يضم عشرات العاملين والعاملات ولن ينتبه إليها أحد بتلك اللحظة.. نجحت في الخروج من بوابة المنزل ولكن قبل أن تبتعد كان هماك جسدًا ضخمٍ يقطع عليها الطريق.. وعينان سوداويتين يتطلعان نحوها بتعجب بينما صوت " كارم " يضرب عقلها بتساؤل قائلًا:- رايحة فين يا " ليال "، ولابسة كدة ليه.؟
وبخضم الموقف الصعب التي وقعت بهِ لم تتساءل كيف عرفها أو لماذا تبعها إلى تلك النقطة البعيدة نسبيًا عن المنزل.. كانت تنتفض بخوفٍ من مصيرٍ مجهول تتمنى أن لا تعيشه.. وأن يكون كل ما يحدث الأن كابوسٍ وستستيقظ منهُ..
نفذت سيطرتها على نفسها وانهارت في البكاء وهي تسرد لهُ ما حدث وتطلب منهُ العون.. ولم تنتبه بتلك اللحظة إلى وميض عيناه المُنتصر.. لأنه أخفى كل مشاعر السعادة والإنتصار بداخله وتصنع الصدمة والغضب جيدًا.. كممثل بارع وأدى دوره على أكمل وجه..
هدر " كارم " قائلًا بغضب مُفتعل:- إيه اللي بتقوليه دة، أنا أخويا لا يمكن يعمل كدة، وأنا هثبتلك دلوقتي.!
اصطحبها نحو سيارته ثُم قادها متوجهًا إلى وجهة غير معلومة بالنسبة لها.. حنى توقف أمام بناية بمنطقة ما ثُم أشار على محل صغير بتلك البناية قائلًا بجدية:- وصلنا إنزلي.
ترجلت من السيارة ثُم سارت خلفه بجسدًا مُرهق.. وعقلًا مُغيبٍ.. طلب " كارم " من الشاب الذي يعمل بذلك " السايبر " أن يقوم بالكشف عن ذلك المقطع.. جلست تنتظر النتيجة ولم ترى تلك الغمزة التي وجهها إلى الشاب.. و
بعد تقريبًا ساعة جاءت النتيجة فاجعة لقلبها.. المقطع سليم.. إذًا " عاصي " قام بخيانتها..
" بــــاك "
كان يستمع إلى حديثها بملامح جامدة.. عيناه الرمادية تحولت إلى أخرى مظلمة.. بينما الفاجعة تظهر بشدة على ملامحه وعيناه.. لا يصدق أن من قام بتدمير حياته هو شقيقه.. من جعله يعيش بهذا العذاب لسنواتٍ هو شقيقه الصغير.. شقيقه الذي كان يتشاجر بالشارع من أجله.. والذي كلما كان يُخطيء بصغره يأخذُ هو العقاب بدلًا عنه..
الكثير من الذكريات بينهما بتلك اللحظة تتوالى على عقله تجلده بسياطٍ مُشتعلًا بنيران تكوي قلبه..
رفعت أنظارها المُتسعة بعدم تصديق حتى الأن نحوه لترى ما توقعته من قبل.. ملامح غائرة.. مُتألمة.. يا ليتها ما أرسلت ذلك المقطع إليه.. يا ليتها ما أخبرته بوجوده من الأساس.. حبيبها الأن يعيش صدمة أقوى من صدمته بها.. هي تعلم ماذا تعني العائلة إلى " عاصي ".. وصدمة كتلك لن تمر مرور الكرام..
اسوأ ما يمر بهِ إنسان أن يُخذل على يد أقرب الأشخاص إليه.. الخُذلان يُهشِم كيانك.. يُزلزلك.. يُفقدك ثقتك في الجميع.. الأقرب والأبعد.. وعِلاجه قد يدوم لسنواتٍ.. وفي بعض الحالات الخُذلان لا شِفاء منهُ..
عندما أخبره الشاب الذي فحص المقطع من قبل أن الفاعل شخصٍ قريب من دائرة معارفه ويعرفه حق المعرفة.. دارت شكوكه حول الجميع.. إلا " كارم ".. وها هو يتلقى الضربة على يد " كارم " ببساطة..
