العفاريت
رواية العفاريت بقلم ايه صبري الفصل الثامن عشر
*الـجـمـيـلـة الـنـاعـمـة*
=يابني أدم بقولك نزلني هنا، أنت مش بتفهم.!
صدح صوت " تالين " عاليًا بداخل سيارة " أنس " والذي كان يقود بمنتهى الهدوء والإستمتاع كأنها لم تتحدث.. لقد بحث عنها كثيرًا الأسابيع الماضية وهي كانت كالإبرة بكومة القش سيكون مجنونٍ إن تركها الأن.. لن يبالغ ويقول أنه أحبها من النظرة الأولى ولكنها احتلت تفكيره من النظرة الأولى.. يُريد أن يتقرب من هذه الفتاة الجميلة الناعمة التي تُشبه شخصيته الكرتونية النسائية المُفضلة.. ولا يستبعد أن يقع في حُبها قريبًا.. لكن مهلًا لن يتعجل الأمر..
نظر إليها بطرف عيناه قائلًا ببرود:- هو إنتِ فاكرة عشان بعدنا عن القصر فهنزلك بقا، تؤ أنا مش بيتضحك عليا.!
زفرت بضيق ونفخت أوداجها قائلة بجنون:- طب أنت عاوز مني إيه، أنا معرفكش ومش عشان حصل بينا موقف ولا إتنين وأنقذتني فيهم يبقا تفكر نفسك ولي أمري ولا حاجة، هو كل واحد بينقذ واحدة بيروح يدوار عليها ويطلعلها زي عفريت العلبة كدة.!
في الحقيقة حديثها كثير المنطقية ومعها كل الحق.. لكنها غافلة عن شيءٍ هام للغاية.. وهذا الشيء هو إعجابه بها.. طالما يُفكر بها هكذا طوال تلك الأسابيع الماضية فهذا يعني أنها أعجبته ولذلك بحث عنها حتى وجدها..
هتف قائلًا بهدوء:- معاكِ حق طبعًا مقولناش حاجة.
صمت وصمتت هي تنتظر أن يستكمل حديثه ويعتذر ثُم يُعيدها إلى القصر أو يتركها ترحل إلى حال سبيلها لكنهُ لم يفعل.. نظرت أمامها وهي تنفخ وجنتيها بغضب طفولي ولم تتحدث لأنها تُقسم أنها لو تحدثت ستسبُه بكل ما هو مُشين بتلك اللحظة..
بعد مرور القليل من الوقت توقفت سيارة " أنس " أمام واحدًا من المطاعم المُطلة على البحر.. كان مطعمٍ بسيط وصغير بعيد عن ضجيج المدينة.. حيثُ يقع على أطرافها..
نظر إليها " أنس " قائلًا بهدوء:- يلا ننزل ولا إيه.؟
نظرت إليه بصدمة ثُم همست قائلة:- ننزل فين أنت أتجننت، أنا لو حد شافني معاك هتطير رقابتي.!
أبتسم بخفة قائلًا:- أنا عملت حساب حاجة زي كدة وعشان كدة جيت هنا، المكان بعيد شوية عن البلد وفي الوقت دة بيكون فاضي أصلًا.
كتفت ذراعيها أمام صدرها ثُم هدرت قائلة بعناد دون أن تنظر إليه:- برضه مش نازلة.
تنهد الشاب قائلًا بتساؤل:- طب هو إنتِ كنتِ طالعة دلوقتي رايحة فين.؟
هدرت قائلة من بين أسنانها بغيظ:- كنت طالعة أتمشى وأقضي شوية وقت مع نفسي بس حضرتك خربت الدنيا.
أبتسم بإتساع قائلًا بهدوء كأنه يراضي طفلة صغيرة:- طب ما إنتِ كدة كدة كنتِ طالعة تقضي وقت في أي مكان كل اللي أختلف بس إن في حد هيشاركك الوقت دة مش أكتر.
هدرت قائلة بتبرُم:- اللي أختلف إني معرفكش، إيه يخليني أنزل أخرج مع واحد حتى معرفش إسمه.!
أهداها أكثر إبتسامة جذابة يملكها ثُم هدر قائلًا:- هننزل دلوقتي نقعد ونفطر ونشرب حاجة سوا وهعرفك على نفسي وهقولك كل اللي عايزة تعرفيه.
تنهدت بضجر فهي بدأت تشعر أن فكرة تسللها من القصر اسوأ فكرة قامت بتنفيذها في حياتها.. فهي كل ما ترغب بهِ بتلك اللحظة أن تعود إلى منزلها وتعتزل بغرفتها وتفعل بها ما تشاء.. نظرت إليه بغضب وجدته ينظر إليها بهدوء لكنه لا يخلوا من الإنبهار.. تنهدت مرة أخرى بقلة حيلة ثُم ترجلت من السيارة وهي تهتف قائلة بحزم:- ساعة واحدة بس وهترجعني مكان ما أخدتني.
ضحك بحماس قائلًا:- اللي إنتِ عايزاه هعمله.
فور دخولها إلى المكان تصنمت مكانها بصدمة.. كان مكانٍ صغيرًا لكنهُ دافيءٍ.. مفتوحٍ من جميع الجوانب ويطل على البحر.. حتى أن الحوائط والديكورات حتى الطاولات والمقاعد وكل شيءٍ بهِ مُقتبس من البحر.. والألوان بدرجات البحر في جميع حالاته.. خطفها المكان بسحر جماله وتناست تمامٍ أنها برفقة شخصٍ غريب بمكان بعيد وشبه معزول..
وكما قال لها لم يكُن هناك سواهما بهذا التوقيت.. اصطحبها إلى أقرب طاولة من البحر ثُم سحب لها المقعد كرجل نبيل.. أهدته إبتسامة ناعمة زادت من تسارع نبض قلبه لكنهُ جلس أمامها بهدوء دون أن يُعقب.. كانت تنظر إلى البحر بإنبهار فهي منذُ مدة طويلة لم تزوره أو بمعنى أخر لم تشعر بهذه الحرية كما هي الأن.. حتى أن ندمها على خروجها من القصر ذهب أدراج الرياح..
