أخر الاخبار

رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي الفصل الثاني عشر

 رواية عداء الدم

رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي


رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي

الفصل الثاني عشر

ـ أنا أسمعك ليو، لماذا لا تتكلم، هل هربت منك فصاحتك وعجزت مناوراتك عن التواري مني؟؟ أخبريني ماذا تكون لك هذه المرأة بالضبط لتولي أمورها كل هذا الاهتمام حد تجنيد وكالتي للتحري عنها، 

وقف ليو أمام مكتبه وأطرق رأسه بتنهيدة كبيرة:

ـ سأخبرك يا والدي، سأخبرك. 

********

ـ يا آنسة، يا آنسة، هل تسمعينني؟؟

ـ نعم، بالطبع، لست صماء، ولكن حديثك لا يعجبني.

سخرت المرأة الأكبر سناً وهي تزيح عويناتها الغليظة عن عيناها:

ـ وكأنك يحق لك التنمر، اسمعيني جيداً أيتها الفتاة، نحن هنا في هذا المكان نقدم لك ولأمثالك فرصة العمر بتقديم وظائف تقيكم شعر العوز والجوع، ومن الواجب عليكم أن تمدوا أيديكم لنا شاكرين.

 

عقدت السمراء ذراعيها على صدرها وشعرها الأسود الغجري يتأرجع على ظهرها بالتتابع مع حركتها:

ـ سأكون شاكرة وممتنة لو رأيتك أيتها الشمطاء تعاملين الجميع بالمثل، ولكنني راقبتك وأعرف ما تفعلين، الوظائف الجيدة تمنحينها لمن يدسوا لك الأموال في يدك النهمة، أما الباقون أمثالي من لا حول لهم ولا قوة فتلقين لنا بالفتات من الأعمال الحقيرة التي لا تخرج عن عاملات النظافة والعمل في مواخير سيئة السمعة..


شحب وجه المرأة النحيل حتى برزت عيناها بهلع صائحة:

ـ أخفضي صوتك، أقسم أن أختم على أوراقك فلا تقبلي في أي عمل ولا حتى عاهرة كما يليق بك، لقد أرسلتك في الشهر الماضي لخمس وكالات وجميعهن أعدنك لسلاطة لسانك وقبح أخلاقك، فتاة غيرك تعاني تقشفك وعوزك تقبل بأي شيء. 

ـ لا أيتها العجوز، لن أقبل بأي شيء، وإلا شكوتك لرؤسائك. 

ثم ألقت الورقة بوجهها مردفة:

ـ وهذا العمل سأخبرك جيداً أين تضعينه لو قدمته لي مرة أخرى..

احمر وجه المرأة محرجاً وتلجلجت على لسانها الحروف والفتاة تكمل:

ـ المرة القادمة التي تستدعينني فيها أتمنى أن يكون من أجل عمل محترم. 

ثم استدارت لتجد طابور الفتيات اللواتي يقفن خلفها يحدقن بها مصدومين ثم فجأة تهللن وجوههن وهن يصفقن برحابة ، وقفت تنصت للفتاة التي وقفت بعدها في الطابور وهي تصيح بالموظفة:

ـ كما قالت لك صديقتي، هل لديك عمل جيد لي أم أمر عليكِ في وقت آخر.

 

ضحكت بغنج وهي تؤرجح شعرها على ظهرها منصرفة من المكان الخانق، 

دخلت الملجأ التي تقيم به منذ فترة ليضيق صدرها بكم الوجوه البائسة التي تحيط بها، نساء تحتض أطفالهن بخوف ورهبة، وقد حلت تجاعيد الألم محل وجوههن.

 رجال مشردون ربما أضاعوا طريقهم وربما احتجب عنهم، وأطفال سرقت أحلامهم في مهدها فلم يجدوا هدف بقاءهم على قيد الحياة، وقرروا محاولة الصمود مع كل هذه الجموع المتهالكة من البشر مدفوعين بحب الحياة، التي ضنت عليهم حتى بابتسامة أمل.

 اتخذت طريقها لمكانها المعتاد في أحد الأركان تنوء بنفسها عن أي اختلاط، فأي أسئلة تطرح عليها للتعارف البسيط لا تشعر برغبة في الإجابة عنها، ربما لأنها تشعر أنها في غير مكانها. 

