العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري
الفصل ٢٥
*غـزالـة بـيـن قـبـضـة ذئـب*
وأخيرًا لحظاتٍ من الفرح تمر على " آل عفريت ".. في تمام الساعة الثانية عشر مُنتصف الليل يقف شباب العائلة بصالة إستقبال العائدين بالمطار الدولي بالقاهرة.. " ليال " بجانبها " زين " ويجاوره " شهد " و " روان ".. لقد أصر " مُختار العفريت " أن يذهبوا هُم فقط والباقية ينتظرون بالمنزل..
وها هُم شباب " آل عفريت " يقفون بإنتظار أبائهم العائدين من الخارج بعد ما يُقارب السنتان دون عودة..
دقائق مرت على الجميع بفارغ الصبر.. يشتاقون لعودة الأحباب حتى بدأوا يظهرون من بعيد فأصبحوا على مرمى بصرهم..
هدرت " روان " قائلة بصياح مُتلهف:- بابا أهو.
ومن بعيد ظهر ثلاث رجال يبدوا عليهم الأناقة والوقار.. تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة وخمسين إلى الأربعون.. أكبر كان السيد " حبيب " زوج السيدة " سعاد " ثُم السيد " عصام " زوج السيدة " لطيفة " وأخيرًا السيد " محمد " زوج السيدة " حنان "..
وصلوا إلى حيثُ يقف أبنائهم وكان اللقاء مُعبرًا عن إشتياق جميع الأطراف إلى بعضهم.. فسنوات الغُربة ليست سهلة.. الجميع يتألم بها سواء البعيد أو القريب.. لكن هذه هي سُنة الحياة.. وقد كُتِب على بني أدم العمل بجِد وأجتهاد حتى يُحصلون على أرزاقهم..
أبتعد السيد " عصام " عن أحضان " ليال وشهد " قائلًا بإشتياق جارف:- وحشتوني يا حبايبي، ماما و " رجوى " وباقي العيلة عاملين إيه..؟
هتفت " ليال " قائلة بنبرة مُتحشرجة تُحاول أن تتحكم في عِبراتها:- كلهم كويسين ومشتاقين ليك أوي يا بابا، وحشتنا يا حبيبي.
وكان اللقاء لا يقل حرارة عند السيد " حبيب " وأولاده.. بينما السيد " محمد " كان يقف يلتهم شطيرة حصل عليها من الطائرة وهو ينتظر بصبرًا أن تنتهي فقرة العِناق والإشتياق تلك.. كان رجل ضخم الجثة.. طويل القامة.. بجسدًا مُمتليء بعض الشيء.. لكنه يحمل طيبة العالم أجمع بقلبه.. عاشقٍ للطعام وللأجواء العائلية.. كما أنه كان محبوب كثيرًا بالعائلة لخفة دمه..
_ما تخلصونا بقا يا جماعة، أنا كمان عندي عيال عايز أحضنهم.
نظروا إليه جميعًا بإنتباه ثُم ضحكوا على حديثه.. أقترب منهُ " زين " قائلًا بضحك وهو يُعانقه:- يا عم تعالى بالحضن أهو، أنا زي إبنك برضه.
ربت السيد " محمد " على ظهره بحنو ثُم دفعه بعيدًا عنهُ قائلًا بحنق مُفتعل:- إبن مين يا بغل أنت، أنا لسة عيالي أطفال صغيرة، مش شحوطة زيك، أنت فاكرني مخنشر وعجوز زي أبوك.
ضحك " زين " بقوة بينما هتف السيد " حبيب " قائلًا بنبرة بشوشة:- الله يسامحك ياخويا.
ربت السيد " محمد " على كتفه قائلًا بمودة:- أنت حبيبي يا " حبيب ".
هدرت " روان " قائلة بمرح:- طب يلا عشان إحنا لسة ورانا سكة سفر وفي جيش مستنينا.
أشارت للحراسة التي معهم أن يحملون الحقائب إلى السيارات.. وخلال دقائق كانت تنطلق سيارات " آل عفريت " بإتجاه بلدتهم.. وبعد ما يُقارب الساعتين وقفت السيارات أمام دار " العفاريت "..
بالداخل كانت نيران الشوق تنهش قلوب الجميع.. لقد عاد الغائبون أخيرًا إلى وطنهم.. قد كان اللقاء العائلي عاطفي حار.. بهِ الكثير من الدموع.. وعِبارات الإشتياق.. ووعود بالبقاء..
وبعد أن أنتهى الجميع من السلام هتف الحاج " مختار " قائلًا بنبرة وقورة:- نورتوا بيتكم وبلدكم، يلا كل واحد ياخد مراته وولاده وعلى بيته.
طبعت السيدة " حنان " قبلة على كتف والدها قائلة بحنو:- إزاي يا حبيبي هنسيبك لوحدك، الدور عليا النهاردة أبات معاك.
_كلام إيه دة، جوزك لسة راجع من السفر وعايزة تسبيه وتباتي معايا، وبعدين هو أنا صغير والعفريت هياكلني، دة أنا كبير العفاريت.
قهقه الجميع على حديثه وبعد دقائق اصطحب كل أب أبنائه وزوجته وتوجه إلى منزله.. وأصبح المنزل خالي من الجميع..
نظر " مختار العفريت " إلى الصمت الموحش من حوله بعد أن كان المكان يكتظ بالناس قبل قليل ثُم حمد ربه أنه مجرد صمت مؤقت.. وأن جميع عائلته سالمة بجانبه..
ظل مكانه لفترة طويلة.. لا قُدرة لهُ على الحركة بعد أن تملك منهُ الخمول.. حتى شعر بأصابع رقيقة تُربت على كتفه.. نظر إلى الفاعل ليجدها " ليال " حفيدته الأقرب إلى قلبه..
هتف قائلًا بدهشة:- " ليال " إيه اللي نزلك في الوقت دة.!
أبتسمت لهُ بحنان رُغمٍ عن الألم الذي ينهش قلبها قائلة:- مقدرتش أسيبك تبات لوحدك يا جدو، وأنا عارفة إنك مش بتحب الوحدة.