أبتسم بنعومة ثُم قطع الصمت قائلًا بهدوء حتى لا يُفزعها:- المكان شكله عجبك.؟
نظرت إليه بلمعة عيناها الزيتونية ثُم همست قائلة بحماس:- أوي أوي، أنت مش متخيل أنا بحب البحر قد إيه وبقالي كتير مشوفتوش.
عقد حاجباه بتعجب قائلًا:- إنتِ صحيح مش بتخرجي كتير ليه، بيتهيألي إنتِ مخرجتيش من يوم الفرح.؟
تلاشت بسمتها وتحولت ملامحها إلى أخرى حزينة حتى لمعة عيناها انطفأ ثُم همست قائلة:- أنا مش بخرج كتير فعلًا.
=ليه.!
تنهدت قائلة بهم:- عارف لما تبقا أصغر فرد في العيلة، وبنت كمان، والعيلة كبيرة، أهو أنت حرفيًا أي حد معدي قدامك بيتحكم فيك بحجة إنك بنت وصغيرة ومينفعش تتعاملي مع حد لأحسن يكون مش كويس ويأذيكِ.
اومأ لها بتفهم ثُم هتف قائلًا بعقلانية:- أنا معاكِ إن التحكم مش حلو بالذات لما بيكون زيادة، بس هما أكيد ليهم وجهة نظر أكيد خايفين عليكِ، ولو مش بيحبوكِ وشايفينك غالية عندهم مكنوش خافوا عليكِ كدة.
زفرت بضيق قائلة:- ما هما بيحبوني وبيخافوا عليا بس أنا كمان إنسانة ومن حقي أحس بحريتي.
أبتسم لها بحنو قائلًا:- بكرة هتحسي بيها متقلقيش، أنا متأكد إن عيلتك هتتفهمك في النقطة دي.
أبتسمت بسخرية قائلة:- أي عيلة في الدنيا ممكن تتفهم لكن مش عيلة السُليماني.
بهتت إبتسامته عندما تفوهت أمامه بلقب عائلتها.. هل هي " تالين السُليماني " حقًا.. عندما بحث عنها الأيام الماضية لم يصل إلا لإسمها وعنوان منزلها ولم يخبره أحد أن القصر الذي كان يقف أمامه ويراقبه يوميًا منتظرًا خروجها هو قصر " آل سُليماني ".. على الرُغم من أنه لا يوجد ضغينة بين عائلته وعائلتها لكنه يعلم بالضغينة الموجودة بين " آل عفريت " و " آل سُليماني ".. ويخشى أن يخبرها بلقب عائلته حينها ستكتشف صلة القرابة بينه وبين العفاريت وقد يوسوس لها شيطانها أنه يتلاعب بها أو يُريد بها سوء.. فبالنهاية هو ابن عم" بتول " حفيدة " آل عفريت "..
عاد من شروده على صوتها الناعم قائلة بتساؤل:- بس أنت لسة معرفتنيش عليك ولا قولتلي حتى إسمك.؟
أبتلع ريقه بتوتر ثُم صمت لثوانٍ قبل أن يُجيب بثبات واهي:- " أنس صالح ".
أبتسمت بخفة وأنتظرت أن يستأنف تعريفه لكنه لم يفعل فقربت كفها منهُ تصافحه ثُم هدرت قائلة بنبرة ناعمة:- " تالين السُليماني ".
وبتردد لم تنتبه هي لهُ صافحها لكن بداخله تبددت كل البهجة التي كانت تلازمه منذُ بداية اللقاء.. لقد كذب من البداية فكيف ستكون النهاية..!
------------------------------------
تقف منذُ ساعة كاملة في صالة إنتظار وصول المُسافرين بالمطار وهي تحمل لوحة مكتوب عليها أسماء أبناء السيدة " هدى " صديقة والدتها وخالتها.. وعلى حظها العاثر تأخرت الطائرة ساعة كاملة بسبب سوء الأحوال الجوية.. زفرت بضيق للمرة التي لا تعلم عددها فهي أكثر ما تكرهه هو الإنتظار.. ولولا أنها لا تريد أن تحرج خالتها برفضها لطلبها لكانت الأن بعملها مرتاحة بدلًا من وجودها هنا وشعورها بمثل هذا الضيق والغضب..
كانت تقف تمسك بلوحة مكتوب عليها " عدي الكيال، قمر الكيال " لا تملك عنهما أيَّ معلومات فهي لا تعرف حتى السيدة " هدى " لكي تعرف أبنائها.. ستستقبلهما ثُم تقوم بإيصالهما إلى منزلهما وترحل وينتهي دورها.. مهمة بسيطة وستنتهي سريعٍ كما تأمل..
بدأ المُسافرين بالوصول وبدأت هي بالتركيز لتستطيع تخمين أيهما أبناء السيدة " هدى " لكن لم يأتي بمخيلتها أن يتوقف أمامها شاب يُشبه الحُراس الشخصيين بجسد ضخم وطول فارع.. كما أنهُ يمتلك وسامة مهلكة بخصلات شعره الشقراء بلونها الداكن وعيونه الرمادية العجيبة.. لونها كان يُشبه الفضة أكثر من الرمادي وكانت غريبة بالنسبة لها.. وبشرته القمحية لكنها تبدوا مكتسبة بفعل الحرارة.. الشاب يبدوا ببداية عِقده الثالث.. بينما الفتاة التي تجاوره تشبهه إلى حد كبير حتى بلون العيون.. لكنها أقصر منه وأصغر أيضًا فهي تبدوا بالكاد وصلت إلى عامها العشرين.. يبدوا من ملابسهما الفخامة والرُقي.. كانت تعتقد أنهما طفلان أو على أقصى تقدير مراهقان.. إذًا لماذا هي هُنا واللعنة..!
بينما هُما أيضًا كانا يتطلعان نحوها بتعجب ودهشة من وجود فتاة مثلها في استقبالهما وليس سائق والدتهما أو واحدًا من رجال والدهما.. فهي لا تبدوا كعاملة لديهم بالعائلة بل يبدوا عليها الثراء والفخامة إذًا من هي..!
