أخر الاخبار

رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل ٢٢

العفاريت 

رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل ٢٢


رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل ٢٢
                        *شـبـح الـمـاضـي بـاقٍ*                         



أزهـار المـاضـي ذابـلـة.. 
نـبـضـات قـلـبـي صـامـتـة.. 
لـمـسـات بِـتـلاتـي خـامِلـة.. 
إمـا عَـن أوجـاعـي فـهـي حـيـة بـاقـيـة.. 

هل كنتَ تعلم أن الأنتقام لا يَقتِل إلا صاحبه.؟ 
-نعم أعلم. 

هل تعلم كم روحٍ بريئة أزهقت وأنت تنتقم.؟ 
-نعم أعلم. 

هل تعلم عاقِبة أفعالك.؟ 
-نعم أعلم. 

إذًا ما الذي دفعک لفعل ما فعلته وأنت مُدرك للعواقب.؟ 
-عندما تجتمع الذكريات حية بعقلك مع أشباح الماضي اللعين يرافقهم إحساس مرير بالذنب يكون العَيش مع روحٍ معطوبة وقلبٍ مكلوم قاتِل. 


أبتعد " تيمور " عن سور البناية وقام بتفكيك سلاحه مجددًا وبسرعة ثُم وضعه في حقيبته وألتفت ليُغادر.. لكن تجمدت قدماه بأرضهما فور أن وقعت عيناه عليها تقف خلفه بكامل هيئتها الأنيقة تنظر إليه بصدمة.. شحوب.. عدم تصديق.. وسؤال واحد يطوف بعقلها.. هل وقعت هي وعائلتها بين أيادي قاتل..؟! 

الندم ينتظر اللحظة المُناسبة لينقض عليك ويفترسك كوحشٍ مُفترس وجد فريسة سهلة بالبرية.. الندم يزحف إلى قلبها الأن ببطءٍ وها هي تشعر بهِ يتأكلها من الداخل.. كيف وقعت في فخ القاتل..! لماذا تهورت تلك الليلة وقدمت لهُ المُساعدة..! ولم تكُن مجرد مساعدة عابرة بل صنعت لهُ حياة بين عائلتها.. لو لم تساعده تلك الليلة لكانت الأن بأمان هي والعائلة.. لكن بماذا تُفيد كلمة " لو " و " لو " دائمًا كانت من وسوسات الشيطان.. 

أنتبهت إليه يتحرك نحوها وهو يتفرس في ملامحها الجامدة.. وعلى الرُغم من الظلام حولهما لكنه استطاع أن يرى ملامحها المصدومة أسفل ضوء القمر.. 

هو أيضًا لم يكُن أقل صدمة منها.. لم يكُن يتوقع أن تنكشف حقيقته بتلك السُرعة وعلى يدها هي.. هي دونٍ عن الجميع.. 

وقف أمامها بطوله الفارع وجسده الضخم قائلًا بهمسٍ خافت:- " روان ".! 

أنتفضت كمن لدغتها عقربة وهدرت قائلة بقسوة:- أوعى تنطق إسمي على لسانك، أنا ميشرفنيش إن واحد قاتل زيك ينطق إسمي. 

تجمد من قسوتها المُفاجأة لكنه كان يتوقعها.. خلال الفترة الماضية كان يُراقبها ويعرف أي شخصية صلبة.. قاسية -وقت اللزوم- هي.. لم تكُن شخصية ناعمة.. رقيقة ستبكي بموقف مثل هذا وتركض وتتركه.. لا " روان العفريت " تختلف.. 

وكما توقع هدرت قائلة بنبرة قاتمة:- دلوقتي حالًا هتقولي كل حاجة وإيه مصلحتك من التمثلية الرخيصة اللي عملتها علينا دي. 

تحدث سريعٍ قائلًا:- هقولك كل حاجة بس لازم نمشي من هنا. 

نظرت حولها وتأكدت من صحة حديثه لكن الثقة بينهما زالت بعدما رأته الأن.. لذلك وبدون تردد كانت تسحب سلاحها بحركة خاطفة من بين ملابسها وتوجهه نحوه ثُم هدرت قائلة بصرامة:- قدامي. 

لن ينكر أنها صدمته بردة فعلها لكنه بالتأكيد لم يخشاها هي أو سلاحها بل على العكس وجد نفسه يبتسم.. يبتسم لأنهُ تذكرها بليلة الحادث وهي تُطلق النيران على الأشخاص الذين كان يتقاتل معهم وتركض نحوه وهي تُشهر سلاحها بكفاءة صدمته حينها..  وتساءل من هي..؟ 

عقدت حاجبيها بإستغراب عندما لمحت إبتسامته لكنها فهمتها سريعٍ لذلك هدرت قائلة بنبرة قاتمة:- بلاش تستخف بيا لإنك لسة متعرفش أنا أقدر أعمل فيك إيه. 

لم تختفي إبتسامته بل توسعت أكثر قائلًا بخفوت:- مش بستخف بيكِ إطلاقٍ، وعارف إنتِ تقدري تعملي إيه كويس، يلا بينا من هنا ونزلي سلاحك دة، أنا مش هاكلك. 

نظرت إليه بإستهزاء وأنزلت سلاحها قائلة:- لا والنبي أنا خايفة تاكُلني بجد. 

تحركت أمامه وهي متأهبة لأية حركة غدر منه لكنها لم ترى نظرات الحنان التي يتأملها بها وهي تسير أمامه بكل هذا الثبات.. وكأنها مُعتادة على الأمر.. عندما وصلا إلى الطابق الأخير لمح " تيمور " سيارة تمُر من أمام البناية ومن بداخلها يتأمل المنطقة من حوله.. وسريعً كان يلتقط معصمها ويسحبها نحو زاوية بعيدة عن عيون المُترصدين.. شهقت " روان " بصدمة عندما وجدت نفسها بلحظة بين أحضانه.. كان يقف مواجهًا لها يُحاصرها بينهُ وبين الحائط.. عيناه تتفحص الشارع بالخارج بينما هي تائهة في رائحته الرجولية التي جعلتها تثمل.. للمرة الأولى بحياتها تكون قريبة من رجُل غير أشقائها إلى هذا الحد.. شغور غريب ينتابها الأن لم تختبره مسبقٍ.. ضربات قلبها مُتأثرة بقربه وتتسارع بداخلها توترًا.. تأملته كيف يتفحص المكان حتى يتأكد من أمنه.. لكن بالثانية التالية كان يوجه نظراته نحوها.. وياليته ما فعل.. برقت عيناها البندقية ببريقٍ آخاذ.. وتسمرت بمكانها عندما التقت نظراتها البراقة بعيناه الزرقاوتين كأمواج البحر.. بحر هادر أمواجه عنيفة ليس بهاديء ولا مُسالم.. بل قادر على إبتلاعها إن تركت مجاديف قاربها الصغير وسُحرت بزرقة مياهه.. 