تأثر قلب العجوز من حنانها المُعتاد.. والذي لا يراه منها إلا بعض الأشخاص وأغلبهم من العائلة.. وعلى الرُغم من قسوتها المعروفة عنها.. وجمود قلبها وصلابتها.. لكنهُ يعرف أن حفيدته رقيقة القلب.. وأن كل ذلك ما هو إلا قشرة خارجية نتيجة تربيته الصارمة لها.. ونتيجة لصدمة الخُذلان التي تعرضت لها من قبل..
أبتسم لها جدها بحبور قائلًا:- تعرفي يا " ليال " إنك أقرب حفيدة لقلبي.
ضحكت الحفيدة بمرح قائلة وهي تجلس على المقعد المجاور لهُ:- وياترى قولت الكلام دة لكام حفيدة قبلي.!
قهقه الجد بوقار قائلًا بنبرة مرحة تُشبه نبرته:- أنت اللي في القلب يا جميل.
ضحكت " ليال " بقوة حتى أدمعت عيناها.. ثُم التقطت كفه تقبلهُ وهي تهتف قائلة بحُب:- ربنا يخليك لينا يا حبيبي.
ربت على كتفها بحنان.. لكنهُ بلحظة شرد في البعيد.. في البعيد جدًا.. شرد في عزيزًا غائب لكنهُ يعلم أن لا فرصة لعودته من جديد..
بعض الأفعال لا نملك أن نغفرها مهما حاولنا.. ومهما وصلت درجة حُبنا لمن فعلها..
------------------------------
الليل دائمًا كان سِتار لكُل سهران مِحتار.. لكنهُ أيضًا مُلتقى الذِكريات.. وإذا كانت ذكرياتك سيئة ستُلاقي الويلات..
لم يكُن ينقصه شعور بالألم.. أو الثقل بقلبه حتى تأتي هي وتُنهيه.. هو يملك ما يكفي من الذكريات الموجعة والتي لا تجعله ينام الليل دون كوابيس.. لتأتي إبنة " العفاريت " وتكون جزء لا يتجزأ من أحلام لياليه وصحوه أيضًا..
يجلس " تيمور " بغرفة قديمة مُتهالكة بحي قديم.. يُحاول أن يبتعد عن الأنظار بعد أن قام بتنفيذ مهمته الأخيرة والتي تم كشفه بها من قِبل " روان ".. يُحاول أن يُرتب للخطوة القادمة حتى لا يُلقي حتفه قبل أن يحصل على ثأره..
لكنه لا يستطيع التركيز بسبب تفكيره بها.. لم يكن يتوقع أن يدُق قلبه ويحيا من جديد.. لا يعلم هل هذا بسبب فقدانه الذاكرة في بداية معرفته بها.. هل لو لم يكُن فقد ذاكرته لم يكُن سيقع في حُبها..!
لا يعرف متى تغلغلت إلى قلبه بهذه الطريقة.. بعد رحيله من المنزل كان يعتقد أن الأمر سيكون سهلًا.. لكن كل يومٍ يمر يُثبت لهُ كم أن البُعد عن عيناها يُشبه الجحيم.. وهو لا يتحمل كل هذا.. يكفي جحيمه الخاص الذي يحيا بهِ..
نهض من مكانه بإنفعال ثُم ضرب الحائط بقوة بقبضة يده هادرًا بجنون:- أطلعي بقا من دماغي، أنا مكنتش ناقص.
بتلك اللحظة صدح صوت أذان الفجر مجلجلًا بالأجواء.. شعر كأنها إشارة من ربه لكي يرتاح.. منذُ زمنٍ وهو لم يُصلي.. منذُ قرر أن يتبع شيطانه.. ويأخذ إنتقامه..
استغفر ربه بسره ثُم توجه إلى المرحاض الصغير ليتوضأ.. وقرر أن يُصلي الفجر بالمسجد الموجود بالحي الذي يقطنه..
بعد ما يُقارب الساعة كان " تيمور " قد أنتهى من صلاته.. وبكائه أيضًا.. فهو بمجرد أن شرع في الصلاة حتى وجدت الدموع طريقها إلى وجنتيه ولم تتوقف.. لقد تذكر كل شيء.. تذكر كيف كان سبب في إزهاق أرواحٍ لا ذنب لها سوى أنهما اقتربا منهُ.. وكيف كان ضعيفٍ لم يستطع أن ينتقم لهم في البداية.. لكنهُ أقسم أن لا يترك حقهم وسينتقم حتى لو كانت نهايته..
كان يجلس بزاوية صغيرة بالمسجد شاردٍ لكنهُ خرج من شروده بسبب جلوس أحدهم بجانبه.. نظر إلى الفاعل ليجده إمام المسجد.. تحرك من مكانه قائلًا وهو يهم بالنهوض:- أنا أسف، الوقت سرقني وأكيد أنت عايز تقفل.
أشار لهُ الإمام ليجلس قائلًا ببشاشة:- أقعد يابني باب بيت ربنا مفتوح لكل عباده، مين أنا عشان أقطع لحظة بينك ربك وأخرجك من بيته.
شعر بطاقة جميلة تبعث من هذا الرجُل.. ولا يعلم كيف عاد يجلس بهدوء من جديد.. فهتف الشيخ مجددًا بنبرة مرحة:- أنا بس لاقيتك قاعد لوحدك قولت أجي أقعد معاك، بس لو دة هيضايقك أنا هبعد وهسيبك الوقت اللي تحبه في الجامع.
نفى " تيمور " برأسه قائلًا بخفوت:- لا يا شيخ مش مضايقني.
أبتسم الشيخ بهدوء قائلًا بتساؤل:- تسمحلي اسألك إيه سبب الهم اللي على وش شاب في سنك دة.؟
تنهيدة ثقيلة خرجت من بين شفتيه قائلًا وهو يشرد في البعيد:- حاسس إني تقيل.. تقيل من كتر همومي و.. وذنوبي.
تحدث الشيخ بجدية هادئة:- كلنا يابني عندنا ذنوب، بس أهو أنت في بيت ربنا أطلب منه السماح وابدأ من جديد.
أبتسم " تيمور " بسخرية قائلًا:- للأسف مش هقدر.
_ليه.!
