أخر الاخبار

رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي الثالث عشر

 رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي

رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي

 رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي

الثالث عشر

 

إعلان..

مطلوب مربية مقيمة لطفلة لم تتجاوز الستة أشهر وطفل في العاشرة من عمره

للاستعلام \ السيد لوجان سيرادور ، تليفون رقم، .

******************

ألقى بالصحيفة جانباً بتنهيدة ثقيلة فسألته السكرتيرة بعد أن لاحظت مدى يأسه وإحباطه:

ـ ألم تتقدم مربية مناسبة بعد؟؟

هز رأسه بعنف كأنه يحاول التنفيس عن غضبه المكمور بأي وسيلة:

ـ تقدمت العشرات ليشغلن الوظيفة، ولكنهم كن دون مستوى توقعاتي.

ـ سيد لوجان، أعتقد أنك يجب أن تخفض من مستوى توقعاتك قليلاً ، 

ـ مستحيل، من تربى أولادي لابد أن تكون مثالية. 

ـ ولكنني اطلعت بنفسي على بعض شهادات التوصية، لقد رفضت عروضاً مغرية.

ـ لا تهمني التوصيات، من ستتعامل مع أولادي لابد أن تكون امرأة ذات قلب حنون. 

ـ أعتقد أنك تضيع وقتك. 

ـ أتمنى أن أعثر قريباً على امرأة بهذه المواصفات، جارتنا دمثة الأخلاق ولم تعترض أبداً على استضافة جمان وألكسيس، .ولكنني لا أحب أن أثقل على أي مخلوق. 

تبرمت باتهام:

ـ لذلك رفضت مساعدتي

ـ مونا، هذا الموضوع أغلق النقاش فيه للأبد، اذهبي لمكتبك وأنجزي مهامك. 

ـ كما تأمر سيد سيرادور.

قالتها بنبرة جافة وهي تستقيم بجزعها وتشمخ بأنفها باستعلاء مع نظرة تتقد برودة، ثم غادرت تتبعها طقطقات كعبها العالي على الأرض المصقولة. 

دفن وجهه بين يديه ليغرق في بحر أفكاره المتلاطمة لعله يجد حلاً بين أمواجها. 

علا رنين الإنتركوم ثم تبعه نبرة سكرتيرته الباردة:

ـ سيد سيرادور، امرأة ما، تطلب الإذن بالدخول، من أجل الإعلان..

قالت جملتها الأخيرة وكأنها تبصقها، ثم تابعت بسرعة بنبرة منتصرة:

ـ ولكنها لا تحمل أي أوراق ولا توصيات.

هم أن يطلب منها صرفها، ثم تراجع في آخر لحظة:

ـ اطلبي منها الدخول. 

وقفت تفرك يديها بتوتر تحاول التجلد أمام نظرات تلك الشقراء الثلجية، وضعت يدها على شعرها الملفوف كعكة بسيطة لتتأكد من ثباتها، ثم عدلت من هندامها البسيط المكون من جيب أسود قصير وبلوزة بيضاء.

 قلبت شفتيها متذكرة كلمات زاك وهو يقنعها بارتداء هذه الملابس ولم تستطع أن تحمله على أن يخبرها عن المصدر الذي حصل منه على هذه الملابس الباهظة.


 وفي النهاية أخبرها بعد أن أقسمت أنها لن تلمس جلدها قبل أن تعرف، خضع لها وأخبرها أنه وجد عملاً في مخزن للملابس المستعملة، وأنه حصل عليهم بدون أن يدفع فلساً واحداً. 

كان سؤالها التالي الأكثر صعوبة هو ما أوقفه أمامها مرتبكاً:

ـ لماذا تساعدني؟

ثم أجابها ببساطة:

ـ لأنك تتلهفين للحصول على هذا العمل. 

ـ ولماذا تهتم؟؟

ربت على كتفها بابتسامة داعمة لن تنساها أبداً، فقد تملكها شعور رهيب بالأمان ظنت أنها لن تستشعره أبداً:

 ـ اذهبي واحصلي على الوظيفة، والأوراق أخبريه أنك، ..

ـ يا آنسة... يا آنسة. 

انتبهت لنظرات الشقراء التي تحولت لنيران لاهبة لو كانت الكلمات تردي لأردتها قتيلة وهي تخبرها بموافقة السيد سيرادور لمقابلتها:

ـ تفضلي من هنا. 

وقفت أمام الباب لحظات تستجمع شجاعتها قبل أن تفتحه وتدخل. 

نهض واقفاً ليستقبل ضيفته التي أقبلت عليه بابتسامة مشرقة أخفت توترها وارتباكها المصاحب لها منذ قرأت الإعلان. 