أخفت ملامح الضيق وهتفت قائلة بتساؤل وإبتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها:- " عُدي وقمر " ولاد طنط " هُدى ".؟
اومأت لها الفتاة دون رد بينما هي هدرت قائلة بثبات:- أنا " ليال العفريت " بنت أخت صديقة والدتكم " سعاد العفريت ".
صافحها الشاب أولًا ثُم الفتاة والتي هدرت قائلة بتساؤل:- إحنا كنا فاكرين إن مامي هتيجي تستقبلنا، أمال هي فين.؟
أغتصبت إبتسامة خفيفة ثُم هدرت قائلة بجدية:- بصراحة معنديش أي تفاصيل، أنا خالتو طلبت مني أجيبكم من المطار وأوصلكم البيت، حمد لله على سلامتكم.
أشارت لهما أن يتحركان معها إلى الخارج وأثناء خروجهم كانت تتوعد خالتها بسرها.. لماذا واللعنة عليها أن تأتي اليوم وهما ليسا بحاجة إلى ذلك.. كان يمكنهما أن يستقلا سيارة أجرة وأنتهى الأمر.. لكنها تجزم أن هناك أمرًا ما وراء ذلك الحدث..
فور خروجهم من صالة المطار تفاجأ " عدي وقمر " بهذا الكم من الحراسة الشخصية المرافقين لها.. وعلى الرُغم من أن هذا أمرًا شائعٍ بمدينتهم لكن الأمر كان مُريبٍ..
بدأ الحُراس بترتيب الحقائب في السيارة وكانت " ليال " تقف بجانبها " عُدي " وتجاوره " قمر " لكن بتلك اللحظة كان يقوم حارسٍ ما برفع حقيبة من الحقائب عاليًا لكنها كادت أن تُفلت من بين يديه وتسقط فوق رأس الأولى.. وبردة فعل تلقائي سحبها " عدي " نحوه سريعٍ لكن شدة السحب كانت قوية مما جعلها تصطدم بصدره العريض..
تصنمت " ليال " بمفاجئة مما حدث وأحمرت وجنتيها بخجل.. فهي لم تعتاد على هذا القُرب من أحد سوى مُعذب قلبها الذي قام بتطليقها وأختفى.. أبتعدت على الفور بينما هو نظر إليها بطرف عيناه وأرتسمت بسمة خفيفة على شفتيه محاها سريعٍ وتعامل كأن شيءٍ لم يحدث..
بعد قليل كانت السيارات الخاصة بـ " ليال " تقطع طريقها داخل المدينة حيثُ منزل " آل " كيال ".. كانت تجلس الأولى بالخلف بجانب " قمر " وبالأمام " عُدي " بجانب " جلال " الذي تولى القيادة.. كان الصمت يعم الأجواء فلا أحد يعرف الأخر ليفتح حديثٍ عامٍ حتى.. وصل الجميع إلى ڤيلا " آل كيال " حينها هتفت " ليال " قائلة بإبتسامة هادئة:- حمد لله على سلامتكم، البلد نورت.
أبتسمت لها قمر بلطف قائلة:- الله يسلمك، تعبناكِ معانا، إيه رأيك لو تدخلي تشربي حاجة ونتعرف على بعض أكتر.
أجابتها بنبرة صوتها الرخيمة قائلة بتهذيب:- مرة تانية بإذن الله لإني عندي شغل النهاردة.
أومأت لها الفتاة بخفة ثُم ترجلت من السيارة يتبعها شقيقها الذي قام بتحية " ليال " بهزة بسيطة من رأسه ردتها لهُ هي بتهذيب..
فور أن دخلا إلى منزلهما هدرت " ليال " قائلة بتساؤل جاد موجهة حديثها إلى " جلال ":- " كريم " فين دلوقتي.؟
أجابها الشاب قائلًا بجدية مماثلة:- في المنتجع مخرجش منه من وقت ما وصل.
اومأت لهُ قائلة بنبرة غامضة:- النهاردة نفذ اللي أتفقنا علينا بخصوص " حمدان ".
حرك رأسه بمعنى" نعم " ثُم هتف قائلًا بتساؤل:- تحبي نتصرف مع " لولا " الرقاصة.؟
صمتت لثوانٍ ثُم هدرت قائلة بنبرة أكثر غموضٍ:- تؤ، لسة شوية عليها دي.
اومأ لها بتفهم ثُم تحرك بالسيارة متوجهًا نحو مقر عملها في هدوء تام..
------------------------------------
الحُب والغيرة تؤامان ولِدا من نفس الرحِم.. لا يتواجد أحدهما دون الأخر.. إذا لم تُغار فتأكد إنك لم تُحِب..
على الجانب الأخر كان يُشاهد من بعيدًا كل شيءٍ يحدث بقلبٍ يحترق وعينين قاتلتين.. رأها كيف وقعت بين أحضان ذاك الغريب.. كيف توردت وجنتيها بخجلٍ من أخر بعد أن كانت لا تخجل إلا منهُ.. كيف أبتسمت لهُ وهي تودعه أمام باب منزله.. ورأى لمعة الإعجاب بها بعيناه هو.. إعجاب رجلٍ لامرأة.. امرأته هو يُعجب بها أخر..
هل " ليال " أنتهى وجودها من حياته بالفعل.. هل ستبدأ طريقٍ أخر وقصة جديدة مع رجلٍ غيره.. هل ستحب شخصٍ غيره.. يلمسها.. يُدللها.. يُقاتل من أجلها.. تلمع عيناها بالحب لسواه..!
نيران الغيرة والغضب تحرق قلبه.. جسده بأكمله مُشتعلًا ويتمنى لو يستطيع أن يحرق العالم ويحظى بها هي وحدها..
كانت ملامحه جامدة.. صلبة كالرُخام الأبيض.. لكن عيناه تُعبران عن كل ما يجيش بصدره.. كان يسير خلفها بسيارته وهو يرى عدد الحُراس اللذين يتبعونها.. بالتأكيد عائلتها لن تتهاون في حمايتها بعد ما حدث سابقٍ.. لكن هو لا يهتم لعدد الحُراس.. حتى لو قام بحراستها حُراس من أسفل الأرض سيقف بوجههم ليراها.. لذلك وبدون ذرة تفكير كان يتخطى سيارتيَّ الحراسة ثُم سيارتها هي ويقطع عليها الطريق.. توقفت جميع السيارات فجأة وأعتقد الجميع أنهُ هجومٍ أخر قبل أن تقع عيناها عليه..