أظلمت عيناه بنيران الجحيم وهو يهمس قائلًا بنبرة شرسة خافتة:- عشان أنا عمري ما ههدى ولا هرتاح غير لو خلصت إنتقامي.
أدرك الشيخ أن هذا الشخص بجبعته الكثير لكنه حاول معهُ قائلًا برزانة:- خدها مني نصيحة، نار الأنتقام مش بتحرق غير صاحبها في النهاية، ومهما أنتقمت أنت وحسيت إنك أنتصرت بس أنتقام ربك أشد وأقوى.
نظر إليه بنظرات يشوبها مرارة الحزن وهمس قائلًا بضياع:- مش قادر أوقف، كوابيسي مش بتسيبني، أنا حاسس إني حي لغاية دلوقتي بسبب نار الأنتقام اللي جوايا، ولو أتطفت هموت قبل ما أخد حقهم.
لم يسأله الشيخ عن من يتحدث.. فهو يعرف أنه لن يُجيب لكنهُ فاجأه بسؤالًا أخر قائلًا:- بقالك قد إيه بتصلي.؟
أجفل " تيمور " من رهبة السؤال.. وخلال لحظات مر على مخيلته شريط حياته البائسة.. حينها همس قائلًا بخزيٍ:- صراحة أنا طول عمري بعيد عن ربنا، كنت شوية بصلي وشوية بقطع، وبقالي فترة كبيرة حوالي سنتين مصلتش، دي أول مرة أصلي وكمان في جامع من بدري أوي.
_ " وَمَن أعرَضَ عَن ذِكري فَإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا ".
ارتجف قلب " تيمور " من شدة الآية الكريمة بينما تابع الشيخ حديثه قائلًا بنفس رزانته:- يعني بذمتك بعيد عن ربك كل دة ومستني حياتك تبقا وردي يا راجل.!
هتف " تيمور " بتأثر شديد:- مش قادر أقف بين إيديه وأنا بعصيه.
_يابني باب التوبة مفتوح في أي وقت ولكل عباده، وطول ما فيك نفس تقدر تكفر عن ذنوبك دي وتتوب، بس المهم إنك تنويها توبة صادقة ومن قلبك.
كان حديث الشيخ كالبلسم لشفاء جراحه لكن بداخله جزء صغير لا يرغب في أن يترك ثأره ويخذل من لا ذنب لهم..
لاحظ الشيخ تردده ولم يرد أن يضغط عليه أكثر حتى لا تأتي نصيحته بنتيجة عكسية.. لذلك نهض قائلًا ببشاشة:- بما إننا طولنا في القاعدة أنا هقوم اجدد وضوئي واصلي ركعتين لله، وادعيلك ربنا يريح قلبك.
رحل الشيخ وتركه لصراعاته.. رغبته في أن يرتاح.. يبدأ من جديد.. يعيش الحياة التي طالما تمنى أن يعيشها.. حياة هادئة بسيطة بعيدة عن الأنتقام والدماء وكل ذلك.. وبين شيطانه الذي يحثه على إستكمال ثأره.. أن ينتقم ليرتاح.. ولكن هل تُكمن راحته في أنتقامه حقًا..!
بعد ساعة خرج " تيمور " من المسجد بعد أن صلى مرة أخرى برفقة الشيخ وقرأا ما تيسر من القرءان.. وكأن الأيات كانت تنزل كالبلسم على قلبه.. شعر بأن ما بداخله من طاقة سلبية قد تبددت وحل محلها السكون.. فقط السكون والهدوء..
وصل إلى الغرفة الصغيرة التي تقع بنهاية الحي ببناية مُتهالكة وفور أن دلف شعر بوجود أحد معهُ بالمكان.. كاد أن يسحب سلاحه من خصره لكنه تذكر أنه لم يأخذه معه.. لقد خجل من أن يدخل بيت الله بالسلاح..
وقبل أن يُقدم على أيّ تصرف صدح صوت شخصٍ ما من خلفه قائلًا بنبرة هادئة:- مساء الخير يا " تيمور " باشا.
التفت سريعٍ لتقع نظراته على أخر شخصٍ توقع وجوده أو رؤيته مرة أخرى.. لقد كان " أدهم " صديقه المُقرب بالماضي القريب.. والذي كان أيضًا زميله بالعمل.. عندما كان يعمل ضابطًا شرطة بإدارة مكافحة الإرهاب..
---------------------------------
بعض الليالي تكون أطول مما نُريد.. السماء تُظلِم.. والنجوم تختفي.. ولا ترى إلا الأسود الحالك فقط.. حينها كل ما مقتهُ يومٍ ستراه أمامك..
يبدوا أن تلك الليلة التي تسبق يومٍ واحدًا من زفاف " زين العفريت " ليلة طويلة.. ولن تنتهي نهاية سعيدة.. كعودة الغائبين مثلًا.. ألم يقال أن المُناسبات السعيدة لا بد لها من هدايا ثمينة.. وكانت تلك الليلة هدية ثمينة من أقدم أعداء " آل عفريت "..
بسكون الليل وظلامه حيثُ يكون ستارٍ لكل من أراد فعل السوء.. وبشوارع البلدة الصغيرة.. كان السكون والظلام أسياد الموقف.. الجميع بمنازلهم نيام.. المحال مُغلقة.. والطرقات هادئة.. إلا من حيوانات الشارع المسكينة..
بدد سكون الشوارع.. وسكينة الحيوانات البريئة أصوات إنفجارات.. وحرائق تشتعل بالمحال بجنون وكأن الشيطان هو من أشعلها.. ليس محلًا واحدًا أو أثنان.. بل إحتراق جميع المحلات التي تقع بالشارع.. وليس شارعٍ واحدًا أو أثنان بل إحتراق عددًا من الشوارع الكبرى بالبلدة والتي تضم أشهر وأكبر المحال التجارية.. والتي تقع بها أيضًا مجموعة من محال ومخازن " آل عفريت "..
أنتشرت النيران بجنون بكل شيءٍ.. بدأ حُراس المخازن بالصراخ ومحاولة إنقاذ شيءٍ ما لكنهم بلحظة كانوا يتعرضون إلى إطلاق نار عشوائي جنوني..