ضحكت ساخرة من نفسها.، ومن في كل هؤلاء البؤساء يظن أنه في مكانه الطبيعي، لابد أنه الشعور السائد، فقط كي يهون عليهم مرور الأيام الزاحفة ببطيء نحو مستقبل معتوم الجهة.

ـ مرحباً

التفتت بنظرات خشنة للمتطفل على وحدتها، حدقت بذلك الشاب النحيل بملابسة الرثة ولكن مهندمة كمن يحاول التمسك بآخر حقوقه ولو بالمحافظة على مظهره قبل أن يطويه النسيان، أجابته بدون ترحاب:

ـ أهلاً   

ثم أشاحت بوجهها لكي يفهم الرسالة، ولكنه تعمد عدم الفهم وهو يفترش الأرض جوارها ليجلس:

ـ ألن تذهبي للحصول على حصتك من الطعام

بدون أن تنظر تجاهه تمتمت بغير رغبة حقيقية لتبادل الحديث:

ـ دع الأطفال يحصلون على كفايتهم أولاً

ـ ولكن، لن يتبق لك شيء.
ـ لا يهم، أنا كبيرة بإمكاني الصمود.

ـ لا يبدو عليك الصمود فعلاً، فأنتِ شاحبة ونحيلة ونظراتك زائغة

ـ أليست هذه حالنا جميعاً؟

ـ نعم، ولكنك لا تبدين وكأنك تنتمين لهذا المكان. 

لأول مرة تلتفت نحوه بنظرة اهتمام:

ـ لماذا تقول هذا الكلام؟

ـ هذه نظرتي، وهي لم تخيب أبداً من قبل، من أين أنت؟؟

أشاحت بوجهها عنه تتجاهله مرة أخرى ثم أغمضت عيناها واتكأت بظهرها على الحائط الأسمنتي قائلة:

ـ اذهب وابحث لنفسك عن لعبة غيري، فأنا لست متفرغة. 

******************

قلب ليو الأوراق بين يديه ثم نظر للرجل الواقف أمامه بالتماع مرعب في عينيه:

ـ أهذا كل شيء؟؟

ـ نعم سيدي، لم تخرج من ذلك الملجأ منذ أسبوع..

ـ ورجلك، ألم يستطع الحصول على ثقتها

ـ ما يزال يراقبها من بعيد بعد أن أبعدته عنها بخشونتها المعتادة

تلاعبت شبح ابتسامة على شفتيه لا تقرب للسعادة بصلة وهو يتمتم:

ـ هذه هي فتاتي المقاتلة. 

ـ هل قلت شيئاً سيدي

ـ لا، استمر في مراقبتها، و... 

أنصت الرجل ولكن ليو انشغل في قراءة الجريدة، وقد اختص أحد الإعلانات على اهتمامه.

ظل الرجل في انتظار أن يكمل حديثه، عندما دفع له بالجريدة مشيراً للإعلان:

ـ أريد لرجلك أن يدفع بهذا الإعلان أمامها، دون قصد منه، ويخبرني لو أثار اهتمامها، وإن لم تلق له بالاً، الصحيفة فوراً ويخبرني، .فربما يكون قد آن أوان تدخلي. 

حرك الرجل أكتافه بقلة حيلة:

ـ ولكنني لم أفهم

زجره ليو بخشونة:

ـ أنا لا أدفع لك لتفهم، لتنفذ تعليماتي فقط، افعل ما آمرتك به فقط. 

تطلع الرجل للصحيفة وقرأ الإعلان، ثم علق باستخفاف:

ـ رغم رقة حالها ولكنها تعرف قدرها جيداً، وتعرف أن مثل هذه العائلة لن ترض بمثلها بدون أي شهادات خبرة أو توصيات محترمة

كز ليو على أسنانه:

ـ وهل تراني بانتظار رأيك؟؟؟ اذهب فوراً ونفذ تعليماتي وأخبرني بالتطورات 

ارتبك الرجل متراجعاً:

ـ أمرك سيدي. 

تحرك بصعوبة بعد خروج الرجل من خلف مكتبه، ثبت عصاه على الأرض وضغط على نواجذه وهو يعاني في الوقوف، ولم يستسلم حتى تمكن من صلب ظهره كاتماً لاهثاً كاد أن يفجر صدره محاولاً التحكم في أنفاسه. 