بينما هو لم يكُن أفضل حالًا منها.. منذُ سنواتٍ وقد قرر أن يعتزل طريق الحُب والغرام.. واتخذ طريقٍ الأنتقام مذهبٍ.. وهو لمذهبه عابدًا.. مُطيعٍ.. يُنفذ ما يُمليه عليه شيطانه دون أن يعبأ بالعاصفة التي من المُمكن أن تبتلعه.. لكنها مُختلفة.. تثيره.. تثير حيرته.. و.. ورغبته.. 

أنتبه عليها وهي تفلت نفسها من بين حصار أحضانه وتتحرر قائلة بجمود وهمي تُحاول أن تخفي بهِ رعشة جسدها و.. وقلبها:- كفاية تضيع وقت وخلينا نمشي. 

اومأ لها بشرود وأشار لها لتتقدمه إلى السيارة.. وصلا إلى سيارته أولًا فتوقفت ثُم التفتت إليه قائلة بنبرة صلبة:- أسمع أنا معنديش دلوقتي وقت أعرف حكايتك إيه، لازم أكون في الخطوبة قبل ما حد ينتبه إني مش هناك، ومتهيألي أنت كمان كنت رايح.! 

هتفت بسؤالها وهي تُشير إلى السيارة التي تخُص شقيقها والذي تركها لهُ ليذهب بها إلى خطبته.. اومأ لها بهدوء فهدرت هي تستأنف حديثها قائلة:- النهاردة بعد الخطوبة هيبقا لينا كلام تاني. 

ودون أن تُعطيه فرصة للرد كانت تلتفت وتسير بثبات نحو سيارتها.. استقلت السيارة ثُم قادتها سريعٍ نحو حفل الخطبة.. وهي تدعوا الله أن لا يكون أحد قد أنتبه على غيابها.. وأن يكون ما رأته بأم عيناها منذِ دقائق قليلة مُجرد كابوس مُريع وستستيقظ منهُ لتجد أن الأمور بخير.. 

---------------------------------------

منذُ قديم الأزل والحياة بين بني أدم وبنات حواء تُشبه لعبة الفريسة والصياد.. الرجال بطبيعتهم عاشقين للصيد.. وعندما يجد الصياد فريسته يبدأ يحوم من حولها.. ينسج شِباك فخه.. ويُحكم الطوق من حولها.. حتى تأتي اللحظة المُناسبة وينقض الصياد على الفريسة وهكذا تقع بين أنيابه.. أو.. أحضانه.. 

كان هذا ما يشعُر بهِ " زين " وهو يجلس بصالة منزل " فلك " برفقة جده وكبير العائلة وباقية أفرادها بجانبه.. يجلسون في ضيافة الشيخ " جمال " الذي أستقبلهم بترحاب شديد.. بينما السيدة " عزة " زوجته مع " فلك " بغُرفتها منذُ ساعات.. 

هتف الشيخ " جمال " قائلًا بترحاب:- نورتوا البيت يا حاج " مختار " أحنا زادنا شرف بالزيارة دي. 

اومأ لهُ الحاج " مُختار العفريت " قائلًا بإبتسامة وقورة:- البيت منور بيك وبأصحابه يا شيخ " جمال " والشرف لينا أحنا. 

استمرت بعض الجمل الترحيبية بينهم وبعض الدردشات القصيرة بغرض التسلية حتى تأتي العروس.. 

بداخل غُرفة " فلك " تجلس أمام مرآتها الجديدة ككُل شيءٍ بالمنزل.. تتأمل نفسها وهي ترى نفسها أصبحت جديدة مثل كل شيءٍ هنا.. ترتدي الفُستان الذي اختاره لها ابن العفاريت كما تُحب تسميته.. تتذكر ما حدث معها صباح هذا اليوم العجيب والذي لم ينتهي بعد.. 

فــــلاش بــــاكـ

نائمة وكأنها بغيبوبة ما.. لا ترغب في أن تستيقظ وترى أنها مازالت ببلدها.. أحلامها لقد دمرها ابن العفاريت وأنتهى الأمر.. ضاعت أموالها التي ذاقت الآمرين لتحصل عليها.. وضاعت حماستها بأن تُسافر وتهرب من هُنا تاركة كل شيءٍ خلفها.. ومن بين الوعي واللاوعي كان هُناك صوتٍ مُزعج يتسلل أحلامها.. دقيقة مرت وأخرى يليها حينها بدأت تستوعب أن هُناك من يقوم بطرق باب منزلها وعلى وشك تحطيمه.. انتفضت من فراشها الناعم المُريح وهي تلعن الطارق لأنهُ اضطررها أن تترك الفراش ثُم توجهت خارج الغرفة لتفتح الباب على مصرعيه وهي عابسة الوجه.. مُشعثة الشعر.. زال العبوس من على وجهها وتحول إلى صدمة جمة وهي ترى السيدة " عزة " تقف أمامها بجلبابها الأسمر وحجابها بنفس اللون والذي يُنير وجهها البشوش..تبتسم لها إبتسامة حنونة.. سعيدة لما وصلت إليه أمورها.. لكن صدمة " فلك " لم تكن بسبب وجود المرأة بل لأن هُناك مجموعة من النساء يقفن خلفها ولا يبدوا عليهن أنهن من الجارات.. بل يرتدين زيًا موحدًا لتوكيلًا ما.. بنفس تصفيفة الشعر والمكياچ.. يحملن حقائب فضية اللون متوسطة الحجم.. يقفن ينظرن إليها بإبتسامة رسمية بحتة.. 

=صباح الفل على عيون عروستنا الحلوة، كل دة نوم يا عروسة.! 

تغاضت عن كلمة " عروسة " التي لم تقتنع بها حتى الأن وهمست قائلة بذهول:- صباح النور يا خالتي، مين دول.! 

ضحكت المرأة ببشاشة قائلة بسعادة جمة:- دول فريق التجميل اللي هيطلعوكِ النهاردة زي البدر في تمامه، وفي زيهم تحت بس رجالة هينزينوا البيت والحارة كلها من أولها لأخرها، مش النهاردة خطوبتك ولا إيه يا عروسة.! 