استيقظ الأهالي على أصوات إطلاق النار وصراخ الحُراس.. سادت حالة من الهرج والمرج بالشوارع.. وبعد أن كان الجميع يحاولون وقف إنتشار النيران.. تركوها تأكل كل شيءٍ.. ويحاولون الأن التصدي لإطلاق النيران عليهم.. لكن استطاع حارسٍ منهم الإبتعاد والأتصال على منزل " إل عفريت "..
-------------------------------
على الجانب الأخر بمنزل " آل عفريت " خلد الجميع إلى النوم إستعدادًا للزفاف في اليوم التالي.. وبمنزل الجد " مختار العفريت " كان نائمٍ عندما صدح صوت رنين هاتفه..
التقط الهاتف وأجاب بصوتٍ ناعس لكنه انتفض مفزوعٍ هادرٍ بذهول:- بتقول إيه، يا ستار يارب.!
ترك الهاتف واستند على عكازه خارجٍ من غرفته.. وبمجرد ما أن فتح الباب وجد " ليال " تقف بمنتصف الصالة الكبيرة وهي تتحدث بالهاتف..
تقابلت نظراتها المصدومة مع نظرات جدها الهلعة.. " مختار العفريت " مُرتعبٍ وهذا حدثٍ لا يحدث أبدًا.. النظرة على وجه العجوز جعلتها تُدرك أن عليها التصرف.. وباللحظة التالية كانت تحمل سلاحها وسترتها وتتوجه خارج المنزل..
وصل الخبر أيضًا إلى جميع من بالمنزل وسادت حالة من الرُعب بالأرجاء.. خرجت " شهد " من غرفتها وهي ترتدي ثيابها على عجل وبيدها سلاحها..
بمجرد أن رأتها والدتها صرخت برُعب قائلة:- لا يا " شهد " أبوس إيديك لا.
هدرت " شهد " قائلة بجمود موجهة حديثها إلى " رجوى " التي لا تقل رُعبٍ عن والدتها:- صحيتي " ليال ".؟
_" ليال " مش في أوضتها أصلًا.
هدر والدهن قائلًا بجدية وهو يحمل سلاحه هو الأخر:- يلا يا " شهد " نتحرك.
ركضت " رجوى " نحو الشرفة لترى " ليال " برفقة رجالها.. تتحرك نحو السيارات.. هدرت قائلة بخوف:- " ليال " مع رجالتها أهو وماشين.
فتحت " شهد " الباب لترحل برفقة والدها.. فوجدت السيد " حبيب " هو الأخر يحمل سلاحه.. ومن خلفه يتبعه أبنائه.. " زين و روان و كريم "..
هدرت السيد " حبيب " قائلًا بجدية صارمة:- يلا بينا أحنا، و " منعم ومحمد " هيفضلوا هنا للأمان.
توجه " آل عفريت " نحو موقع الأحداث وقد سبقتهم " ليال " ورجالها إلى هُناك..
---------------------------------
بداخل قسم شرطة البلدة.. القسم الوحيد الموجود بالبلدة ويعمل بهِ " أسعد ".. الذي كان يُحقق الأن مع الشخص الوحيد الذي تركته" شهد " حي حتى يستطيع أن يعرف من الذي قام بمحاولة خطف إبنته..
كانت نيران الغضب تلتمع بعيناه وهو يجلس بالتحقيق.. بينما زملائه يحاولون تهدئته قدر المُستطاع.. لكن على حين غرة أقتحم ضابطٍ أخر للغرفة قائلًا بعجلة:- في مصيبة يا جماعة، شوارع ".... و.....و..... و....." اتعرضوا للهجوم دلوقتي، النار مسكت في كل حاجة هناك، وفي ضرب نار مُتبادل بين رجالة مجهولة و حراسة عيلة العفريت.
أنتبهت جميع حواس " أسعد " إلى إسم العائلة المذكور.. وأدرك حقيقة واحدة وهو أن تلك المجنونة بالتأكيد ستكون بخضم الأحداث الأن..
صدح صوت زميله قائلًا بصرامة:- إحنا عندنا أمر نتعامل.
وبدون تردد كانت تخرج قوة أمنية من قسم الشرطة على رأسها " أسعد " الذي كان يدعوا ربهُ أن لا يجدها هُناك حتى لا يقتلها هو..
------------------------------
النيران لا تتوقف في الإنتشار.. ولا الرصاص هدأ دقيقة واحدة.. العديد من الرجال يتساقطون كالذباب من كلا الطرفين ولا أحد يعلم من أين حلت عليهم تلك الكارثة..
وصلت سيارة " ليال " باللحظة التي لمحت بها شخصٍ ما مُلثمٍ على وشك قتل واحدًا من رجالها.. لم تتردد وهي تقود بأقصى سرعتها نحوه لتقتله في الحال..
ترجلت من سيارتها بسرعة بينما خصلات شعرها السوداء المجنونة لا تقل ثورة عنها.. أشارت إلى رجالها ليأخذوا أماكنهم في ساحة المعركة بينما هي كان يتبعها " جلال " كظلها.. إذا أطلقت رصاصة يُطلق هو عشرة بجانبها.. فمهمته بالنهاية حماية واحدة من نساء العفريت..
بدأ تبادل إطلاق النار بين الطرفين.. وقد لاحظت " ليال " كثرة عدد الرجال الأخرين.. من هُم ولماذا يطلقون النار عليهم لا تعلم..
خلال دقائق أنضمت إليها باقية العائلة كُلًا برجاله.. فكانوا كالجيش وليس جيشٍ صغيرًا.. فبالنهاية عائلة " العفريت " واحدة من أكبر العائلات بالبلد.. وأقل ما قد تملكه هو جيشٍ مُسلح من الرجال يدافعون عنهم بمثل هذه المواقف..
وصل " أسعد " بقوة الشرطة إلى موقع الأحداث.. تفرق رجال الشرطة ينضمون إلى رجال العفريت لكن هو كان يبحث عنها في وسط هذه النيران التي تلتهم كل شيءٍ حولهم..
كاد أن يحمد الله عندما لم يجدها.. لكن تجمدت الدماء بعروقه وهو يراها تتعارك مع رجلًا ضخم الجثة مُلثم.. وكان العراك بالأيدي.. بينما " عزام " على بعد عدة أمتار قليلة منها يتعارك هو الأخر مع أثنان من الملثمين..