نظرت إليه بتعاطف وقبل أن تتحدث وجدته يندفع كالقذيفة نحو باب المكتب ليرحل.. وبالطبع الواجهة معلومة.. شهقت بهلعٍ وهي تتخيل الحرب الدامية التي على وشك أن تندلع مرة أخرى ولكن تلك المرة الحرب ستكون أشد وأكثر إيلامٍ للكثير..
أنتفضت من مكانها وركضت نحوه حتى تلحق بهِ.. أدركته باللحظة الأخيرة قبل أن يضع يده على مقبض الباب ليفتحه.. وقفت أمامه مباشرة فكانت مُحاصرة بين جسده أمامها والباب خلفها..
وضعت كفيها على صدره وهي تهدر قائلة بنبرة قوية حتى يسمعها ويستوعبها جيدًا:- لا يا " عاصي " بلاش، اهدى شوية وفكر بالعقل قبل ما تعمل أي حاجة.
نظر إليها بعينان ناريتين هادرٍ بعُنف:- اهدى.! اهدى وافكر بالعقل.! إنتِ سامعة نفسك بتقولي إيه.! اهدى إزاي وأنا لسة عارف إن أخويا الوحيد دمرلي حياتي وضيع مني البنت الوحيدة اللي حبيتها.!
أشفقت عليه بشدة.. وتمنت بتلك اللحظة لو تستطيع أن تمتص كل آلامه ولا يحمل هو ألم واحد.. لكنها تحدثت قائلة بنبرة عقلانية:- حاسة بيك بس لو واجهته هتخسره.
قبض على ذراعيها بقسوة ألمتها لكنها لم تتحدث ثُم قربها منه قائلًا بفحيح وغضب أعمى:- ما أخسره يا " ليال "، ولا إنتِ عايزاني أبقا جبان زيك وأخاف أواجه وأدمر حياتي وحياة ناس تانية عشان أنا شخص جبان بيخاف يواجه.
غضبت بشدة وبالرغم من محاولاتها لسيطرتها على غضبها لكنها همست قائلة بخفوت قاسي:- أنا مش جبانة يا " عاصي " وأنت عارف، أنا اتوجعت وأتصدمت صدمة عمري في الراجل الوحيد اللي حبيته، كنت مستني مني إيه، أجري عليك وأعيطلك وأقولك خونتني ليه.! مكنتش هقدر أعمل كدة بعد صدمتي فيك.!
عينا طافت بملامحها بجنون ثُم هدر قائلًا بنبرة أثارت الهلع بكامل جسدها:- وأنا مكنتش عايزك تجري تعيطيلي، بس كنت عايزك تثقي فيا شوية، تواجهيني وتسمعي مني، تحكمي عقلك ولو لمرة واحدة، بس إنتِ مشيتي في الطريق الأسهل، تضربيني بالنار قال يعني أنتقمتي مني، وتختفي بعد كدة، وتدمريني وتدمري سُمعتي وشكلي قدام أهلي وأهل البلد وفي داهية أي حاجة، صح.!
لم تعرف بماذا تُجيب.. قبل دقائق من معرفتها الحقيقة لم تكُن نادمة على ما فعلت.. على العكس تمامٍ كانت واثقة أن ردة فعلها علة خيانته هي الأصح.. ولو عاد بها الزمن ستفعلها مرة أخرى.. لكنها الأن نادمة وبشدة.. لقد ضاع ثلاثة سنواتٍ من حياتهما بسبب تسرُعها..
عادت من شرودها على صوته وهو يهمس قائلًا بنبرة طغى عليها الألم ومرارة الخُذلان:- عارفة من ساعة ما عرفت إن الفيديو فيك وكنت متأكد من كدة أصلًا، بسأل نفسي سؤال واحد بس، هي ليه موثقتش فيا.! ليه يا " ليال " مكنش عندك ثقة فيا، ليه سبتيني بالطريقة دي.! ليه وجعتيني كدة وإنتِ عارفة إنك كنتِ كل حاجة ليا، كنتِ روحي ومصدر قوتي.! عملتي كدة ليه يا " ليال ".؟
إنهمرت عِبراتها على وجنتيها بسخاءٍ.. وشعرت بسكينٍ حاد يشطر قلبها لنصفين.. نصف يتألم لأجلهما.. ونصف يتألم لأجله.. هتفت قائلة بنبرة مُتألمة باكية:- معرفتش أفكر في أي حاجة، كنت حاسة بنار بتاكل فيا وأنا حية كل ما عيني تيجي على الفيديو، مفيش ليلة واحدة الفيديو مجاش فيها على بالي، مصدقتش إنك ممكن تعمل فيا كدة، إزاي بعد كل اللي بينا تخوني.! حط نفسك مكاني، لو شوفتني أنا في وضع زي دة هتعمل إيه، مش هتكتفي بحتة رصاصة في كتفي يا " عاصي " ومش هتندم لحظة واحدة حتى.!