*************

وقفت أمامه تمد يدها بابتسامة تجمدت عندما لم يتحرك لمصافحتها، بل أنه تجمد بالمعنى الحرفي للكلمة وعيناه تحدقان فيها ببرود مخيف، ووجه الذي حال لونه للون الأبيض كأنه رأى شبحًا.

 أعادت يدها جانبها محرجة:

ـ عفواً سيد سيرادور، ظننت أن السكرتيرة سمحت لي بالدخـــ... .

وأخيراً بدأ التمثال المتخشب يتحرك، ربما ليتأكد مما تراه عيناه، فقد استمر تحديقه فيها بجنون زاد من شعورها بالرعب، فتراجعت بالفعل لتتقي تلك الانفجارات التي تتلاعب بعينيه وهو يبتعد عن مكتبه ويقترب منها.

وضعت حقيبتها أمام صدرها كحائلًا واهيًا أمام عاصفة غضبه الموشكة، بصوت متردد: 

ـ يبدو أنني أخطأت بقدومي، آسفة. 

همت بالتحرك ولكنه اقتنص مرفقها وأوقفها أمامه يمعن التحديق فيها وقد بدأ يهزها بقوة ولا أي كلمات تتكاثر على لسانه تستطيع وصف شعوره في هذا الوقت.

 

لسبب ما احتملت فورة غضبه، ربما لإحساسها بعمق حزنه الدفين ذلك السواد الغاضب في عينيه، ثم هتفت تدافع بدموع تسيل كالفيضان:

ـ أنا لم أفعل شيئاً..

توقف عن هزها فجأة وعيناه تلتهمان شفتيها ثم تراجع مصعوقاً بعد أن تركها تترنح، وهو يهذي بكلمات غير مفهومة استطاعت التقاط بعضها:

ـ أنتِ...أنتِ لستِ هي!! 

ترنح جسده الضخم فوجدت نفسها تهرع إليه لتسانده حتى جلس على أحد المقاعد المتراصة في المكتب، دفن وجهه الشاحب بين يديه.

تلفتت حولها حتى وجدت ما تبحث عنه على المكتب أسرعت لتحضر كوب الماء وناولته له ليرتشفه بلهفة غريبة. 

تنهد بصوت مسموع وأعاد رأسه للخلف بضع لحظات بعيون مغمضة، كانت تتطلع له بصمت تحاول تجاهل إحساسها الغريب، الشديد الغموض:

ـ سيد سيرادور! 

فتح عينيه وكأنه اكتشف لتوه وجودها، نهض واقفاً يكلل التعب هامته:

ـ أعتذر. 

ـ تبدو كمن رأى شبحاً. 

حدجها بنظرات متمعنة، وخص شفتيها بفحص مطول قبل أن يتنحنح عائداً خلف مكتبه:

ـ أنتِ تشبهين لحد كبير شخصاً ما، ولكنك لست هو..

ـ وكيف تأكدت، أنا لم أخبرك باسمي بعد؟؟

حاول أن يشيح بنظراته عن شفتيها بمحاولة فاشلة، فأطرق رأسه متمتماً:

ـ أنتِ لستِ هي، أنا واثق، أعتذر مرة أخرى، لابد أنني روعتك.

ـ ربما شعوري لا يقارن بشعورك، يبدو أنك كنت تكن لها إحساس خاص جداً..

أومأ برأسه بحركة شاردة لا شعورية:

ـ كانت... أم أولادي. 

كتمت شهقتها:

ـ هل ماتت؟؟

رفع رأسه بحدة يستغرب ردة فعلها ثم هز رأسه مرة أخرى:

ـ نعم منذ عدة شهور.

ـ أنا آسفة حقاً، أعتذر ، سأذهب..

ـ انتظري.

وقفت متصلبة:

ـ جئت لطلب وظيفة مربية، أليس كذلك؟

أجابته بابتسامة متوترة:

ـ لا أعتقد أن طلبي سيلقى قبولاً، وجودي أمامك بهذا الشبه الذي أراه في عينيك لزوجتك الراحلة،؟ ولكن، كيف تأكدت أنني لست هي حقاً؟ 

وكأن سؤالها جواز جديد لمرور نظراته الشرهة على شفتيها المكتنزتين.

ـ شفتاكِ، كان لزوجتى خال أسود على شفتها السفلى. 

لم يلاحظ شحوبها الشديد وهي تعتدل لتجلس باستقامة وقد جاء دورها لتشرد:

ـ لم تخبريني عن اسمك، يا آنسة؟؟

التفتت بحدة ليتراجع لاهثاً فقد كاد يقسم أنها عينا شيارا التي ترمقانه بتلك النظرات التي يحفظها عن ظهر قلب. 

وقفت بحدة:

ـ الأمر لن يستقيم بهذا الشكل، سأذهب..