تراجعت خطوتين إلى الخلف بملامح مصدومة من هول ما تسمعه بأذنيها الأن.. ثُم همست قائلة بعدم تصديق:- هو ابن المجنونة صدق نفسه.! 

=بتقولي إيه يا " فلك ".! 

أنتبهت إلى ما قالته ولم تعرف بما تُجيب.. هدرت حينها السيدة " عزة " قائلة بحماس وهي تفتح الباب للفريق ليدخلن:- طب وسعي كدة ويلا بينا نبدأ عشان مفيش وقت نضيعه، يلا يابنات أتفضلوا 

نظرت "فلك " إلى الساعة المُعلقة على الحائط لتراها الثامنة صباحٍ.. إذًا لماذا لا يملكن الوقت.. ما الذي سيفعلونه بكل هذه الساعات..! 

لكن مهما تخيلت وتوقعت ما سيحدث لم يكُن مثل ما حدث.. ففي الساعات التالية بدأت بحمام دافيء لكنهُ ليس كحمامها المُعتاد.. بل حمام بروائح كثيرة نفاذة وغريبة.. ويضم العديد من المراحل والتي لم تكُن تعلم عنها شيءٍ.. وعلى الرُغم من أن " فلك " فتاة تهتم بالنظافة الشخصية وتتحمم يوميًا إلا أنها شعرت بنفسها تُضيء حرفيًا.. 

وبعد الحمام الدافيء العجيب مرت بعدة مراحل تجهيزية نسائية بحتة شعرت بنفسها بعد ذلك وكأنها خلعت جلدها وارتدت جلد ثانٍ أكثر نظافة ولمعانٍ.. 

بــــــاك.. 

أنتهى يومها مع فريق التجميل قبل دقائق من وصول " زين " وعائلته.. وها هي تجلس أمام مرآتها تتأمل نفسها وهي ترتدي فُستان " زين " والذي جعلها كالأميرات.. تضع بعض الزينة الرقيقة والتي أضفت على ملامحها جمالًا خاصٍ.. خصلات شعرها الشقراء بتموجاتها الهادئة كما هي لكنها لامعة.. ناعمة.. ويُزين رأسها طوق صغير ورقيق فضي اللون.. وبالطبع لم تجعلها السيدة " عزة " تنسى أن ترتدي طقم الذهب الأبيض الذي أحضره هو.. فأضفى على هيئتها أناقة من نوعٍ خاصٍ.. كانت تبدوا كنجمات السينما لكن ملامحها الطبيعية دون عمليات تجميلية أو زينة وجه مُبالغة أعطتها مظهرًا بريئًا.. رقيقٍ.. أنيقٍ.. 

عادت من شرودها المُنبهر بنفسها على صوت السيدة " عزة " التي هتفت قائلة بنبرة باكية وعينان تترقرق بهما عِبرات السعادة:- الله أكبر عليكِ، عيني عليكِ باردة يابنتي. 

أبتسمت " فلك " بغير تصديق قائلة:- أنا مش مصدقة نفسي يا خالتي. 

أقتربت منها ووقفت خلفها قائلة بنبرة سعيدة وهي تُربت على كتفيها بحنانٍ:- لا صدقي ياقلب خالتك، ربنا جبر بخاطرك بعد سنين الشقى والحرمان اللي شوفتيهم، إنتِ دلوقتي داخلة مرحلة جديدة، إنسي اللي فات وابدأي من جديد، " زين العفريت " شكله وقع على جدور رقبته في حبك، وإنتِ في إيديك تكسبيه وتخليه ميقدرش يستغنى عنك، بالحب والمودة والرحمة، احتويه وهو هيعوضك عن كل لحظة دفى ضيعتها منك الدنيا دي. 

كلام السيدة " عزة " ضرب بعقلها كالرصاصة.. هل يُمكن أن تكون هذه هي نظرتها لتلك الزيجة.. هل ترى أن حياتها مع إبن العفاريت ستكون عادية.. هي بالأصل لا تثق بهِ واحد بالمئة.. ولا تعلم ما هدفه من هذه الزيجة الغير متوافقة كليًا.. 

نظرت إلى المرأة قائلة بخفوت:- إن شاء الله يا خالتي. 

بعد دقائق طلبت منها السيدة " عزة " الخروج وتقديم الضيافة لأهل عريسها.. سؤال أخر لمع بعقلها بتلك اللحظة.. تُرى كيف سيتعامل معها أهله..!! 

-------------------------

_بسم الله ماشاء الله، الله أكبر، إيه الحلاوة دي كلها، تعالي ياحبيبتي قربي مني.! 

هتفت بهذه الجُملة بنبرة تفوح منها رائحة الإنبهار والسعادة بهذه العروس رائعة الجمال التي أطلت عليهم وهي تحمل بين يديها صينية العصائر.. بينما وجنتيها يتوردان خجلًا.. لكن خجلها ازداد وتحول إلى دهشة عندما رأت ردة فعل والدته.. ردة فعل على رؤيتها حقيقية بعيدًا عن التصنُع.. كما أن ما صدمها هو شعورها بأن عائلته تبدوا كالكثير من العائلات العادية.. لا يوجد ملابس كاشفة للفتيات.. ولا بهرجة بباقية العائلة.. تبدوا عائلة طبيعية.. 

كانت تقف تنظر إلى الجميع بتوتر.. رهبة.. خجل.. الكثير من المشاعر تُسيطر عليها وهي عاجزة عن ترجمتها بتلك اللحظة.. أنقذها من الموقف عندما نهض " زين " مُقتربٍ منها ثُم وقف أمامها بطوله الفارع وتناول منها الصينية.. كانت تخشى أن تنظر في عيناه بتلك اللحظة.. تشعر أنها ستفقد وعيها الأن إن فعلتها.. لذلك نظرت أرضٍ بخجلًا يكسوها.. وضع " زين " الصينية على الطاولة الصغيرة المُستديرة التي تتوسط غرفة الصالون وهو يُجاهد نفسه حتى لا يُقبلها الأن.. رؤيته لها بنفس الفستان الذي اختاره لها قبل أيام جعلت ضربات قلبه تتقافز بين أضلعها وتهتف بهِ أن يُقبلها.. تمالك نفسه وجلس بمكانه عندما أشار لها الشيخ " جمال " قائلًا ببشاشة:- اقعدي جمب الحاجة يا " فلك " دي والدة " زين ". 