ركض نحوها وهو يسب ويلعن اليوم الذي أحبها بهِ.. وفور وصوله أطلق النار على المُلثم ليسقط قتيلًا.. التفتت تنظر إلى من أنقذها لتراه هو.. وقبل أن تتحدث كان يصرخ بها وهما يحتميان خلف حائط ما هادرٍ بجنون:- بتعملي إيه هنا.!
عادت إلى إطلاق النار من جديد من خلف الحائط وهي تهدر قائلة بسخرية:- بعمل شوبينج، أشتريلك جوز شرابات معايا.
أطلق النار على شخصٍ ما قريبٍ منهما وأجابها قائلًا بغيظ:- وليكِ نفس تهزري في الموقف اللي إحنا فيه دة، يا شيخة حرام عليكِ، إرحميني.
كان الجميع مُنشغلٍ بالتصدي للمُعتدين.. وكانت الأحوال من سيء إلى أسوأ.. عدد المُهاجمين كثيرًا جدًا ويبدوا كأنهم لا يموتون.. بينما من جانب الشرطة و عائلة العفريت سقط الكثير من الرجال.. حتى النيران بدأت تصل إلى منزل أحد الأهالي.. والذي كان قريبٍ من " ليال ".. وصل إليها صراخ النساء والأطفال لتشعر بشيءٍ ما يزلزلها من الداخل..
نظرت أمامها إلى كل شيءٍ حولها يحترق.. ورائحة الدماء تفوح بالمكان.. لقد كانت مجزرة فعلية.. ولم تستطع أن تترك هؤلاء الضعفاء يموتون بسبب شخصٍ ما مريض قرر أن يؤذي عائلتها..
ركضت نحو المنزل المذكور دون أن ينتبه إليها أحد.. كانت النيران قد ألتهمت البوابة الأمامية بطريقها إلى الأعلى.. بحثت عن ثغرة ما تدخل منها وبالفعل وجدت واحدة لم تصل إليها النيران بعد تؤدي إلى سلم داخلي صغير لكنه سيصل بها إلى من بالداخل..
ركضت نحو تلك الثغرة ثُم أقتحمت المنزل وصعدت السلالم الصغيرة حتى وصلت إلى مطبخ علوي ومنه إلى المنزل من الداخل.. لتجد ثلاثة فتيات صغار وبجانبهن أمهن تحتضنهن وهي تبكي هلعٍ..
أقتربت منهن قائلة بنبرة هادئة إلى حد ما تحاول بث الطمأنينة بهن:- شششش، إهدوا إهدوا، مفيش حاجة وحشة هتحصل.
هتفت الأم بلوعة قائلة:- أبوس إيديك أنقذي ولادي، النار هتاكل كل حاجة.
هتفت " ليال " قائلة بقوة وهي تحمل أصغر الفتيات:- متخافيش، أنا معاكم وهخرجكم من هنا.
سيرن معًا نحو باب الشقة لكن بمجرد أن فتحته وجدت النيران تندفع بوجههن كالقنبلة.. تفاجأن بأن النيران أكلت السلالم بأكملها..
أغلقت الباب سريعٍ ثُم توجهن نحو باب المطبخ الداخلي فتحته وكادت أن تترجل من على السلالم عندما لاحظت أن النيران بدأت تأكل الدرجات الأولى منها.. لم تجد بد من أن تترجل عليه وقبل أن تصل إلى النيران بعدة درجات ستجعلهن يقفزن إلى الأسفل..
وبالفعل نفذت فكرتها سريعٍ عندما قفزت الأم أولًا وقد كانت مسافة ليست بالقليلة لكنها تحاملت على نفسها من أجل أبنائها.. وبدأت " ليال " ترمي لها الفتيات واحدة تلو الأخرى.. وعندما حان دور الصغيرة أنفجر عداد الكهرباء بقوة مما جعل النيران تندفع إلى الأعلى سريعٍ.. صرخت الصغيرة بهلعٍ لكن الأخيرة أحتضنتها ثُم حملتها وركضت بها إلى الأعلى..
دلفت إلى المنزل من جديد ووقفت وهي تحاول أن تفكر في مخرج من هذا المأزق.. لكن النيران كانت قد حاوطت كل شيءٍ حولها.. حتى بدأت تختنق هي والصغيرة التي معها..
فقدت الصغيرة وعيها بين ذراعيها.. فشعرت بأن قواها قد خارت هى الأخرى فسقطت أرضٍ وهي تحاول أن تتماسك لكن لم تتحمل وفقدتها وعيها هي الأخرى..
وبين الوعي واللاوعي رأت باب المنزل ينكسر ومدافع ماء تضرب بالنيران لتنطفيء.. لكن كل ما جذب أنتباهها بتلك اللحظة هو " عاصي " الذي يقتحم المنزل وهو يحمل سلاحه يتبعه عددًا من رجاله.. وقد كانت ملامح الهلع تُسيطر على وجهه كليًا..
بتلك اللحظة أغمضت عينيها بإرتياح وهي تتمنى أن يكون وجوده حقيقة.. فهي قد إشتاقت إليه حد اللعنة..
-------------------------------
وأخيرًا أنتهت ليلة حزينة بائسة على الكثير.. مذبحة قد حدثت بليلة مظلمة وبزغ فجر يوم جديد.. يوم يحمل رائحة الحزن والموت.. لم يحدث شيءٍ للأهالي لكن سقط الكثير من رجال الحراسة الأوفياء لعائلة " العفريت "..
كانت " ليال " بغرفتها متسطحة على ظهرها على فراشها تحاول أن تفتح عيناها وعندما نجحت أزعجها ضوء الصباح الذي ضرب عينيها مباشرة..
رمشت عدة مرات حتى أستطاعت أن تفتحها دون ألم ثُم بدأت تحاول تنهض من على الفراش.. شعرت بأن جميع أجزاء جسدها تؤلمها بقوة.. لكنها تحاملت على نفسها ونهضت ثُم خرجت من غرفتها.. وجدت والدتها أمامها والتي بمجرد أن رأتها حتى عانقتها بقوة وهي تتحمد سلامتها..