بعد أن تهور وقطع طريقها ترجل من سيارته بهدوء كأنهُ لم يفعل شيءٍ ثُم وقف بثبات ينتظرها أن تأتي لهُ.. بينما هي كانت تتطلع بهِ بملامح شاحبة.. مصدومة.. لا تصدق ظهوره أمامها مجددًا بعد ما حدث.. لا تعلم كيف ستقف أمامه تتطلع بعيناه بعد إستسلامها المُخزي لهُ بمكتبه..
دق هاتف " جلال " فأجاب يستمع إلى حديث الطرف الأخر ثُم أغلق الخط.. نظر إليها قائلًا بجدية:- " عاصي " بيه موجود لوحده ومش معاه حراسة، المكان أمان.
أنتبهت إلى ما يتفوه بهِ مرافقها.. فنظرت إليه بهدوء قائلة:- محدش ينزل معايا.
على الرُغم من الأعتراض الذي ظهر على ملامحه لكنه لم يتفوه بشيءٍ وقرر أنتظارها بالسيارة..
ترجلت من سيارتها بثبات تُحسد عليه ثُم سارت بخطواتها إليه.. خطواتٍ تبدوا واثقة لا تخشاه.. بينما عيناها كانت غارقتين في الجمود.. ملامحها بأكملها صخرية لا تُعبر عن شيءٍ مما تشعر بهِ بداخلها بتلك اللحظة..
وقفت على بُعد خطوتين منهُ فقط تتأمله.. كانت ملامحه رغم جمودها باهتة.. فاقدة للحياة.. غاضب لكنها تشعر أن غضبه ليس منها هذه المرة.. بالمرة الأولى التي رأته بها بعد فراق أكثر من ثلاث سنوات كانت ملامحه رُغم غضبها عنيفة.. كانت عيناه عنيفتان عندما ينظر إليها.. حتى أن ردات فعل جسده كانت متشنجة.. لكنهُ الأن يبدوا هاديءٍ الهدوء المُرهق.. هو مُتعب.. غاضب.. حزين..
وكما كانت تتأمله كان هو أيضًا يتأملها.. يتأمل عيناها ببريقهما الحزين.. ملامحها الصخرية لكنها مُتعبة.. جسدها الهزيل الذي يفقد وزنه تدريجيًا.. تقف أمامه ثابتة لكن ثباتها ليس ذلك الثبات المُحبب للإنسان أن يكون عليه.. بل هو ثبات واهي تتمسك بهِ حتى لا تقع.. ترتدي الأسود مثله تمامٍ وكأن الألوان غادرت حياتهما معًا.. يتذكر عندما رأها بمكتبه المرة الماضية كانت مُشعة أكثر من اليوم.. يبدوا أنهُ سبب انطفاءها..
قطع الصمت هو عندما همس قائلًا بسخرية:- منزلتيش غير لما رجالتك قالولك المكان أمان، صح.!
لم تُعير سخريته أهتمام أو حتى تهتم بتصحيح الأمر لهُ بل هدرت قائلة بنبرة صلبة:- خير، عايز إيه المرادي.؟
تأمل ملامحها الغير هينة لوهلة قبل أن يتنهد قائلًا بجمود:- عايز الفيديو.
عقدت حاجباها بعدم فهم لثوانٍ ثُم همست قائلة بتساؤل:- فيديو إيه.؟
وبنفس جموده لكن يشوبه لمحة مرارة هدر قائلًا:- الفيديو اللي أنا المفروض بخونك فيه، اللي شوفتيه يوم فرحنا.
شحبت ملامحها أكثر.. أنتفض جسدها عندما تذكرت لقطاتٍ من ذلك الفيديو المشؤوم.. بينما عيناها غائمتين بحزن لم يظهر على نبرة صوتها وهي تهتف قائلة بتساؤل قوي:- عاوزه ليه، أحنا مش خلاص قصتنا أنتهت على كدة، عاوز إيه تاني.؟
هدر قائلًا بحدة:- قصتنا أنتهت ماشي، بس أنا من حقي أعرف سبب كل اللي حصل دة كان إيه، مش بتقولي إني خاين فأنا عايز أثبت إني بريء، وصدقيني مش عشانك لأ، عشاني أنا.
شردت قليلًا في حديثه تتخيل لو كان " عاصي " بريء حقًا كما يقول.. هل بعد كل ذلك الألم والفُراق سيكون بريءٍ..! هل ركضت خلف خدعة وبسببها خسرت حبيب عُمرها..!
عادت من شرودها على صوته وهو يهتف قائلًا بتحذير:- صدقيني يا " ليال " لو مأخدتش منك الفيديو دلوقتي هجيبه أنا بطريقتي، فالأحسن ليكِ تجبيه بهدوء بدل وجع الدماغ.
نظرت إليه لثوانٍ قليلة حتى تنهدت بتعب ثُم أخرجت من سترتها الشتوية الثقيلة هاتفها.. عبثت بهِ قليلًا وخلال لحظات صدح صوت وصول رسالة على هاتفه عبر تطبيق " الواتساب ".. نظرت إليه قائلة ببرود:- تمام كدة.!
أبتسم بسخرية طفيفة قائلًا بنبرة لئيمة:- محتفظة بيه السنين دي كلها، هو عجبك أوي كدة.!
توسعت نظراتها بذهول وتوردت وجنتيها خجلًا ثُم هدرت قائلة بشراسة:- أحترم نفسك، أنا مش بتفرج على الحاجات دي، أنا مشوفتوش غير يوم فرحنا ومش كله.
قطع الخطوتين بينهما حتى شعرت بنفسها تتنفس أنفاسه.. وبدأ جسدها يتوتر بسبب قربه المُهلك على قلبها لكنها خافت أن تتراجع إلى الخلف فيشعر بتأثيره عليها لذلك وقفت بمكانها ثابتة.. بينما هو يُدرك تمام الإدراك تأثيره عليها.. يعلم أنها تتوق إليه كما يتوق إليها.. وأنها ضعيفة أمامه وأمام لمساته مثله تمامٍ..