رفعت أنظارها نحوها لتراها تطلع بها بإنبهار فأطمئنت قليلًا ثُم اقتربت منها وجلست بجانبها.. وبتلقائية السيدة " سعاد " كانت تحاوطها بذراعيها وتحتضنها بحنانٍ قائلة وهي تطبع عدة قبلات على وجنتها:- الله أكبر عليكِ، زي القمر، أخر حاجة كنت اتوقعها إن الواد " زين " بيفهم في البنات واختار أحلى واحدة فيهم. 

ضحك الجميع على حديثها العفوي بينما هتفت " شهد " قائلة بمرح:- يا خالتو البت بقت شبه الطماطماية، وبعدين سيبي حاجة لابنك يقولهالها. 

لكزتها خالتها قائلة بمزاح وضحكة واسعة:- بس يابت أنا أقول براحتي، وبعدين إن شاء الله ربنا هيجعل في وشها القبول وتتفك عقدة لسانه وينطق زي البغبغان. 

وللمرة الثانية تنفجر الضحكات بالغرفة بينما هدر " زين " قائلًا بضحك:- يا أمي اسكتِ أبوس إيديك فضحتيني. 

قامت السيدة " لطيفة " بإطلاق زغروطة عالية أرتج على إثرها المنزل.. وبعد الكثير من الأحاديث الجانبية هتف الحاج " مختار " قائلًا بمودة:- قوم يابني أقعد جمب عروستك عشان تلبسها الشبكة. 

صُدمت " فلك " عند سماعها كلمة " الشبكة " لقد كانت تعتقد أن الطقم الذهبي الذي أحضره لها مع الفستان كانت الشبكة.. لكن واضح أنها كانت مُخطئة.. تحركت والدته من جانبها وجلس هو مكانها.. حينها تجرأت ورفعت أنظارها إليه.. هالها كم المشاعر بعيناه.. عاصفة.. تُقسم أن أقل ما تراه الأن هو عاصفة على وشك أن تبتلعها.. نظراته عميقة تسحبها نحو ظلماته ببطءٍ وهي تسير بهدوءٍ لكن يشوبه اللهفة نحوه.. 

تخشاه كثيرًا بقدر ثقتها من أنهُ لن يؤذيها.. هي ليست بساذجة حتى لا تعرف معدنه.. بكل أسف تقولها إبن العفاريت لن يؤذيها.. لكن ماذا تفعل بنفسها المعطوبة..! 

لن تستطيع أن تثق بهِ مهما فعل.. الأمر ليس بيدها.. هي فقط عانت كثيرًا بالماضي.. ولن تستطيع أن تثق فتُخذل.. 

بيومٍ ما كانت تثق بوالدتها المرأة التي أنجبتها.. والتي من المفترض أن تكون أكثر شخصٍ حنونٍ عليها بالعالم.. لكنها خذلتها.. رحلت وتركتها تُعاني وتُحارب بمفردها.. 

وبيومٍ أخر كانت تثق بوالدها.. وثقت أن مهما وصلت دنائته لن يؤذيها.. لكنه فعل.. لقد كان على وشك أن.. يُسلبها شرفها.. 

وإبن العفاريت ليس استثناءيًا عنهما.. الأقرب إليها لم يرحمها.. هل سيرحمها الغريب.! 

عادت من بحر تفكيرها على لمسته الحانية لكفها.. أنتفضت بخوفٍ وقامت بسحب يدها سريعٍ مما لفت الأنظار حولها.. الجميع يتطلع بهما.. لكنهُ لم يهتم بنظراتهم المُتعجبة.. بل أبتسم لها بأكثر إبتسامة حنونة يمتلكها.. ثُم قام بفتح قبضته في إنتظار رضاها.. 

أمير العفاريت في إنتظار سائقة التوك توك ترضى وتلين.. والأهم تطمئن.. لو أخبره أحدهم من قبل أنهُ سيعيش مثل هذه اللحظة بيومٍ ما لكان قتله.. من تلك التي تُجبر " زين العفريت " على الإنتظار.؟! 

لكن ها هي تجلس تتطلع نحوه بخوف.. تردد. لهفة.. تترجاه بعيناها أن لا يُخذلها.. لن تتحمل مثل هذا الأمر.. بينما هو يطمئنها بنظراته عميقة المعاني.. وإبتسامته الحانية.. 

وبمنتهى التردد وضعت " فلك " سائقة التوك توك كفها الصغير بين أحضان كف " زين العفريت " ولي عهد آل عفريت.. 

لم تكُن مجرد لحظة يقوم بها الخطيب بلمس يد خطيبته أثناء وضع خواتم الخطبة.. بل كأنها ميثاق خفي بينهما أن المصائر تشابكت.. والأقدار تلاحمت.. وأن لا مفر للغزالة من بين براثن الذئب.. 

كان يُشدد على كفها بين قبضته بشدة كإعلان صريح لها وللجميع بأنها أصبحت ملكه.. ولا هروب من مكتوب.. 

فور أن أنتهيا من فقرة ارتداء الخواتم صدح صوت أغاني أفراح شعبية بصوتٍ عالي زلزل الحارة كليًا.. أقتربت منها كلًا من " رجوى " وبتول " ثُم سحباها للرقص معهن.. 

وبدأ الجميع بالتصفيق والزغاريط تتوالى من بينهم.. من داخل المنزل من أهل " زين " أو خارجه من أهل الحارة اللذين يحتفلون بالأسفل بداخل الصِوان الذي قام الأخير بتجهيزه لهم من أجل الأحتفال.. 

كانت تتوسط حلبة الرقص بعد أن أنضمت إليهن " شهد " و روان " التي كانت قد وصلت قبل دقائق وحمدت ربها أن لم يُلاحظها أحد.. يتبعها " تيمور " الذي قرر البقاء بالأسفل من مجموعة من شباب ورجال الحارة.. 

مُتخشبة لا تعرف ماذا تفعل أو كيف تتحرك.. مهما حاولن الفتيات تحريكها جسدها مُتيبس مُرتجف.. بينما ملامحها خائفة.. تود لو تستطيع أن تحمل فستانها وتلتف لتهرب.. 

جفلت على لمسة بسيطة لذراعها فألتفتت لتتفاجأ بهِ يقف خلفها مُباشرة.. إبتسامة واسعة سعيدة ترتسم على شفتيه.. ونظرة حنونة منتصرة  تطُل من عيناه.. 

وبدون لحظة إنتظار ألتقط كفيها برفق ثُم بدأ بالرقص معها أمام الجميع.. كانت صدمة لهم لكنهم أستطاعوا أن يقرأوا السعادة على وجهه.. وأدرك الجميع أن تلك الفتاة البسيطة فعلت الأفاعيل بإبن العفاريت.. 