استدار يتأمل المنظر المفتوح من نافذته، في الماضي كان يلجأ له ليتنعم بلحظات من السكينة والهدوء، الآن لا يسبب له إلا المزيد من الغضب والاكتئاب، فلم يعد المنظر كما كان مفرحاً باعثاً على الهدوء.

 الأشجار التي كان يراها خضراء يانعة أصبحت مجرد فروع يتستر خلف أوراقها البوم والغربان، تلك السماء الممتدة الصافية أحياناً وأحياناً أخرى ملبدة بالغيوم، لم يعد يراها إلا منذرة بعواصف عاتية، وكل هذا حدث بسببها، هي تسببت بكل هذا الدمار، وهي التي ستلتقطه قطعة قطعة . 

**********************

تطلعت له بملل:

ـ أنت مرة أخرى، ألا تيأس أبداً؟؟

مد يده ليصافحها بابتسامة سمجة:

ـ اسمي زاك. 

أمسكت الهواء بادعاء ساخر لمصافحة يده الممدودة:

ـ وأنا الفتاة التي أخبرتك أنها لا تريد التعارف بأي أنواعه، لم أسر بمعرفتك، وداعاً..

ـ لم أنتِ بهذه الفظاظة، رغم أن مظهرك يوحي بالرقة. 

تطلعت للسماء ثم نظرت له بتأفف:

ـ هل أنت يائس لهذه الدرجة، أم انك لم تجد في هذا المكان من تتحمل لزوجتك غيري، لا اريد إخافتك ولكن قدرتي على الاحتمال محدودة بعدها أنفجر بدون صمامات أمان

ـ حسناً سأدعوك بقنبلة، طالما لا تريدين إخباري باسمك! 

همت بارد عليه كما يستحق عندما لاحظت رجاءاً غريباً وحزناً في عينيه، أخرجا زفرة لترتاح من التحفز ثم أومأت بحذر:

ـ خمس دقائق فقط، كلي آذان صاغية، ولكن لا تعتاد كرمي، فأنا بمزاج حسن اليوم، فقط. 

اقترب منها بحماس يفترش الصحيفة التي كان يكورها بين يديه ويجلس عليها مقهقهاً:

ـ كنت أعلم أنك ستنهارين فوراً أمام جاذبيتي 

فوجئ بضحكتها المقهقهة حتى دمعت عيناها، تألقت عيناه بجدية:

ـ لأول مرة أراكِ تضحكين.

ـ وهل هذا أمراً يستحق الإشادة، في هذا المكان أنا مجرد امرأة من آلاف

اخشن صوته وكانه يتمالك حروفه الهاربة من تأثير عيناها العميقتا السواد:

ـ نعم ولكن امرأة مميزة إلى حد كبير سوف أذهب.

سألته وهو يلملم الصحيفة التي افترشها:

ـ كنت مهتماً بمجالستي والحديث معي، الآن تهرب.

 

رسم ابتسامة متشحة بالغموض:

ـ ربما وقتاً آخر، تذكرت أمراً هاماً.

ضحكت مرة أخرى بعفوية:

ـ مشرد ولديك أموراً هامة ، حسناً كما تشاء، أعطني هذه الصحيفة لو كانت لا تلزمك، 

حدق بالصحيفة وقد تسارعت دقات قلبه على نحو جنوني ثم خبأها عن عينيها خلف ظهره:

ـ ما حاجتك بها، كنت أقرأ فيها و...

حركت يديها على أكتافها قائلة بارتعاش:

ـ لا بأس كنت سأتدفأ بها. 

هز رأسه ساخراً وهو يمد يده بالصحيفة إليها:

ـ لقد نطقت بالكلمة السحرية لتجعلي قلب الرجل يخفق في صدره.

أمسكت بالصحيفة وهي تحدجه بانشداه وقبل أن تسأله عن معنى كلماته كان يتوارى بين الجموع المشردة.

أمسكت بالصحيفة تفضها لتلف أوراقها حولها لتقيها شر لسعات البرد، عندما وقعت عيناها على خبراً، لا تدري لما تعلقت عيناها بكلماته تلتهمها لتشعر فجأة بعدم حاجتها للتدفئة فقد سرت الدماء الحارة في عروقها لدرجة الغليان، وأخذت تلهث وعاصفة من الأفكار الغريبة تدور في رأسها كالدوامات.