أبتسم بإغواء قائلًا بنبرة خافتة ناعمة كادت أن تُذيبها:- ولما إنتِ مش بتتفرجي عليه محتفظة بيه ليه معاكِ السنين دي كلها، ولا يمكن اللي شوفتيه عجبك.!
أنهى حديثه بغمزة وقحة جعلتها تشهق بخجل وصدمة في آنٍ واحد ولم تستطع أن تتفوه إلا بـ:- " عاصي ".!
حاول أن لا يبتسم على ملامحها المصدومة وكم شعر بالسعادة لأن تورد وجنتيها عاد من جديد بعد أن كانت شاحبة كالأموات.. صورتها بالمرة الأخيرة التي رأها بها بالمشفى لا تفارق خياله.. ويعلم أنه لن يسامح نفسه لأنها وصلت إلى هذه الحالة بسببه..
وبنبرة بريئة مزيفة همس قائلًا:- " ليال ".!
توترت بشدة من كل ما يحدث.. فهدرت قائلة بإنفعال مُفاجيء:- مش أخدت الفيديو، أتفضل أمشي.
وبلحظة تحولت ملامحه العابثة إلى أخرى شيطانية وهدر قائلة بنبرة جعلتها ترتعش:- لو شوفتك مع الواد اللي جبتيه من المطار النهاردة دة تاني، صدقيني عندي أستعداد أقتله.
كلما كانت على وشك أن تلتقط أنفاسها يصدمها بشيءٍ ما.. كيف عرف بالأمر.. هل يُراقبها..! المجنون..
هدرت قائلة بصدمة:- أنت بتقول إيه.!
أجاب قائلًا بجمود:- إنتِ فهمتي كويس أنا قولت إيه، أنا متحكم في شياطيني لغاية دلوقتي بالعافية فبلاش أطلعهم عليكِ وعليه، أنا عندي أستعداد أحرق البلد دي باللي فيها.
اشتعل الغضب بداخلها.. ألم يُطلقها لماذا يتحكم بها الأن.. وبروحها المُتمردة المعهودة هدرت قائلة بشراسة:- ما تولع شياطينك أنت هتخوفني، بعدين أحنا مش أتطلقنا خلاص عايز إيه تاني.!
صرخ بها بجنون قائلًا:- هو إنتِ فاكرة عشان أتطلقنا هتدوري على حل شعرك، مش هيحصل يا " ليال ".
كادت أن تلكمه لكنها تماسكت باللحظة الأخيرة وصرخت بهِ قائلة بغضب جم:- شعري إيه اللي أدور عليه، أحترم نفسك ومتتكلمش معايا بالطريقة دي، ومتتدخلش في اللي ملكش فيه، إن شالله أعرف عشر رجالة مع بعض ميخصكش.
كانت ملامحه مخيفة.. صدقًا لقد شعرت بالخوف.. إما عن عيناه فهما موضوعٍ أخر.. لأن هناك نارًا حارقة تندلع منهما بتلك اللحظة وموجهة نحوها..
ضغط على أسنانه قائلًا بنبرة أرعبتها:- بعينك يا " ليال " طول مانا فيا نفس متحلميش إن في راجل غيري هيقربلك، إنتِ من ساعة ما أتولدتي مِلكي وهتفضلي مِلكي لغاية ما أموت.
لم يكن جسدها فقط من ينتفض بتلك اللحظة بل قلبها أيضًا.. خشيت أن تصل صوت نبضاته إليه لكن ماذا بيدها لتفعل.. دوارٍ لذيذ لفحها ولأنها لم تعُد تتحمل الضغط مؤخرًا فترنحت قليلًا لكن ذراعاه حاوطتها من خصرها ثُم قربها نحوه حتى التصقت بصدره.. وفي اللحظة التي لمسها بها تحرك نحوها رجال حراستها لكنها أنتبهت إليهم فرفعت كفها في إشارة منها إليهم ليتوقفوا وبالفعل نفذوا الأمر..
بينما هو لم يكُن مهتمٍ بأي شيءٍ سواها.. كان يناظرها بقلق وخوف من أن تنتكس مرة أخرى.. رفع كفه ولمس وجنتها يُربت عليها بخفة وحنو قائلًا:- إنتِ كويسة، تعالي نروح مستشفى.!
لا تصدق كم الحنان المُتدفق من نظراته إليها.. وكم كانت تفتقد كل هذا.. هي تُحبه.. بل تعشقه ولا تعرف كيف الهروب والخلاص من هذا الحُب.. وهو أيضًا لا يقل عنها.. إذًا ما الحل..!
تنهدت بتعب قائلة بهمسٍ خافت:- أنا كويسة.
كان الطريق من حولهما صحراويًا خاليًا من الناس مع أشعة شمس الشتاء الدافئة بذلك الوقت مما جعل الأجواء هادئة بشكل جميل بالنسبةِ لهما..
تنهد بإشتياق جارف لها ثُم استغل قربها منه ليطبع قبلة حنونة على جبهتها وهو يهمس قائلًا بخوفت حاني:- أنا أسف.
رفعت رأسها قليلًا تنظر إليه بحدائق الزيتون خاصتها ولم تتحدث.. حاوط خصرها أكثر ثُم التقط كفها الصغير بين قبضته القوية وسار بها نحو سيارتها.. بينما هي كانت تستند برأسها على صدره الصلب وتتمنى لو تبقى هكذا للأبد..
وقف أمام باب السيارة الخلفي وقام بفتحه ثُم ساعدها لتستقر بمقعدها ولكن قبل أن يُفلت كفها أنحنى قليلًا نحوها ثُم قام بطبع قُبلة حارة.. مشتاقة على كفها الأبيض الصغير.. رفع رأسه تجاهه ليراها تطالعه بحزنٍ قتلهُ..
همس قائلًا بنبرة خرجت على هيئة رجاء لكنها أستطاعت أن تلمح الخوف بها وبكل خلجاته:- إوعي تحبي حد غيري يا " ليال ".