ربتت " ليال " على ظهرها قائلة بهدوء مُتعب:- الله يسلمك يا ماما، حد حصله حاجة.؟
هتفت السيدة " لطيفة " قائلة بدموع:- لا كلهم كويسين وقاعدين تحت مع جدك.
تحركت معها " ليال " إلى الأسفل وفور أن وصلت سمعت صوت جدها يهدر قائلًا بجدية:- اصرف تعويضات يا " منعم " كويسة لأهالي الحراس اللي ماتوا دول، وأي شيء يحتاجوه بعد كدة بقا في رقبتنا، الناس دي ماتت وهي بتفدينا.
اومأ لهُ " منعم " قائلًا بهدوء حزين:- حاضر يا حاج، ربنا يرحمهم ويصبر أهلهم.
نهض " زين " من مكانه قائلًا بخفوت هاديء:- همشي أنا عشان يدوب الحق الغي كل حاجة.
هتف والده قائلًا بتساؤل:- قولت لخطيبتك إن الفرح هيتأجل.؟
_لا لسة، هروح عندها عشان أبلغها هي بتتصل من الصبح أصلًا ومعرفتش أرود عليها غير مرة.
كاد أن يرحل عندما أوقفه جده قائلًا بصرامة:- مفيش حاجة هتتلغي أو هتتأجل.
نظر إليه الجميع بصدمة ليستكمل هو حديثه قائلًا بنفس النبرة:- فرح إبن " العفاريت " مش هيتلغي ولا يتأجل، نحمد ربنا إن محدش فيكم إتصاب، وإذا كان على الخسارة المادية تتعوض، والرجالة وأهلهم هنعوضهم، لكن مش هنول اللي عمل كدة مراده والغي فرح حفيدي الكبير عشان اللي عملها يفرح فينا.
كان حديثه صحيحٍ وبالنهاية حتى إذا كان هناك معارض لن يستطع أحد أن يتجرأ ويعارض رأي كبير " آل عفريت "..
كانت " ليال " تتابع كل شيءٍ بصمتٍ تام.. صورته وهو يقتحم المنزل تضرب بعقلها ولا تفارقها منذُ أن استيقظت.. كانت " روان " تقف بجانبها فقررت أن تسألها فهتفت قائلة:- هو مين فيكم اللي طلعني من البيت دة إمبارح.؟!
نظرت إليها " روان " بغموض قائلة:- " عاصي " هو اللي طلعك، وأول ما وصلنا هنا وطلبنا الدكتور وطمنا عليكِ أختفى.
تسارعت ضربات قلبها بجنون.. لقد ظهر لينقذها.. لكنه أختفى مجددًا..
----------------------------------
أشرقت أشعة شمس النهار أخيرًا.. وأنتهت ليلة حزينة ليبدأ يومٍ جديد يحمل بين طياته الكثير.. وبمكانٍ مكتظ بالناس كالجامعة التي تدرس بها " حبيبة " تجلس الأخيرة بقاعة المحاضرات بجسدها فقط لأن عقلها بمكانٍ أخر.. مكانٍ لا تنفك تفكر بهِ مرارًا وتكرارًا.. لا تنفك تُفكر في علاقتها بـ " جواد ".. علاقة هي متأكدة بنسبة مليون بالمائة أن لا أحد سيخرج منها خاسرًا سواها.. فالأمير المُدلل أُعجب بالفتاة الفقيرة وقرر أن يتسلى معها تحت بند الزواج.. وعندما يأخذُ غرضه منها سيُلقي بها أمام باب قصره العاجي.. لكنها ليست الفريسة السهلة التي سيمضغها الأمير الوسيم ثُم يلفظها.. تعلم أنها قادرة على محاربته لكن لديها حربٍ أخرى تريد أن تتفرغ لها.. حربها مع الوغد " ماهر المهدي " قاتل والدها.. لم يكن ينقصها شخصٍ مثل " جواد " الأن يريد أن يتسلى فقط..
عادت من شرودها على إنتهاء المحاضرة وخروج زملائها من القاعة.. زفرت بضيقٍ بالغ لأنها لم تعُد تستطيع أن تُركز في دراستها بسبب حياتها العابئة بالمشاكل دائمًا..
فور خروجها من القاعة صدح صوت رنين هاتفها المحمول.. كانت المتصلة والدتها لذلك أجابت على الإتصال سريعٍ خشية أن يكون قد أصابها مكروهً.. لكن وصلها صوت والدتها السعيد وهي تزف إليها أجمل الأخبار قائلة بسعادة وحماس بالغين:-مبروك ياقلب أمك، " جواد " لسة قافل معايا دلوقتي وحددنا معاد عشان يجي هو وأهله يطلبوكِ، جاين بكرة إن شاء الله.
توقفت مكانها بصدمة.. وشعرت أن الأرض تُميد بها.. هل قرارًا اتخذته بلحظة غضب وقهر أصبح حقيقة الأن.. هل وقعت بين قبضته أم ماذا..!!
-------------------------------
على الجانب الأخر كان يجلس " جواد " مع صديقه " قُصي " بأحد الكافيهات العامة.. هدر الأخير قائلًا بسعادة:- الف مبروك يا " جواد "، ربنا يتمملك بخير.
هدر " جواد " قائلًا بنبرة سعيدة:- الله يبارك فيك يا " قُصي "، وعقبالك إن شاء الله، تقريبًا مبقاش فاضل غيرك أهو.
ضحك الشاب ضحكة رجولية خشنة قائلًا:- ياعم بعد الشر عليا، أنت عاوزني أدخل القفص برجلي ولا إيه.!
سخر منهُ صديقه قائلًا:- إيه ناوي تعيش عازب ولا إيه.!
_طبعًا، أنا أحب أعيش حُر، زي الطير يوقف على كل شجرة شوبة، ياخد حلاوتها ويطير يشوف شجرة تانية.
ضحك " جواد " بشدة وهتف قائلًا بمرح:- اتنيل على عينك، دة أنت الست الوحيدة اللي في حياتك أمك.
شاركه " قُصي " الضحك قائلًا:- عيب عليك أنا كنت خاربها في بلاد الفرنجة.
وبعد دقائق من الضحك والمرح هدر " جواد " قائلًا بإبتسامة خفيفة:- صحيح كنت عايز أخد رأيك في حاجة.