أغمض عيناه بغضب قادر بتلك اللحظة على حرقها حية بحق وحرق المكان بهما حتى يرتاحا من هذه القصة وهذا الألم المُميت بداخلهما..
شعرت أن غضبه لم يقل مثقال ذرة.. وإن خرج من هنا لن يحدث خيرًا أبدًا.. لذلك لم تجد إلا مرضها تتخذه حجة ليبقى..
تصنعت الأصابة بالدوار وأصدرت تأوهٍ خافت من بين شفتيها.. وصل إلى أذنيه تأوهها ففتح عيناه ليراها على وشك الإغماء.. أنتفض قلبه بهلعٍ وبلحظة واحدة كان يحاوطها من خصرها ثُم يحملها بين ذراعيه وبتوجه بها نحو الأريكة الضخمة التي تتوسط غرفة المكتب.. سطحها عليها وجلس بجانبها يتحسس وجهها وشعرها قائلًا بلهفة:- مالك يا " ليال " حاسة بإيه، أخدك على المستشفى.؟
بتلك اللحظة التي رأت بها لهفته الحقيقية عليها.. وعيناه اللتان فضحتا عِشقه لها.. ولمساته الحانية على وجهها وشعرها شعرت بقلبها يتنفس من جديد.. اللعنة على الفراق الذي كان على وشك أن بودي بحياتها بدونه..
أحتضنت كفه بأصابعها قائلة بهمس خافت:- أنا كويسة متقلقش.
طافت عيناه بملامحها يتفحصها حتى يطمئن قلبه ثُم هدر قائلًا بتساؤل:- أمال الدوخة دي من إيه.؟
تنهدت بتعب قائلة:- بتجيلي لما بتعصب أو بتعرض لضغط بس حاجة بسيطة متقلقش.
_لازم أقلق إزاي مقلقش، إحنا بكرة هنروح نكشف ونتطمن.!
عادت العِبرات لعيناها من جديد.. منذُ زمنٍ لم تشعر بلهفته عليها هكذا وأهتمامه بها.. لقد اشتاقت لهُ حد اللعنة..
أبتسمت بخفوت قائلة:- اللي تشوفه.
زلزلت قلبه بنعومتها وطاعتها التي لطالما تمييزت بها علاقتها معهُ.. لم تكُن تُعانده من قبل.. ونبرتها حاليًا جعلته يشعر أن لا شيء حدث بينهما وفرقهما.. وأنهما مازالا بالأمس.. عاشقان متحابان وزفافهما قريب..
انحنى قليلًا برأسه حتى وصل إليها ثُم طبع قُبلة حانية على جبهتها دبت القشعريرة بجسدها.. أغمضت عيناها بتلذُذ بتلك القُبلة التي كانت بمثابة عودة الحياة إلى قلبها من جديد.. ثُم سمعته يهمس بخفوت عاشق بينما شفتاه مازالت على جبهتها وتلفحها أنفاسه الساخنة:- بحبك يا " ليال "، وهعمل المُستحيل عشان ترجعي ليا من تاني.
وبغمرة العِشق واللذة وجدت نفسها تهمس قائلة بتأكيد لا يقل عِشقٍ عن عشقه لها:- بس أنا طول عمري ليك، وعمري ما كنت لغيرك.
فتح عيناه ونظر إليها ليجدها تتطلع بهِ بزيتونيتها البرئيتين.. تطوف نظراته بنظراتها يبحث عن الصدق بهما.. ولم يبحث كثيرًا.. نظراتها كانت تحكي قصة عِشقها لهُ..
دفن رأسه بجيدها يستنشق عبير رائحتها الجذاب والمهلك لهُ.. بينما هي حاوطت رقبته بذراعيها تتحسس خصلات شعره بنعومة كما كانت تفعل قبل أن تفرقهما الأيام..
وكأن النوم فارقهما منذُ اللحظة التي افترقا بها وبمجرد أن اجتمعا مرة أخرى عاودهما من جديد..