لم تجيب بشيءٍ لكن نظراتها كانت كافية لأن تخبره أنها لم ولن تعشق غيره طالما بصدرها نفسٍ يتردد..
أبتعد عنها بصعوبة ثُم أغلق الباب وأشار لرجالها أن يتوجهوا لسياراتهم.. أحتل " جلال " مقعد السائق ثُم أدار السيارة وبدأ يتحرك بها مُبتعدًا عن مرمى نظرات هذا العاشق..
نظر إليها قائلًا بتساؤل جاد:- حضرتك كويسة يا هانم.؟
اومأت لهُ دون أن تجيب فهي بتلك اللحظة مُنهكة وبشدة.. لكن صدح صوت بداخل رأسها يتساءل بإهتمام عن شيءٍ هامٍ جدًا.. وجدت نفسها أمام سؤال صعب للغاية.. لماذا لم تُفكر لمرة واحدة أن تقوم بالكشف عن الفيديو الذي معها..؟!
----------------------------------
بعض الإختبارات تكون سببٍ في بداية جديدة لك.. نهاية لأيامٍ كنت بها ذلك السيء الذي يكرهه الجميع وينفر منه.. وبداية لشخصٍ أخر جيد.. يُعانق الحياة لتبدأ المُتعة الحقيقية..
كان " رامز " يجلس بداخل كافيه صغير برفقة مجموعة من أصدقاءه القُدامى.. والحق يُقال أن جلستهم كانت ثقيلة على قلبه بشدة.. فهو بعد الدرس الأخير الذي تلقاه من قِبل ابن عمه " عاصي " وهو أصبح ينظر إلى الأمور بمنظورٍ أخر.. وما يدركه الأن أن تلك الرفقة ليست جيدة..
صدح صوت واحدًا من الجالسين ويُدعى " رامي " هادرٍ بتساؤل:- أمال أنت بتجيب دلوقتي مزاجك منين يا " رامز ".؟
أجاب الشاب بثبات قائلًا:- لا أنا الحمد لله بطلت ومش هرجع تاني للطريق دة.
أبتسم رفيقه قائلًا بسخرية:- بطلت، كل دة عشان حتت علقة من ابن عمك.!
أجاب " رامز " قائلًا ببرود:- لا مش عشان العلقة، أنا بس لاقيت إن هو معاه حق وخايف على مصلحتي، المخدرات دي كانت هتجيب أجلي في يوم، والسرقة مش طريقي لإن أنا مش محتاج عشان أسرق، أنا ابن السليمانية لو نسيت.
تجهمت ملامح الشاب وهدر قائلًا بحدة:- قصدك إن أحنا عشان مش أغنيا زيك فالسرقة أتعملت للي زينا ولا إيه.!
نظر إليه " رامز " بغضب ثُم هدر قائلًا بضيق:- متحورش في الكلام، مش قصدي، وبعدين أنت مش فقير ومش لاقي تاكل يعني، أنت أهلك موظفين وحالهم المادي كويس، وتعبوا عليك لغاية ما دخلت كلية هندسة، ولولا المخدرات مكنتش هتحتاج تسرق، يعني طريقك من البداية غلط، ونصيحة مني أرجع عن الطريق دة وفوق بدل ما تندم.
تدخل رفيق ثالث جالس بينهما قائلًا بمهادنة:- خلاص يا شباب نهدى، كل واحد حر ويمشي في الطريق اللي يريحه، اللي عايز يبطل يبطل واللي مش عايز براحته، محدش بيشيل غير شيلته يا صاحبي.
تنهد الشابين وصمتا لكن قبل أن يفتح شخصٍ أخر أيَّ حوار صدح صوت أنثوي عاليًا حولهم.. نظر الجميع إلى مصدر الصوت ليتفاجئوا بواحدة من النادلات تتشاجر مع مجموعة شباب أخريين يجلسون على طاولة قريبة منهم.. واستمعوا إلى الحوار التالي..
هدرت الفتاة قائلة بعصبية:- أحترم نفسك، عيب اللي أنت بتقوله دة، لو مش هتقعد محترم أتفضل أمشي.
صرخ الشباب بالمقابل قائلًا بغضب وتكبر:- إنتِ مين عشان تكلميني كدة، بقا حتة بت شحاتة وجربوعة زيك ترفع صوتها عليا.
حاولت أن تُهديء من عصبيتها فهي في أشد الحاجة إلى هذا العمل.. لكنها بالنهاية لم تتمالك نفسها، هي لم تعتاد أن تُهان ولن يأتي من يفعلها الأن.. لذلك هدرت قائلة بحدة:- أنت شخص مش محترم، وحاولت تتحرش بيا.
أنتفض الشاب واقفٍ وهو يصرخ بغضب جم:- إنتِ كدابة أنا مقربتش منك، وإنتِ بترمي بلاكِ عليا.
=لا مش كدابة وفي كاميرات في المكان وشغالين كلهم، واللي حصل أتصور.
وبلحظة غضب رفع الشاب كفه عاليًا ليهوى بها على وجنتها لكن قبل أن تصل كفه إليها كانت هناك قبضة قوية تلتقط قبضته ثُم صدح صوت جهوري قوي قائلًا:- عيب عليك اللي بتعمله دة، بترفع إيدك على بنت، دي مش رجولة.
نظر إليه الشاب بغضب هادرٍ:- وأنت مالك أنت، سيب إيدي.
ترك " رامز " قبضته ثُم هدر قائلًا بصرامة:- أهو سيبت إيدك واريني بقا هترفعها عليها إزاي.
تدخل رفاق الشاب ورفاق " رامز " حتى وصل مدير المكان وقام بفض النزاع والإعتذار لجميع الأطراف.. وفور أن أنتهت المشادة نظر إلى النادلة ثُم هدر قائلًا بصرامة:- وإنتِ خدي باقية حسابك وأمشي، أنا مش عايز مشاكل في مكان أكل عيشي.