وبخطوات بطيئة اتجهت للباب وقبل أن تدير مقبضه هتف لوجان:

ـ جمان، تبلغ من العمر ستة أشهر فقط، تشتاق لأمها التي لم تحملها أبداً بين ذراعيها .

لم تعلم قبل هذه اللحظة أنها تملك كل هذه الدموع السخية التي أخذت بالانسياب على وجنتيها، وازدادت غزارة عندما عاد يتكلم:

ـ وألكسيس، صبي رائع في العاشرة من عمره، لم يفهم أبداً لماذا تركته أمه وماتت، ولم يقتنع حتى هذه اللحظة. 

التفتت لتفاجئه بدموعها فسألها متجهماً:

ـ لماذا تبكين؟؟

رفعت كتفيها بحيرة:

ـ لا أعرف. 

ـ ربما كان وجودك مقدر لأسباب لا ندركها في وقتنا الحاضر، لم يكن القدر رحيما معي، ولكنني ما زلت مؤمنة به. 

أومأت ببطيء:

ـ وأنا أيضاً أؤمن بقدري. 

كان قد وقف جوارها ثم أشار لها لتعود مكانها على المقعد:

ـ تفضلي. 

هزت رأسها بإيماءة غير مرئية وهي تتحرك بهدوء. 

جلس أمامها متخلياً عن مكانه السلطوي خلف المكتب ثم سألها:

ـ والآن ما اسمك؟ 

تردد دام لحظات قبل أن تجيب:

ـ فيولا... أليسندرو..

أخرج تنهيدة كبيرة:

ـ أنتِ حتى لا تقربين لها، ظننت أنك في النهاية ستصبحين تؤماً ضائعة لها أو ابنة عم ما.

ـ سيد سيرادور. 

قاطعها برفض لأي أعذار أخرى:

ـ هل تحملين أي شهادات أو توصيات؟؟

هزت رأسها بالنفي:

ـ ليس في الوقت الحالي، لقد لقد وقع لي حادث منذ وقت قريب، أضعت خلاله كل أوراقي، لن أكذب عليك، حتى الأمس فقط كنت أقيم في ملجأ للمشردين، حتى رأيت إعلانك في أحد الصحف الذي أستخدمه كغطاء ليقيني شر لسعات البرد. 

تراجع مدهوشاً مما يسمع، ولم يقاطعها وهي تتابع:

ـ صديق ساعدني لأكون لائقة كما ينبغي لأحضر هذا اللقاء. 

بعد لحظات صمت هتف:

ـ أقدر صراحتك يا آنسة، أنا لن أغامر بأولادي في مجازفة غير محسوبة العواقب، ولكن الشبه بينك وبين زوجتي الراحلة يدفعني للتجاوز بحذر شديد. 

قفزت من مكانها باندفاع:

ـ أتعني أنني سأحظى بالوظيفة؟

ـ نعم ولكنك ستكونين مراقبة تماماً في الفترة الأولى، وعند أول خطأ ولو غير مقصود، لن يكون هناك فرصة ثانية، وثقي بكلمتي.

ـ لن تكون بحاجة إليها سيد سيرادور، ثق بكلمتي أنا أيضاً.

ـ يبدوا أننا متفاهمان، حتى الآن، هل حصلتِ على أي شهادات دراسية.

ارتبكت فضاقت عيناه بارتياب:

ـ في الحقيقة يا سيد سيرادور، لن أكذب عليك، بعد الحادث ضاعت مني الكثير من الذكريات وزاد ضياع أوراقي من عظم الكارثة.

ـ متى كانت هذا الحادث؟

ـ لا أعرف، لقد استيقظت لأجد نفسي في مشفى، لا أحد يعرفني ولم أتعرف على أي أحد، أخبروني أن رجلاً ثرياً كريماً يهتم بعلاج الحالات أمثالي، وما لا تعرفه عني أني لا أطيق الصدقة.

أحب الحصول على حقي بالحياة بعرق جبيني، ذات ليلة غادرت المشفى ولم أعد أبداً، ولكن صديقي زاك، وعدني أن يساعدني بالحصول على أوراقي. 

قضمت شفتها السفلية بعفوية فازدرد لعابه بصعوبة ليشعر بحريق يلتهم أحشاؤه، نفس الحركة اللاشعورية التي كانت تفعلها شيارا. 

انتفض واقفاً:

ـ حسناً يا فيولا، غداً سنكون بانتظارك، السكرتيرة بالخارج ستعطيك عنوان منزلي، ولكنني أحذرك، صديقك زاك هذا غير مسموح له بزيارتك في بيتي، يمكنك لقاءه في يوم إجازتك فقط

ـ ولكنه ليس.. .

وضاعت باقي كلماتها وهو يفتح لها الباب ويشير لها بالخروج وكأنه ما عاد يحتمل وجودها بعد الآن.

الفصل التالى

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-