بدأت تتمايل معه رويدًا رويدًا حتى ازداد التصفيق وازدادت الأجواء حماسٍ.. فبدأت تتناسى واقعها وتسعد بتلك الليلة المُميزة التي لم تكن تتوقع بأقصى أحلامها جموحٍ أن تعيش مثلها من قبل.. 

تناست كل شيءٍ وبدأت تتمايل بخفة وهدوء دون مُبالغة.. بينما هو يُقاوم حتى لا يتأمل قوامها الممشوق والذي يُثيره بشدة بتلك اللحظة الجامحة بينهما.. لا يُريدها أن تخشاه.. بينهما طريقٍ طويلًا سيسيره إليها بهدوء.. حتى ينال جائزته بالنهاية.. 

أراد أن يُشاكسها قليلًا فأقترب من أذنيها قائلًا بمرح وقح:- وإنتِ واقفة متخشبة كدة قولت يا بختك المايل يا " زين " مبتعرفش ترقص، بس الحمد لله قلبي أتطمن لحياتي معاكِ. 

شهقت بصدمة من وقاحته المُفاجئة ولم تعرف بماذا تُجيب.. بينما هو عندما رأى تورد وجنتيها باللون الأحمر.. لون الورد.. قهقه بقوة وسعادة تحتل كل ذرة بهِ.. لقد نال الصياد فريسته بالنهاية.. لكن هل هذه حقًا النهاية..!

---------------------------------

هل تعرف ما هو النعيم.؟! 

_لا. 

إذًا أبقى بالجحيم. 

جحيم.. كل ما تمُر بهِ الأن جحيم لا نهاية لهُ ولا خلاص منهُ.. إلى متى سيُكتب عليها الشقاء.. ألن ينتهي سلسال شقائها أبدًا..! 

منذُ اليوم الأول لها بهذه الحياة وهي تُعاني.. عندما توفى والدها يوم ولادتها في حادث مروع.. ومن بعدها وهي لم ترتاح.. لقد تزوجت والدتها بصديق والدها المُقرب بعد إنتهاء شهور العِدة.. ومنذُ ذلك اليوم لم تعرف السعادة بحياتها.. 

نامت منذُ ساعة تقريبًا.. بعد أن عادت من الخارج وقد كانت تبحث عن عمل لساعاتٍ متواصلة.. تسير على أقدامها ترتدي حذائها المُهتريء تسأل بجميع المحال وغيرهم.. لكن الإجابة كانت واحدة.. لا يوجد عمل.. البلدة صغيرة وفرص العمل بها تكاد تكون مُعدمة.. وبعد أن عادت من الخارج وجدت المنزل يُشبه زرائب الحيوانات.. فقامت بواصلة التنظيف المُعتادة حنى بلغ منها التعب مبلغه فنامت.. لكن لم تكد تُكمل الساعة حتى شعرت بنفسها تغرق في بِركة من المياه.. 

شهقت " حياة " بهلعٍ وأنتفضت من نومتها لترى عزرائيلها يقف فوق رأسها وبيده دلو من الماء ألقاه عليها قبل ثوانٍ.. 

رفعت أنظارها إليه لتراه ينظر إليها بتشفي ثُم هدر قائلًا بغلظة:- صحي النوم يا ست البنات، مش نقوم نشوف اللي ورانا ولا إيه، هنقضي اليوم كله نوم.! 

أنتبهت إلى أتجاه نظراته فقامت سريعٍ بتغطية ساقيها العاريتان بالجلباب المنزلي التي ترتديه.. ثُم هبت واقفة قائلة بغضب:- نصيبة تشيلك يابعيد، بتصحيني ليه من نومي، أنت مش هتحل عني يا أخي.! 

التمعت نظرات " علام " بالشر وهدر قائلًا بنبرة بطيئة:- إنتِ بترفعي صوتك عليا يابت.! 

_والمرة الجاية هرفع إيدي كمان، أقصر الشر معايا يا " علام " بدل ما أندمك. 

كانت نبرتها تفوح منها رائحة التهديد والذي قرأه بعيناها بوضوح تام، لذلك هدر قائلًا بغلظة:- إنتِ بتهدديني يابت، وإن شاء الله عندك إيه تهدديني بيه.؟ 

أرتسمت إبتسامة ساخرة على شفتيها قائلة بإستهزاء:- عندي كتير، يعني مثلًا لو خدت بعضي وسيبت البيت في يوم لا أنت ولا مراتك وعيالك هتلاقوا لُقمة تسد بطنكم، عارف ليه يا " علام " عشان أنت راجل عويل، مش بتشتغل ولا بتعرف تجيب لُقمتك، عايش على عرق الستات، مش فالح غير تخلف في عيال وتطفح السم الهاري اللي بتضيع عليه شقايا أنا وأمي يا راجل يا عرة. 

تغاضى عن إهانتها لهُ كعاداته ثُم هدر قائلًا بإستخفاف:- وإيه اللي مصبرك على الشقى دة، ما تغوري في داهية تاخدك يمكن تحصلي أبوكِ.؟ 

_حسك عينك تجيب سيرة أبويا على لسانك الزفر دة، أنا قاعدة عشان أمي وإخواتي مش عشان سواد عيونك، حل عني يا " علام " ومتزهقنيش بدل ما تصحى في يوم تلاقي حنفية الفلوس وقفت. 

كان " علام " رجل ضخم الجسد.. طويل.. أسمر البشرة.. بشعر مُجعد أسود.. ملامحه ليست مُريحة أبدًا.. بمجرد أن تراه تعلم أيّ رجلًا خبيث هو.. عندما تراه " حياة " تشعر بنفسها ترى موتها.. 

نظر إليها بشرٍ وتوعد وبدون أن يتفوه بحرف تركها ورحل.. بينما هي سقطت على الأرض تتنفس بعنفٍ من شدة الغضب الذي تشعر بهِ بتلك اللحظة.. تُجاهد حتى لا تقتله وترتاح من شرِه.. رفعت أنظارها إلى السماء قائلة بتضرع ونبرة باكية:- يارب أنت اللي عالم بحالي، يارب ريح قلبي، وأنقذني منه. 

-------------------------------------

ظلام الليل سِتار لكُل مِحتار.. مأوى لمن لا مأوى لهُ من عيون البشر.. وأبشع الحقائق تُكشف تحت سِتار الليل.. بالرُغم من ظلامه لكن ذلك الظلام يتحول بلحظة إلى ضوء قوي يُكشف لكَ حقيقة من أمامك.. 