غفا بين أحضان بعضهما البعض على هذا الوضع وكأن عودتهما كانت حياة لهما....
------------------------------------
يقف " زين " أمام دار " آل عفريت " يتحدث مع بعض العمال المسؤولين عن تنظيم حديقة المنزل من أجل زفاف يوم الخميس.. بتلك اللحظة قطع حديثه رنين هاتفه فهتف قائلًا بجدية:- طب كملوا شغلكوا يا رجالة ونكمل كلامنا بعدين.
انصرف العمال وفتح هو الإتصال قائلًا بمرح:- أهلًا بأندل صاحب في الدنيا.
ضحك " قُصي " قائلًا بمرح مُماثل:- أنا برضه اللي ندل ولا أنت اللي مفكرتش تزورني أو تكلمني مرة واحدة من ساعة ما نزلت مصر.!
تنهد " زين " قائلًا بضحكة خافتة:- ياعم والله فوني وقع بعد سفرك وكل الأرقام ضاعت مني، ومن ساعة ما عرفت إنك رجعت وكل مرة أقول هزورك بس بتحصل حاجة بتمنعني.
_لسة يالا برضه حياتك كلها خوازيق.؟
_وكل خازوق أبشع من اللي قبله.
ضحك الشابان سويًا ثُم هتف " قُصي " قائلًا بخُبث مرِح:- طب بما إني عرفت إنك هتودع العزوبية يوم الخميس، نفسك مراختش لسباق من بتوع زمان.!
أجاب " زين " بدهشة قائلًا:- ياه، دة أنا من زمان مروحتش أي سباق.
_خلاص أهي فرصتك وجات لغاية عندك، في سباق النهاردة بالليل، في المكان القديم، هستناك تعالى.
وافق الشاب على إقتراح صديقه وقرر أن يحتفل بنهاية عزوبيته بذلك السِباق....
---------------------------------
الثأر سيطاردك بأجمل أحلامك.. باسوأ كوابيسك.. بأسعد لحظاتك.. وإن لم تُنَفِث عن الشعور الأكثر بغضٍ بداخلك ستحرق العالم حيًا..
البشر سيئون للغاية.. يتقاتلون فيما بينهما.. تُرهقهم الحياة بأحداثها.. يحملون بقلوبهم طاقتهم السلبية.. ثُم يذهب الغالبية العُظمى إلى البحر حتى يشكوا لهُ همه.. وبعد أن يبوحون بما يعتمل بصدورهم.. يأتي بعضهم ويطلقون على البحر لقب الغدار.. بعد أن تحملهم وكان معهم بأكثر أوقاتهم ألمٍ وظلمٍ..
يقف أمام البحر بمكانٍ هاديء بعيد عن الأنظار المُتطفلة من البشر.. يتأمل الأمواج الثائرة كثورة قلبه حاليًا.. لكن تلك الأمواج قد تهدأ بلحظة أو بأخرى.. بينما ثورة أمواج قلبه لن تهدأ ما حيا..
لقد تعرض للخيانة من أقرب شخص إليه.. حتى الأن لا يُصدق أن من قام بتدمير حياته هو شقيقه.. يتمنى لو أن " ليال " كانت كاذبة.. لكنه وبكل أسف يعلم أنها ليست كذلك..
نيران الثأر تشعل قلبه.. وشيطانه يُغذي عقله بالكثير من الأفكار التي من الممكن أن يُعذِب بها شقيقه.. بينما ظلام روحه يعمي عيناه عن حقيقة تلك الإخوة بينهما..
_" عاصي " في إيه قلقتني، إيه اللي حصل خلاك تطلب تشوفني دلوقتي وهنا ومتستناش نتقابل في البيت.؟
صدح صوت الخائن من خلفه.. لقد هاتفه وطلب منه المجيء إلى هنا فور أن نامت " ليال " واستطاع أن يذهب قبل أن تستيقظ وتراه.. والأن لا يعرف ماذا يجب أن تكون ردة فعله..
وسؤال يطرح نفسه بعقله " هل سيقتل شقيقه "..؟!
التفت ببطءٍ وهدوء ليراه يقف خلفه تمامٍ بنظراتٍ كان يظنها بوقتٍ ما نظرات إخوة حقيقية.. نظرات حانية.. مُحبة.. لكنها لم تكُن سوى مجرد خُدعة منه.. فخٍ وسقط هو بهِ كالشاه..