انفض الجمع ووقفت هي بمفردها تتطلع نحو الوغد الذي تسبب في كل هذا لكنه بادلها النظر بإستعلاء وغرور.. كانت تعلم أن مُديرها شخص غير مُتفاهم وأول خطأ منها سيقوم بالإستغناء عنها وها قد حدث ما توقعته.. ذهبت إلى غرفة تبديل الملابس وفور أن أنتهت خرجت تركض إلى الشارع وهي تُحاول أن لا تبكي.. لكن بمجرد أن أبتعدت عن الكافيه وجدت " رامز " يقف أمامها يمنعها من التقدم.. نظرت إليه بنظرات غامضة لم ينتبه إليها واستمعت إليه يهتف قائلًا بشفقة:- أنا أسف على اللي حصل جوة، ممكن ترجعي معايا وأنا هكلم صاحب الكافيه يرجعك تاني.
كانت صامتة تتطلع نحوه بغضب يشوبه كُره غير مُبرر بالنسبةِ لهُ.. بينما هو وقف يتأملها بهدوء ويحاول أن لا تكون نظراته وقحة.. كانت فتاة قصيرة.. بجسد نحيف مُفتقد لمعالم الأنوثة المعروفة.. بشرتها قمحية تميل إلى السُمرة.. شفاه غير مُمتلئة وصغيرة.. أنف صغير يليق بوجهها.. الميزة المُلفتة للنظر بوجهها هو لون عيناها العسلية كنهر ذائب من العسل الصافي.. ترتدي حجاب لا يُظهر خصلة احدة من خصلات شعرها.. يبدوا عليها الفقر وخمن أنها لذلك خرجت إلى العمل..
عاد من شروده بها وهي تهدر قائلة بنبرة نافرة.. قاتمة:- متعملش نفسك بطل، أنت زيك زيه، ويمكن ألعن.
أحتلت الصدمة ملامحه حتى أنهُ شعر أن حاجباه وصلا إلى منابت خصلاته.. فغر فاهه بذهول وعجز عن النطق من شدة الصدمة.. لماذا تقول عنهُ هذا الحديث وهو للمرة الأولى يراها اليوم.. قبل دقائق بالداخل.. وقبل أن ينطق بشيءٍ كانت تركض من أمامه وبلحظات كانت تبخرت قبل أن يعرف عنها أي شيءٍ..
صدح صوت رنين هاتفه وكان المُتصل " عاصي ".. تنهد بضجر من هروبها ثُم أجاب المتصل قائلًا:- ايوة يا " عاصي ".
وصله صوته من الطرف الأخر قائلًا بتساؤل:- تعرف حد بيفهم في الصور والفيديوهات الفيك.؟
عقد " رامز " حاجباه بعدم فهم لكنه أجاب قائلًا بجدية:- أيوة أعرف كتير بس عايزه ليه.!
=أبعتلي عنوان حد منهم أجيلك عنده، أنا عايزه ضروري دلوقتي.
أعطاه " رامز " عنوان واحدًا من رفاقه وأخبره أنه سيوافيه هناك خلال نصف ساعة.. ذهب إلى ابن عمه والفضول يتأكله ليعرف ما الأمر...
-----------------------------------
في تمام الساعة الرابعة عصرًا كانت " چيداء " تجلس بمطعم راقي مع مجموعة من الأشخاص من النساء والرجال يناقشون عدة أمور بخصوص العمل.. وبالفعل كان هذا غذاء عمل مهم مع مجموعة أجنبية مشاركة مجموعتهم في صفقة ما.. وعلى طاولة قريبة منها كان يجلس " قُصي " مع واحدًا من زبائنه يتعاقد معه على قضية أخرى عندما لمحها تجلس بهيبة ورُقي لا يليق إلا بها.. كانت تبتسم بهدوء وصفاء كأنها تمتلك هذا الكون الواسع.. وهي بالفعل تمتلك جاذبية الكون بأكمله..
بعد مرور ساعة رحل الزبون الخاص بهِ ورحل أيضًا الأشخاص الذين كانوا معها.. وكانت هي تجلس بمفردها تتابع بعض الأعمال على جهاز -اللابتوب- خاصتها بهدوء.. لكنها وجدت من يسحب المقعد الذي أمامها ويجلس وهو يهتف قائلًا بمزاح راقي:- تسمحيلي أقعد معاكِ.!
نظرت إليه وهو يجلس ثُم أبتسمت بخفة قائلة بمزاح مُماثل:- ما أنت قعدت، هو أنت لسة محتاج إذن.!
ضحك " قصي " بمرح قائلًا ببساطة:- أنا لاقيتك قاعدة لوحدك قولت أجي أسلم عليكِ وبالمرة نتغدا سوا بدل ما كل واحد يتغدى لوحده.
وبنفس إبتسامتها هدرت قائلة برقة:- ميرسي يا " قصي " بس أنا هتغدا في البيت.
تنهد الشاب ثُم أسند ذراعاه على الطاولة قائلًا بنبرة هادئة:- " چيداء " هو إنتِ بجد مش فكراني.؟
عقدت حاجباها بعدم فهم ثُم همست قائلة بحيرة:- لا طبعًا فكراك، أنا فاكرة لما كنت بتيجي زمان البيت عندنا وتشوف " جواد "، أنا بس معرفتكش لما كبرت وشوفتك أول مرة.
أبتسم هو بشرود ثُم هتف قائلًا بنبرة رخيمة:- أنا برضه لما فتحتي عينيك في المستشفى حسيت إني أعرفك بس بعدين قولت أكيد مش هي، بس لما سمعت إسمك اتأكدت إن إنتِ.
توردت وجنتيها للطريقة التي يتحدث بها فتنحنحت بهدوء قائلة مغيرة الموضوع:- أمال أنت رجعت مصر من إمتى، " جواد " كان قالي إنك هاجرت وأنت صغير مع أهلك ومكنش في نيتكم ترجعوا.
اومأ لها بهدوء جاد ثُم هدر قائلًا:- دي حقيقة، مكناش هنرجع بس من حوالي سنة كدة والدي أتوفى في كندا، والحياة هناك مبقتش مريحة ليا ولوالدتي، فقررنا نرجع بلدنا تاني، ورجعنا من ست شهور وفتحت مكتب المحاماة بتاع والدي واشتغلت فيه.
هزت رأسها بلا معنى ثُم همست قائلة بشفقة يشوبها الحزن:- البقاء لله، ربنا يحفظلك والدتك.