_حاجة إيه.!
أجاب " جواد " قائلًا بجدية:- إيه رأيك لو تمسك شغل الشركة بتاعتنا القانوني كله.؟
عقد " قُصي " حاجبيه بتعجب قائلًا:- شغل الشركة كله، ليه أمال المحامي اللي عندكم راح فين.؟
تنهد " جواد " قائلًا بضيق:- طلع حرامي يا سيدي، سلم ملف مهم في الشركة لشركة تانية منافسة لينا، لولا " چيداء " الله يباركلها سيطرت على الموقف في أخر لحظة.
أنتبهت جميع حواسه عند ذِكر إسمها.. منذُ مدة طويلة لم يراها.. وعلى الرُغم من أنها تشغل حيزًا كبيرًا من تفكيره لكنه يخشى أن يقترب منها.. فهي بالنهاية شقيقة صديقه المُقرب.. ولا يعلم ما مدى خطورة هذا الأقتراب إن حدث..
هتف قائلًا بجدية:- والله يا " جواد " شغل المكتب تقيل أوي عليا، ومش هقدر أستلم شغل جديد دلوقتي خالص.
أطرق " جواد " برأسه قليلًا يفكر في حل لهذه المعضلة ثُم نظر إلى صديقه قائلًا بجدية:- طب إيه رأيك لو مسكت الشغل في الشركة ٣ أيام بس في الأسبوع، واختار الأيام اللي على مزاجك، وأنا هشوف حد معاك يكون تحت إشرافك أنت يساعدك.؟
ضحك " قُصي " بخشونة قائلًا:- دة أنت مصمم بقا.؟
هدر " جواد " قائلًا بجدية بالغة:- مش هلاقي حد غيرك أثق فيه، وكمان أنت عارف إني مش بروح الشركة غير في إجتماعات العيلة الضرورية بس، فهكون مرتاح وأنت شغال معاهم هناك، ومعاك " عاصي وچيداء " هيوفروا ليك كل اللي تحتاجه.
للمرة الثانية يرتجف قلبه لذكرها.. وعلى هذا الأساس تنهد قائلًا بثُقل مصطنع:- أمري لله، موافق.
---------------------------------
شعورك بالذنب نحو ذنوبك ينبعث من صوت ضميرك، لكن إذا أراد الله أن يُسلط عليك الدُنيا حينها لا تجد صوتٍ لضميرك يُنبهك لعاقبة أفعالك.. يتركك الله لتغتر بنفسك ولا تجد من يقف لكَ.. وعندما تأتي لحظة العقاب لن تجد من يُساعدك على النجاة.. حتى شيطانك الذي وسوس لكَ..
_يعني إيه يا " عابدين " الكلام دة، أنت مُدرك أنت بتقول إيه.؟
هدر بتلك الكلمات المُنفعلة " ماهر المهدي " رجُل الأعمال المعروف بنزاهته وكفاحه لسنواتٍ حتى وصل إلى هذه المكانة الكبيرة بالمجتمع.. لكن ما لا يعلمه أحد أن كل ما وصل إليه بسبب سرقته لميراث شقيقته الذي يبلغ ملايين ثُم لفظه لها من العائلة حتى لا تفضحه بين الناس.. كان يعلم كم أنها طيبة القلب صاحبة مرض أيضًا ولن تجروء على الوقوف أمامه وطالبته بحقها.. لكن لم يكُن يحسب حسابٍ لإبنتها الشيطانة الصغيرة..
أجابه " عابدين " قائلًا بنبرة هادئة:- أنا مش شايف أي غلط في اللي بقوله يا باشا.
هدر " ماهر " قائلًا برُعب:- أنت غبي، بقولك بنت " نجوى " هتتجوز ظابط في الجيش، ومش أي واحد دة ابن عيلة " السُليماني "، يعني بقا ليها ضهر تتحامى فيه، أنا قولتلك من أول ما أنقذها نخلص منها ونرتاح أنت اللي رفضت وفضلت تطمن فيا لغاية ما البت وقعته، وهنروح فيها إحنا.
أبتسم " عابدين " إبتسامة خبيثة تفضح مدى سوء نفسه قائلًا:- ولا هنروح فيها ولا حاجة، أنت بس اللي مكبر الموضوع، دة واد غني ومعاه فلوس بالملايين، شاف البت عجبته، وأنت عارف بنت أختك ماسكة في الشرف والعبط دة، تلاقيه عرف إن سكتها الجواز بس فقال يتجوزها شوية ويتبسط معاها وبعدين هيرميها.
_مش مقتنع باللي أنت بتقوله، أفرض بيحبها، وقرر يساعدها وينتقم مننا، ولا بقا المصيبة الأكبر " نجوى " قلبها يقوى بسبب الجوازة دي وتقرر تطالب بورث أبوها، وقتها هتبقا مصيبة مش هنعرف نلمها.
ضحك " عابدين " بقوة قائلًا بإستهزاء:- يحب مين يا باشا، هي بنت أختك دي تتحب، صدقني هو زي ما بقولك كدة، الواد عجبته البت، وهيقضي معاها يومين ويكرفلها، ويادار ما دخلك شر.
هدر " ماهر " قائلًا بتوجس:- برضه مش مرتاح.
زفر " عابدين " بضيق قائلًا:- طب إيه اللي يريحك دلوقتي وأنا أعمله.!
أطرق " ماهر " برأسه يفكر قليلًا ثُم نظر إليه قائلًا بنبرة قاتمة:- الجوازة دي لازم تبوظ بأي تمن.
صمت " عابدين " قليلًا يُفكر في حديثه.. ويحسب حساب لكل خطوة سيُخطيها الأيام القادمة.. نظر إلى سيده قائلًا بنبرة لئيمة:- نبوظها، بس سيبلي أنا المهمة دي.
وهكذا اتفقا أثنان من الشياطين سويًا.. دون أن يعبئا بعاقبة أفعالهما..
--------------------------------
شِـدنـي غـمُـرنـي..
مـن الـفـرحـة قـلـبـي..
واقِـف نـاسـي..
إنُـه يـدِق..
إذا مـعَـک مـا بـكـون..
أنـا مـا بـدي كـون..