كانت عيناه مظلمة.. ملامحه شاحبة مُتألمة.. استطاع أن يهمس قائلًا بنبرة فاقدة للحياة:- ليه يا " كارم ".!
انتفض قلب " كارم " بخوفٍ من أن يكون فُضح أمره.. لكنه حاول أن لا يظهر أي شيءٍ على ملامحه.. ابتلع لعابه قائلًا بنبرة ثابتة:- ليه إيه مش فاهم، مالك يا " عاصي ".!
لكمة.. لكمة قوية بمنتصف فكه أصابته مما جعله يترنح ويتراجع عدة خطوات إلى الخلف.. وقبل أن يتمالك نفسه كان يتلقى لكمة أخرى بنفس المكان بينما صوت شقيقه المقهور يصرخ قائلًا بغضب شرس:- ليه يا " كارم "، ليه دمرت حياتي، بتكرهني كل الكره دة ليه، ليه تأذيني في أكتر واحدة حبيتها في حياتي، أنا عملتلك إيه لكل الكره دة.؟
مع كل كلمة كان يتبعها لكمة بوجهه أو أماكن متفرقة في جسده.. حاول " كارم " أن يرد لهُ لكماته لكن عنصر المُفاجئة لم يساعده وأضعف موقفه.. كما أن " عاصي " يحركه بتلك اللحظة ليس قوته الجسمانية فقط بل غضبه الناري أيضًا..
هدر الأخير قائلًا بعنف جنوني وهو يقبض على تلابيب ملابس شقيقه غير مهتمٍ بكمية الدماء التي تسيل من وجهه:- عملت فيك إيه لكل دة، أنت شيطان يا أخي، ليه تأذيني كدة، ليه.!
لم يتحمل " كارم " ما يحدث وعلى حين غرة استجمع قوته ثم قام بلكم " عاصي " لكمة قوية اختل توازنه على إثرها وسقط أرضٍ..
وقبل أن يتمالك نفسه وينهض كان صوت " كارم " يصدح مُجلجلًا بنبرة شرسة عنيفة:- عشان بــحــبــها.
ساد صمت مُهيب بالمكان ولم يصدح إلا صوت الأمواج الهادرة.. لكن " عاصي " يُقسم بتلك اللحظة أن طنين قلبه يكاد يصم الأذان.. نظراته مُعلقة بشقيقه ينتظر منهُ أن يضحك ويخبره أن الأمر مزحة.. وأن ما فعله مجرد مقلب سخيف ولم يستطع أن يتراجع عنهُ بالوقت المُناسب..
لقد توقع الكثير من السيناريوهات أن يخبره بها لكن لم يأتي بمخيلته هذا السيناريو نهائيًا..
لم يُفكر " كارم " مرة أخرى وهو يبوح بكل ما يعتمل بصدره منذُ سنواتٍ.. بصق الدم من فمه أرضٍ ثُم نظر إلى شقيقه بعينان تشعان بنيران الغضب وبنبرة مُغلفة بفحيح الحقد هدر قائلًا:- أيوة يا " عاصي " بحبها، وبحبها أكتر منك كمان، بس أنت أخدتها مني، زي ما كل حاجة حلوة وحبيتها بتاخدها من واحنا صغيرين، عادتك ياخويا ولا هتشتريها.
الألم بقلبه مُميت.. يشعر بأن تنفسه قد توقف.. هل هو ميت أم مازال على قيد الحياة.. لا يعرف.. لكنهُ يتألم والألم قاتل..
ملامحه شاحبة كالأموات.. شفتاه متفرقتان حتى يسمح بالهواء أن ينعش صدره المُشتعل بالنار بتلك اللحظة.. واسوأ ما سمعه بحياته عندما هدر شقيقه بقسوة جنونية قائلًا:- بس أنا مش هسيبهالك ولا هخليك تتهنى بلحظة واحدة معاها.
--------------------------------
لقد منح الله رُخضة للرجُل حتى يستطيع الزواج بأربعة نساء.. لــــكــــن قد يجمعك الله بإمرأة بالأربعة نساء..
مساءًا كان يقف " زين " برفقة " قُصي " يدردشان بعد أن تقابلا بالأحضان اشتياقٍ للأيام الخوالي قبل أن يُهاجر الأخير برفقة أهله ويترك البلاد..