*************************.

ضرب ليو بقبضته على المكتب بزلزال كاد يقصمه نصفين:

ـ ماذا تعني أنك لا تعرف. 

شبك الرجل أصابعه ببعضها مطرقاً رأسه باحترام:

ـ كما أخبرتك، لقد أخذت الصحيفة لتتدفأ بها، ولا يعرف رجلي إن كانت قرأت الإعلان أم لا؟ 

ضرب ليو المكتب مرة أخرى فأحدث فجوة في خشبه:

ـ أخبرني مرة أخرى السبب الذي يدعوني لأحشو رصيدك بالأموال عن كل ساعة عمل تعملها تحت إمرتي، لتأتي وتخبرني أنك لا تعرف، .ورجلك هذا لماذا لم يقف بعيدا ويراقبها.

ازدادت إطراقه متنهداً بزفرة غيظ فهو نفس السؤال الذي طرحه على زاك دون أن يحصل على إجابة شافية ولكنه أحس أنه يخفي عليه أمراً، ولم يخاطر ليبلغ رب عمله بمخاوفه عندما أجابه اخيراً:

ـ لا تقلق سيدي لقد أعدت إرساله لها مرة أخرى ليصاحبها كظلها ، ساعة واحدة فقط وسيكون الخبر عندك. 

ـ هذه فرصتك الأخيرة، هل تعلم هذا؟؟

ـ نعم، أعلم، وأعتذر. 

أوقفه ليو عندما كان على وشك الخروج:

ـ انتظر، لو تأكد رجلك هذا أنها لم تقرأ الإعلان، أخبره أن يأتي بها هنا، 

ردد الرجل كلماته باستغراب:

ـ يأتي بها؟؟

ـ نعم يحضرها إلي هنا. 

ـ ولكن كيف، ماذا سيخبرها؟؟

ـ هذا عملك أنت وهو، وليس شأني، .شأني أن أحشو رصيدك بأموال لا تستحقها وأنت تنفذ رغباتي فقط، هذا المساء أريدها هنا، أمامي.

أومأ الرجل بانصياع تام وتراجع حتى غادر المكتب.

جلس في سيارته يرغي ويزبد يقسم أن يدفع ذلك الملعون ثمن كل الإهانات التي تكبدها من أجله، أمسك هاتفه وضرب عدة أرقام وانتظر طويلاً حتى أتاه صوت زاك على الطرف الآخر:

ـ سيـ... 

لم يمهله وهو يصرخ بكل غضب انتفض في عروقه:

ـ كلمة واحدة ولا أريد أن أسمع صوتك وإلا أقسم أن أقتلك بيدي المجردتين، عد إليها وتأكد إن كانت قرأت ذلك الإعلان اللعين، وإن كانت لم تفعل أو أن الإعلان لم يثر فضولها احملها برغبتها أو بدونها إلى العنوان الذي سأمليه عليك.

ـ ولكن يا سيــــ

ـ قلت لك لا تقاطعني، نفذ فقط، .اكتب العنوان.

أغلق زاك الخط بعد أن حفظ العنوان ثم نظر للبعيد حيث لم تغب عن ناظريه، لا يعلم ما يحدث، ولا أي لعبة يلعبها هذا السيد الغامض، ولماذا يتبع هذه المسكينة، ولماذا يرغب بنشب مخالبه فيها وهي البريئة التي لم تؤذي أحداً، استراحت أنفاسه عندما لاحظ اهتمامها بالإعلان، ولكن دهشته ازدادت وهو يراقب تباين مشاعرها المرتبكة وكأنها هي نفسها لا تعرف لماذا أثار هذا الإعلان اهتمامها.

ولكن ربما يكون أفضل لها أن تتبع حدسها على أن يحملها رغماً عنها إلى هذا السيد الغامض.

وتمتم بقلق:

ـ هل سيكون أفضل لك يا سمرائي البريئة أن تتبعي حدسك، أم التمرغ في ثراء رجل متوحش سادي الغرائز لا أعلم سبب اهتمامه بك، ولكنني سأثق بحدسك، وسأساعدك لتحلقي بعيداً عن هنا.

الفصل التالى

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-