تقف " روان " بالجزء الخلفي للحديقة خلف شجرة البرتقال التي تُحبها.. تتستر بظلام الليل وظِلال الشجر.. تنتظر أن يأتي.. على الرُغم من عدم وجود إتفاق مُسبق بينهما لكنها تعلم في قرارة نفسها بأنه سيأتي.. 

وصل إلى أذنيها صوت خطوات من خلفها.. أبتسمت بداخلها بإنتصار لنجاح توقعها.. تنفست بعمقٍ ثُم التفتت ببطءٍ تتأمله.. لكن ما لفت أنظارها هو تلك الحقيبة الصغيرة التي يحملها بين يديه.. 

عقدت حاجبيها بإستغراب لكنها لم تُعلق.. وقفت صامتة تنتظر تفسير لكل ما رأته وحدث.. 

بينما هو يتأملها بنظراتٍ غامضة.. ومشاعر مُبهمة.. لا يعرف كيف يُفسر شعوره تجاهها.. لا يوجد شعور واحد بداخله سليم أو مفهوم.. كل ما بداخله مُعقد.. لكن هي " روان العفريت " بمجرد رؤيتها أمامه يشعر وكأن العالم مازال بخير.. وأن لا وجود لكل هذه الشرور والقاذورات حوله.. 

وبعد الكثير من الصمت والإنتظار هتف قائلًا بنبرة هادئة:- أول حاجة عايزك تعرفيها إني مكدبتش عليكِ، أنا فعلًا فقدت الذاكرة يوم ما أنقذتيني، بس رجعتلي يوم ما أنقذتك في المخزن، أكتشفت دة لما صحيت في المستشفى. 

نظرت إليه بتفحص وبداخلها شعور قوي يخبرها أنهُ صادق.. لكن ماذا تفعل بعدم ثقتها بأحد.. هي لا تستطيع أن تصدقه وتثق بهِ فيأتي بالدمار لعائلتها.. لذلك هدرت قائلة بنبرة صلبة:- وليه مقولتش إن الذاكرة رجعتلك.؟ 

وبملامح جامدة ونظرات غامضة أجاب قائلًا بخفوت:- مقدرتش. 

أرتسمت إبتسامة ساخرة على شفتيها قائلة:- ومقدرتش ليه.! 

_عندي أسبابي. 

نظرت إليه شزرٍ قائلة بغيظ منهُ ومن بروده:- مفيش حاجة أسمها عندك أسبابك، أنت مديون ليا بشرح لكل اللي حصل، أنت مين، وليه ضحكت علينا وفهمتنا إنك فاقد الذاكرة، ومين الناس اللي أتهجموا عليك دول، ومين الراجل اللي أنت قتلته النهاردة.؟! 

صمت مُهيب من قِبله.. ذكريات تتوالى على عقله كالرصاص تقتله بلا رحمة.. ما اسوأ ذاكرة الإنسان.. تحتفظ بكل ما هو مؤلم وحزين.. الذكريات اللعينة لا تنفك تتوالى وهو لا يملُك السبيل لإيقافها.. 

لكن آلامه ظهرت بوضوح على ملامحه.. وعيناه الغائمتين.. أظلمت عيناه بسواد روحه المعطوبة.. وهي استطاعت أن ترى كل ذلك بوضوح.. ولأنها بالنهاية إنسانٍ تعرف أن بداخل كل إنسان الكثير لم تملك إلا أن تهتف قائلة بجدية صارمة:- معندكش حاجة تقولها صح.! 
على العموم أنا مش عايزة أعرف حاجة، وكدة وكدة واضح إنك واخد قرارك وماشي، دة فعلًا أحسن قرار لينا كلنا، بمجرد ما تخرج من باب البيت دة تنسى العيلة دي تمامٍ، وصدقني لو في يوم طالنا أي أذى من ناحيتك أنا مش هرحمك. 

اللعنة هل يجب أن تكون جميلة إلى هذا الحد وهي تهدده.. ولماذا يراها جميلة أصلًا بموقفٍ مثل هذا..! 

أبتسمت شفتاه قائلًا بنبرة رخيمة:- مُتشكر على كل اللي عملتيه معايا إنتِ وأهلك. 

نظرت إليه بغضب ولم تُجيبه بل تحركت لترحل من أمامه.. رحلت وهي مُتأكدة أن تلك المرة الأخيرة التي ستراه بها.. لكن ما لا تفهمه لماذا يؤلمها قلبها.. لماذا تشعر بهذه النيران تحرق صدرها.. ولماذا تريد بتلك اللحظة أن تلتفت وتطلب منه عدم الرحيل.. لكن كما أعتادت من صغرها أن مصلحة العائلة تتقدم مصلحة الجميع.. 

دلفت إلى شقتها وهي مُنهكة القوى لتتفاجأ بشقيقها " زين " خارجٍ من غرفته وهو يبتسم بإتساع.. لكن أختفت بسمته عندما رأها قادمة من الخارج بهذا الوقت.. 

وقف أمامه يتفحصها قائلًا بتساؤل:- كُنتِ فين في الوقت دة.؟ 

_كنت قاعدة تحت في الجنينة. 

اومأ لها برأسه بعدم تصديق لكنه هتف قائلًا بجدية:- طب أدخلي نامي اليوم كان مُتعب النهاردة. 

تحركت دون حديث إلى غرفتها بينما هو تعجب من حالتها لكنهُ ركض نحو شُرفة الصالة ينظر منها ليتأكد من أمرًا ما.. عقد حاحباه بصدمة عندما رأى " تيمور " يرحل وهو يحمل حقيبته.. أختفى الأخير عن أنظاره فتنهد هو قائلًا بضيق:- هو إيه اللي بيحصل بالظبط.! 

--------------------------------

لقد سلمت قلبي للحُب وأنتهى أمري.. 

والأن أُحاول لملمة شتات قلبي.. 

فهل سبب آلامي سيتركني وشأني..! 

أنتهت ليلة بأحداثها الكثيرة.. بعضها سعيد والآخر تعيس.. وأشرقت أشعة شمس الصباح تنشر دفئها بالأجواء..لعل الدفء المُنبعث منها يُبدد برودة الشتاء..

 ترجلت " ليال من سيارتها أمام مقر عملها يتبعها " جلال " قائد حراستها ومساعدها الشخصي يُرتبان سويًا جدول الأعمال لليوم.. هتف الأخير قائلًا بجدية:- كدة الأجتماع هيكون بعد ساعتين مع تُجار اللحوم والفاكهة، هرتب مكان الأجتماع وهبلغ حضرتك. 