هتف الأول قائلًا بمرح وهو يتأمل مِضمار السباق من حولهما:- والله واحشتني الأيام بتاعتنا، كنا مفتقدينك يا " قُصي ".
أبتسم الشاب بهدوء قائلًا:- وأنا كمان كنت مفتقدكم أوي، الغُربة وحشة أوي يا " زين " حتى لو مع أهلك.
اومأ " زين " برأسه قائلًا بتأكيد:- حصل، مفيش أحسن من العيشة في بلدك وسط أهلك وأصحابك.
وافقه " قُصي " على الحديث وبعد قليل بدأ السباق..
كان السباق عِبارة عن مضمار طويل ويتشارك عشرة أشخاص بالسباق والفائز يربح مبلغ مالي ولقب ملك الطريق.. ويقوم الجمهور ببدأ الرهانات فيما بينهم لإضافة جو من الحماس والإثارة..
وقف " زين " وبجانبه " قُصي " بالدرجات النارية يرتدون خوذة الرأس تجنبٍ للحوادث القاتلة وبجانبهما أنضم إليهما عددًا من المُشاركين.. ولا أحد يعرف هوية الأخر أو يرى وجهه..
وقبل أن ينطلق المُتسابقين وصل باللحظة الأخيرة المُتسابق رقم عشرة.. وانضم إلى الصف..
أطلق شابٍ ما شرارة نارية بالهواء اعلانٍ للبدء.. فأنطلق الجميع يتسابقون فيما بينهم من أجل الفوز..
كان " زين " يتأمل طريقه بتركيز في محاولة منهُ للفوز واسترجاع بعضٍ من طاقته القديمة قبل أن يتوقف عن السباق.. وكان يتقدمه اثنين من المتسابقين والباقية خلفهم.. لكن بلحظة لمح دراجة أخرى تنطلق بسرعة جنونية وتمر بجانبه ثُم تقدمت الجميع..
عقد " زين " حاجبيه متساءلًا عن هوية المُتسابق المتهور هذا.. اشتعلت روح التحدي بداخله وقرر اللحاق بهِ..
انطلق بطريقه يحاول الوصول إلى السائق الأخر.. وبالفعل وصل إليه حتى اصبحا بجانب بعضهما البعض بالضبط..
نظر السائق الأخر إلى " زين " نظرة عابرة لكن توسعت نظراته بصدمة.. ولم ينتبه إلى الطريق الصخري الذي ظهر أمامه.. لكن " زين " قد انتبه إلى ذلك وأن الشاب على وشك أن يلقي حتفه الأن..
وبدون لحظة تفكير قفز عن دراجته النارية وألقى بثقل جسده على الدراجة الأخرى لينتبه السائق إلى ما يحدث.. لكن لم يكن هناك وقتٍ لتفادي الحادث..
التقط " زين " جسد الشاب بين ذراعيه بعد أن لاحظ كم هو نحيف مما يعني أنه خفيف الوزن.. وقبل أن تصطدم دراجة الشاب بالصخرة سقطا أرضٍ من عليها.. ونتيجة السقطة العنيفة تدحرجا بجسديهما على الأرض الصلبة حتى استقرا بجانب الطريق.. لكن أثناء ذلك صدر صرخة ضعيفة من الشاب النحيف الذي بين ذراعيّ " زين ".. كما أن خوذته طارت من على رأسه لينسدل شلال أشقر اللون على الأرض..
مر المتسابقين بجانبهما دون أن يتوقف أحد عدا " قُصي " الذي أوقف دراجته وأقترب منهما قائلًا بفزع:- حصل إيه يا " زين "، أنت كويس.؟
خلع " زين " خوذته ونظر إلى صديقه المُتجمد بمكانه ينظر إلى نقطة ما قائلًا بأنفاسٍ لاهثة:- أنا كويس.
بتلك اللحظة اختارت الفتاة اللحظة الاسوأ لتتأوه بها بألم.. مما لفت أنظاره إليها..
ارتج جسده بصدمة قوية كالصاعقة الكهربائية التي تمس الجسد تُصيبه ولا تقتله.. وتوسعت نظراته بعدم إستيعاب أن الشخص الذي أنقذه قبل لحظاتٍ.. ويعلوه بجسده للتو هو خطيبته المصون " فــــلــــك "....
---------------------يُتبع-------------