أبتسم على رقتها وشعورها بهِ ثُم اومأ لها بصمت.. وبعد قليل أخذهما الحديث إلى العديد من الأمور حتى مر الكثير من الوقت دون أن يشعرا.. كان الحديث بينهما هاديء.. أحيانًا يتضاحكان على بعض الأمور.. وأحيانًا يتحدثان عن ذكريات طفولتهم.. وهكذا كانت الجلسة بينهما لطيفة.. هادئة.. مع صوت الموسيقى الناعمة التي تصدح في الأجواء لتعزف مقطوعة أخرى من الأحداث التي ستُغيير الكثير فيما بعد....
-------------------------------------
بالمشفى أنتشرت جميع العائلة بالردهة التي يقع بها غرفة " روان وتيمور " كانت الأولى قد أستفاقت بعد عدة ساعات قليلة من وصولها المشفى حيثُ أن إصابتها لم تكن بالخطيرة بينما الأخير فهو مازال تحت تأثير المُخدر بعد أن قام الأطباء بتضميد جرحه.. ونظرًا إلى أنهُ الجرح الثاني بالرأس وبفترة قصيرة قرر الأطباء أن يضعونه تحت المراقبة لمدة أربعة وعشرون ساعة..
كان يجلس " مختار العفريت " بكافيتيريا المشفى برفقة " زين " والسيد " منعم " بينما باقية العائلة بالأعلى بغرفة " روان ".. تحدث الأول قائلًا بتنهيدة مُتعبة:- والله " تيمور " طلع راجل بجد، فدى بنتنا بحياته وكان هيروح فيها لولا ستر ربنا.
اومأ لهُ زوج إبنته الراحلة ثُم هتف قائلًا برزانة:- معاك حق يا حاج، " روان " مكنتش هتستحمل حادثة زي دي وكان ممكن بعد الشر تروح فيها، الحمد لله إنها جات على قد كدة.
أجاب الجد قائلًا بجدية:- أيوة الحمد لله، وربنا يقدرنا ونقدر نسد جمِيل الراجل دة اللي بقا في رقبتنا.
كان " زين " يجلس بينهما شاردٍ.. شاردٍ بحُزن على شقيقته التي أصيبت وسال دمائها هكذا.. لكن بفضل الله نجت..
بتلك اللحظة وصل السيد " مجدي " إلى المشفى.. رحب بهِ " مختار العفريت " وبعد أن أطمئن على الحالة الصحية لـ تيمور و روان " أشار إلى " زين " ليلحق بهِ إلى الخارج في الخفاء.. استأذن الرجُل ثُم رحل وبعد دقيقتين تبعه الشاب الحانق إلى الخارج وبمجرد أن رأه هدر قائلًا بتساؤل:- خير يا ريس " مجدي " في حاجة عايز تقولها.؟
تنهد الموظف قائلًا بجدية:- بصراحة يا " زين " باشا في حاجة أنا شاكك فيها وحضرتك لازم تعرفها.
=حاجة إيه أنطق.؟
أجاب الرجُل قائلًا بجدية:- أنا شاكك إن اللي حصل دة مُدبر ومش قضاء وقدر أو غلطة من حد من العُمال، بس الشهادة لله مكنش مقصود منها الأنسة " روان ".
صُدم " زين " من حديث الرجُل وهدر قائلًا بحدة:- قصدك إيه، وعندك دليل على الكلام دة.؟
اومأ السيد " مجدي " قائلًا بجدية:- أنا شاكك في حد كدة بس مش عايز أتهمه من غير دليل، سيبني يومين بالظبط وهيكون في دليل في إيدك.
عقد الشاب حاجباه قائلًا بحيرة:- أنت شاكك إن في حد عايز يخلص من " تيمور ".؟
=أيوة، ومش شاكك أنا متأكد، الشاب من ساعة ما اشتغل معانا وهو شغله نضيف وفي حاله، وحضرتك عارف النوعية دي بتضايق أي حد ماشي عوج، وأنا هتأكد من اللي عملها وهبلغك على طول.
وافقه " زين " وطلب منه أن لا يتأخر أكثر من يومان.. فهو لن يستطيع الإنتظار ليُحاسب من كان على وشك قتل شقيقته....
-----------------------------------
بمكانٍ نائي على شاطيء البحر يجلس في سيارته يُراقب السماء بلونها الداكن.. لقد ذهب النهار وحل الليل.. كانت النجوم تلمع فوقه بصورة مبهرة لكنها لم تؤثر في ذاك صاحب النفس السوداء..
فتح شخصٍ ما الباب الأخر للسيارة وجلس بجانبه وهو يهتف قائلًا بجدية:- أسف ياباشا اتأخرت عليك.
صمت لثوانٍ ثُم هدر قائلًا بتساؤل دون أن ينظر إليه:- جيبت اللي أنا عاوزه.
وضع الرجل بينهما ملفٍ كبير الحجم ثُم هدر قائلًا بجدية:- الملف أهو يا باشا وفيه كل تحركاتهم، كل حاجة حصلت للعيلتين النهاردة عند سعاتك.
اومأ لهُ ببرود ثُم هدر قائلًا:- روح أنت.
أنصرف الرجُل سريعٍ بينما هو التقط الملف ليظهر مجموعة من الصور تضُم عائلة " آل عفريت " و " آل سُليماني "..
جميع الأحداث التي حصلت معهم اليوم موجودة بالتقرير ومرفق معها صور أيضًا.. صور لـ " تالين و أنس ".. صور لـ " عاصي و ليال " صور لـ " شهد وأسعد ".. صور لـ بتول وروان وكريم " بالجامعة والعمل.. صور لـ " روان وتيمور " عندما قام الإسعاف بنقلهما إلى المشفى وتقرير المشفى أيضًا عنهما..
لم تكن مجرد معلومات عادية بل هي مراقبة دقيقة لعائلتين من قِبل شخص لا يشغل نفسه إلا بهما.. شخصٍ كل ما يسعى إليه هو الوصول إلى هدفٍ واحدًا وليحترق العالم من بعده....
------------------------يُتبع-----------------