اومأت لهُ قائلة بهدوء:- تمام، أنا في مكتبي هخلص شوية شغل. 

تركها الشاب ورحل حتى يُتابع أعماله المُكلف بها.. دلفت إلى مكتبها وأغلقت الباب خلفها لكن قبل أن تتقدم خطوة واحدة للأمام تجمدت بأرضها عندما وقعت عيناها على من يجلس خلف مكتبها.. يجلس براحة وهدوء وكأنهُ مالك المكان.. لكنه لا يملكه.. بل يملك شيءٍ أخر يقبع بين أضلاعها وينتفض الأن بجنون لرؤيته لمالكه.. قلبها اللعين لا يهدأ بمجرد رؤية عيناه الرمادية التي تُشبه العواصف الرعدية.. يتأملها بنظراتٍ هادئة على غير عاداته مؤخرًا، لكنها لمحت شيءٍ أخر بعيناه.. شيءٍ يُشبه الحزن.. أو الخُذلان.. وكأنهُ يسألها لماذا..! 

حاولت أن تتجاهل مشاعرها بتلك اللحظة وأقتربت منه حتى توقفت أمام مكتبها مُباشرة قائلة بتساؤل:- بتعمل إيه هنا.؟ 

لا يعلم لماذا أتى اليوم ليراها.. لقد استيقظ صباحٍ وقام بروتينه المُعتاد ككل يوم.. اطمئن على أحوال عائلته.. تناول معهم الإفطار.. وخرج من منزله متجهًا إلى عمله لكنهُ وجد نفسه هُنا.. يجلس أمامها الأن وجديًا لا يعرف ماذا يقول لها.. 

وقف من مكانه ثُم هندم ملابسه تحت أنظارها المُتعجبة ثُم أقترب منها حتى وقف أمامها مباشرة قائلًا بهدوء غامض:- مفكرتيش قبل كدة تكشفي عن الفيديو جايز فيك وإني بريء مثلًا.؟ 

ضربات قلبها تصم الأذان الأن.. اللعنة على هذا المقطع الذي لا ينفك يظهر لها كلما حاولت أن تتنساه.. نظرت إليه بغضب تُحاول أن تستشف لعبته الجديدة لكن ملامحه جدية بطريقة مُخيفة.. 

هدرت قائلة من بين أسنانها:- أنت بتحاول تعمل إيه يا " عاصي "، بتلف وتدور على إيه، الفيديو سليم، وأنت خونتني، وأنا بالرغم ردة فعلي المُبالغ فيها بس مش ندمانة، وعلى فكرة أنا كنت عايزة أقتلك وقتها مش مجرد رصاصة ضربتها عليك بلحظة غضب والعيار مصابش، أنت كنت بتاعي أنا، ملكي أنا، حبيبي أنا، تخيل يوم فرحنا الصبح تكتشف إني بخونك مع راجــ.. 

وقبل أن تُكمل جملتها كان يسحبها من ذراعيها نحوه ثُم وضع قبضته على فمها يمنعها من الحديث.. شهقت بفزع لكن شهقتها ماتت على شفتيها سريعٍ.. رفعت أنظارها إليه لتهالها نيران الغضب المُنبعثة من حدقتيه.. شرارة نار موجهة نحوها ولو كانت حية لكانت أصابتها بحق وأردتها قتيلة.. بينما ملامحه وكأنها نُحتت من الشيطان بذاته.. 

ضغط على ذراعها بقبضته ليؤلمها وقد أعجبه أن يرى الألم على ملامحها.. ثُم همس قائلًا بنبرة بطيئة مُرعبة:- إحمدي ربنا إني لحقتك قبل ما تكملي جملتك عشان لو كان دة حصل كان زماني أنا اللي قتلتك ودفنتك مكان ما إنتِ واقفة. 

حاولت أن تنزع نفسها من بين براثنه لكنه ترك فمها وقبض على ذراعها بكفه الأخر قائلًا بنبرة شرسة:- سألتيني بحاول أعمل إيه.! هقولك. 

بحاول أعمل اللي إنتِ معملتوش، بثبت إني بريء، بحاول أصلح كل اللي إنتِ بوظتيه من ٣ سنين يا " ليال ". 

تحولت الشراسة إلى نبرة أكثر هدوءًا وهو يهمس قائلًا بنبرة متهدجـة بينما أنفاسه تلفح أنفاسها الساخنة بتلك اللحظة:- بحاول أقربنا لبعض رغم إني عارف إن دة مستحيل، بس كله يهون عشان ترجعي حضني تاني. 

صدمة تُشبه الصاعقة الكهربائية أصابت جسدها المُتشنج بين أحضانه.. لمعان حدقتيه.. نبرته المُشتعلة بنيران عِشقه لها.. أنفاسه الثائرة.. كل ما يحدث الأن ضرب من الجنون.. 

ولزيادة الجنون وجدت نفسها تهمس قائلة بخفوت حزين:- بتحاول تقربنا لبعض عشان كدة طلقتني.! 

وبلهفة العالم أجمع.. لهفة رجُل على المرأة الوحيدة التي ملكت قلبه وعقله وروحه هدر قائلًا بلهيبٍ حارق:- أنا عملت كدة عشانك، عشان أعاقب نفسي على اللي عملته معاكِ، مش قادر أسامح نفسي يا " ليال " إني كنت هكون السبب في موتك، مش قادر أسامح نفسي إنتِ هتسامحيني إزاي.! 

وبمنتهى الضعف أجابت قائلة بخفوت بينما عيناها تذرفان عِبرات وجعها:- الظاهر إننا عملنا في بعض كل حاجة تخلينا مش قادرين نسامح بعض عليها، قُربنا مستحيل فعلًا. 

_مش هيحصل طول مانا عايش، اسمعي يابنت الناس إنتِ ليا، وليا لوحدي، حتى لو اضطرريت أحارب أهلك وأهلي وأهل البلد كلهم، وأحاربك إنتِ كمان هعملها، فاهمة. 

وبدون مقدمات أو ذرة سيطرة على النفس انحنى قليلًا ليلتهم شفتيها في قبلة شرسة.. مجنونة.. أصابتها بالدوار.. لكنها لم تمنح لنفسها الفرصة لتضعف.. وضعت كفيها على صدره وبكل قوة تملكها دفعته بعيدًا عنها.. وأبتعدت هي عنهُ عدة خطوات إلى الخلف.. 

وقف مزهولًا من رفضها لهُ ولكنهُ لم يعبأ بذلك الرفض اللعين.. كان على وشك أن يقترب منها مرة أخرى لكنها أشارت لهُ ليتوقف.. وقد فعل.. 