وإذا حـدک مـا بـعـيـش..
هـلأ بـدي مـوت..
صدحت كلمات تلك الأغنية الرومانسية بقاعة الزفاف المُقام بها زفاف أكبر أحفاد آل " عفريت " على " فلك " الفتاة البسيطة سائقة التوك توك..
حالة من السعادة والحماس مُنتشرة بالأجواء.. وسُبحان مُغير الأحوال.. الليلة الماضية كانت ليلة الموت.. وهذه الليلة ليلة الفرح.. ليلة ولِدت بها مشاعر جديدة لم يكُن أصحابها يعلمون عن وجودها شيءٍ..
مرت دقائق والجميع يترقبون نزول العروس بصحبه الشيخ " جمال ".. وبعد لحظاتٍ قليلة صدحت موسيقى كلاسيكية راقية بالمكان تُعلن عن نزول العروس.. تحرك العريس بإتجاه السلالم التي ستترجلها عروسه ليتسلمها من وكيلها..
جميع العائلة من خلفه يقفون يتطلعون نحوه بسعادة.. سعادته تبدوا عليه كوضوع الشمس.. بينما والدته تبكي سعيدة لسعادة نجلها الأكبر..
لحظاتٍ أخرى وظهرت العروس.. أو الحورية.. أقل ما يُقال عنها حورية سقطت من السماء وكان هو صاحب الحظ الأجمل على الإطلاق وتلقاها بين أحضانه..
تجمد " زين " بمكانه مصدومٍ مشدوهًا من مدى روعتها.. ترتدي فستانها الأبيض والذي يبدوا وكأنهُ صُنِع خصيصٍ لأجلها.. فستانٍ باللون الأبيض.. من خامة الستان الناعم.. ضيق قليلًا من منطقة الصدر ومُطعم بطبقة من التُل الخفيف عند تلك المنطقة.. وقد تناثرت عليها بعض النجمات الصغيرة الرقيقة.. ثُم ينزل بإتساع كبير إلى الأسفل ويُحاوط القماش الستان طبقتين من التُل الناعم الخفيف.. وعلى الأطراف تتناثر نفس النجمات الرقيقة وبعض اللؤلؤ الصغير.. بينما الأكمام كانت واسعة قليلًا ثُم تنتهي بإتساع كبير وتنتهي أطرافها ببعض حبات اللؤلؤ.. قامت مصففة الشعر بترك شعره العروس منسدلًا على ظهرها بنعومة لكنها تركت بهِ بعض التموجات الرقيقة.. كما أنها زينته بتاجٍ بسيطٍ مرصع بالنجمات الصغيرات ليليق مع الفستان.. كما أن زينة الوجه كانت باللون الزهري الفاتح الرقيق..
كانت " فلك " لا تصدق مدى جمالها.. عندما نظرت إلى هيئتها الأخيرة بالمرآة لم تُصدق أنها بكل هذا الجمال والبهاء.. لقد فاق جمالها ليلة الخطبة.. اليوم هي عروس بحق.. وليست أيّ عروس.. بل هي عروس إبن العفاريت " زين العفريت "..
كانت تتأبط ذراع الشيخ " جمال " وتترجل معهُ السلم بهدوء.. دمعت عيناها عندما سمعته يتلو بعض أيات الذِكر الحكيم.. ويدعوا لها بالصلاح والتوفيق.. تقسم لو أن والدها كان هنا لكان الأن يُملي عليها خطته في الإستيلاء على أموال عريسها..
نفضت عنها التفكير بذلك الشخص الأن.. هي سعيدة.. رُغمٍ عن كل شيءٍ هي سعيدة.. لقد جعلها " زين " تعيش سعادة لم تكن تتوقع أنها بأقصى خيالاتها جموحٍ ستعيشها.. كما أنها بعد أن وصل إليها حادثة الأمس شعرت بضربات قلبها تنتفض خوفٍ عليه.. أرتعبت لمجرد التخيل أن يكون قد أصابه مكروهً.. ولم تهدأ حتى أجاب على هاتفه وطمأنها أنه بخير..
ومن بعدها لم تملك أن تجلس وتفكر في ماهية مشاعرها تجاهه.. لقد حدث كل شيءٍ سريعٍ.. والزفاف الذي توقعت أن يؤجل لم يؤجل.. وها هي تقف أمام " زين " وهو يتسلمها من الشيخ الذي أوصاه عليها.. لكنها استمعت إلى همهمة خشنة من إبن العفاريت كأنها موافقة أو شيءٍ من هذا القبيل..
رحل الشيخ لينضم إلى صفوف المعازيم وتركها معه.. تجرأت ورفعت أنظارها إليه.. وللمرة الأولى تشعر بمثل هذا الخجل من نظرات أحدهم.. نظرت إليه بزيتونيتها البريئتين.. بينما هو يناظرها بسوداويته المُشتعلتين..
شهقت بخفوت عندما حاوطتها ذراعيه وألقتها على صدره بين أحضانه فعليًا ثُم طبع قُبلة خشنة على رأسها.. أغمضت عينيها بإستمتاعٍ.. لقد كانت قبلة دافئة.. دافئة جدًا.. لم تحظى بمثلها من قبل.. ضربات قلبها تكاد تصل إلى جميع من بالقاعة.. تحاول أن تهديء نفسها وتخبرها أن إبن العفاريت أصبح زوجها.. لقد عُقِد القران قبل قليل.. ولا ضرر من تقبيله لها الأن..
أبتعد عنها قليلًا دون أن يُفلتها من بين أحضانه.. وتقابلت نظراتهما معًا.. ثُم سمعتهُ يهمس بنبرة أجشة دافئة قائلًا:- مـبـروك يـا أجـمـل عـروسـة شـافـتـهـا عـيـنـي.
انتفض قلبها تأثرًا من مدى روعة جملته.. هل يراها جميلة حقًا..! ولما لا..! هي أيضًا ترى نفسها آية في الجمال..
جعلها تتأبط ذراعه ثُم سار بها نحو القاعة وسط تهليل وتصفيق وزغاريط الحضور.. بينما هو كان يسير وعلى وجه إبتسامة نصر.. لقد أنتصر الذئب بالنهاية وحصل على الغزالة..
-------------------يُتبع--------------