هدرت قائلة بلامح شرسة غاضبة:- أوعى تفكر تقرب مني تاني، أنت سامع.! 

نظر إليها بنارية ثُم ضحك ضحكة قوية دون مرح قائلًا بنبرة أجشة قوية:- هقرب، وهقرب أوي وهكون أقرب ليكِ من أنفاسك، زي زمان يا " ليال " فاكرة زمان، قولتلك هحارب الكل وأولهم إنتِ. 

شعرت بنفسها على وشك الإنهيار بسببه، لا تعلم متى ستنتهي تلك المُعاناة.. إلى متى ستظل تدور بتلك الدائرة.. 

تنهدت بغضب قائلة:- مستحيل يا " عاصي" مستحيل، أنت أذيتني ووجعتني، وأنا كمان زمان عملت نفس الحاجة، عمري ما هقدر أسامحك أو اتخطى، حبنا مجابش غير الدمار لينا وللي حوالينا وبس. 


اللعنة لماذا تُصِر على أن تغضبه.. لماذا ترفضه الأن.. لكن جديًا هو توقع هذا الرفض.. " ليال " لن تُغفر أفعاله بسهولة.. لقد ذبحها بكلماته السامة في الأسابيع الماضية.. وها هو يحصد ثِمار زرعته.. 

نظر إليها بملامح جامدة.. مشاعر مضطربة.. دقات قلب مُنفلته.. ثُم هدر قائلًا بصرامة:- الفيديو مُزيف يا " ليال "، مش أنا اللي في الفيديو، أنا مخونتكيش ولا عمري فكرت أعملها. 

توقف العالم من حولها.. تجمدت بمكانها بينما ضربات قلبها تزداد هلعٍ.. تحاول أن تتحلى بالثبات لكنها أضعف بتلك اللحظة من لحظات كثيرة مضت.. نظرت إليه تتأمل عيناه العاصفة بعيناها الخائفة.. يستحيل أن يكون المقطع مُزيف.. 

هدرت قائلة بعصبية مجنونة:- أنت كذاب، يستحيل يكون الفيديو فيك، يستحيل. 

فلت جنونه من بين عقاله وفقد سيطرته على نفسه لذلك صرخ هادرٍ بنبرة عنيفة شرسة:- هو إيه اللي أنت كذاب ويستحيل، إنتِ عارفة إني يستحيل أكذب في حاجة زي دي، والفيديو معاكِ، أتعبي نفسك شوية وروحي أكشفي عليه عشان تتأكدي من كلامي.! 

ما الذي يهذي بهِ هذا الرجُل.. هل كل ما حدث كان فخٍ ووقعت هي بهِ.. هل تدمرت حياتها وذهبت أجمل أيامها أدراج الرياح بسبب خدعة..!! 

لا بالتأكيد لا.. وجدت نفسها تصرخ بقهر قائلة:- بس أنا كشفت على الفيديو يا " عاصي ". 

كانت الصدمة هنا من نصيبه هو.. كيف قامت بالكشف على المقطع ولم تعرف أنهُ مُزيف..! هناك شيءٍ خطأ بهذا الأمر.. حلقات كثيرة مفقودة وكلما أعتقد أنهُ قام بتجميعها يجد نفسه مازال في بداية الطريق... 

هدر قائلًا بنفاذ صبر غاضب:- يعني إيه كشفتِ على الفيديو، طب إزاي معرفتيش إنه فيك، ومين اللي كشف عليه.؟! 

سقطت على المقعد خلفها وتهاوى جسدها بصدمة بالغة.. 
عِبرات الرُعب تسيل على وجنتيها دون أن تجد قدرة على إيقافها.. والذكريات المريرة تتوالى على عقلها بلا رحمة.. اليوم الذي كان من المفترض أن يكون من أسعد أيامها تحول إلى أبغض أيامها وأكثرهم إيلامٍ لها.. 

وبنبرة مُتهدجـة همست قائلة بضياع:- " كــــارِم ".... 

------------------------------------

بعض الأخطاء لا غُفران لها.. قد تظن أنك قادرًا على مواجهة اسدًا بمفردك لكنك في الحقيقة لا تستطيع أن تواجه فأرًا.. وعندما يلتهمك الأسد لا تفزع.. هذا نتيجة غباءك.. 

يجلس وسط الأرض المُحترقة ينظر حوله بنظراتٍ ضائعة بلمحة حِقد مكبوت.. وإذا أطلق لأحقاده العنان سيلتهم الأخضر واليابس.. لكن ألم يفعل من قبل وقرر مواجهة الأسد.. ساحرة آل عفريت.. " ليال ".. وما الذي أصابه سوى الدمار.. كل عدة أيام تحدُث لهُ كارثة بسببها.. هي من قامت بتدمير حياته.. أبلغت عن تجارته الممنوعة الشرطة.. حرقت أرضِه وأرض عشيرته.. وبعد أن كان الكبير لا يجروء على رفع أنظاره بأحد من قبيلته.. الجميع أحوالهم لا تسر عدو.. وبسببها هي.. لقد جعلته يدفع ثمن الرصاصة التي أخترقت جسدها مريرٍا.. قتلته وهو مازال على قيد الحياة.. 

وبينما هو غارقٍ في شروده استمع إلى صوت خطوات أقدامٍ تقترب منهُ.. في البداية أعتقد أنهُ واحدًا من رجاله لكن تفاجأ بالظل الذي يقف أمامه وصوتٍ غريب لكنه بهِ بحة خطرة تجعل جسدك ينتفض قائلًا:- خايب يا " حمدان " ووقفت قدام الأسد لوحدك، زعلان ليه لما أكلك.! 

رفع " حمدان " أنظاره ليتفاجأ بشخصٍ غريب.. لا يعرفه ولم يراه من قبل.. هيئته مُهندمة ويبدوا عليه الثراء الفاحش.. ملامحه خبيثة على الرُغم من هدوئها.. بنظرة خبيرة من " حمدان " نحوه أدرك أن الشخص الذي أمامه ليس سهلًا على الأطلاق.. 

وقف أمامه قائلًا بتعجب:- مين أنت، وتقصد إيه.! 

أبتسم الشخص إبتسامة ساخرة مُستهزئة بمن أمامه ثُم هدر قائلًا بنبرة تفوح منها رائحة الشر والغِل:- أنا اللي هساعدك تنهي " ليال العفريت " وتنهي عيلتها كلها. 

---------------------يُتبع-------------
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-