أخر الاخبار

رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي الفصل السادس عشر

رواية عداء الدم  


رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي


رواية عداء الدم بقلم ميرفت البلتاجي 

الفصل السادس عشر

وقف زاك يستقبلها بترحيب لم تتوقعه، لم تظن أنه سيهرع للقائها بعد أن تتصل به، ولم تتوقع كذلك أن تراه في هذه الحلة الغالية الثمن:

ـ لا تقل لي هل وقعت على كنز القرصان كوينز.

ـ تستطيعين قول هذا، أنا أيضاً خرجت من لقب المشردين، هنيئاً لنا، تبدين سعيدة، 

أومأت بنظرة حزن حاولت تواريها:

ـ نعم، الأمور على ما يرام، وأنت. 

تجاهل سؤالها:

ـ سأدعوك على مأدبة فاخرة تحكين لي خلالها كل ما حصل معك. 

*******************

وضعت أدوات الطعام جانباً مصدرة صوتاً ينم عن الشبع:

ـ كانت وجبة رائعة، شكراً لك. 

تقبل إطرائها بخجل وقد اخترقته نظراتها التي لا تصدق كل ما يقوله عن نفسه. وضع ملعقته جانباً لتصدر صوت اصطدامها بكأس الماء، ثم أخرج زفرة طويلة:

ـ حسناً، أعرف أنك لا تصدقينني. 

سألته ببساطة وبدون أي نبرة اتهام:

ـ من أنت؟ 

ـ زاكاري فيرنون. 

ـ وعملك. 

تطلع حوله بزفرات ثقيلة، ثم عاد لعينيها اللتان اخترقتاه حتى النخاع بعتاب مؤلم، استقام في جلسته وأمسك يدها عبر المائدة:

ـ اسمعيني فيولا، أنا لم أؤذيكِ أبداً ولم أحاول، أنا كنت مكلف بحمايتك

ضاقت عيناها باستغراب شديد:

ـ حمايتي، ممن؟؟

ـ من نفسك أولاً بعد أن أصررت على ترك المشفى

ـ ومن يهمه أمري لحد تزظيف تحري خاص لمتابعتي؟؟؟

نكس رأسه بخجل من مواجهتها:

ـ آسف، لست مخولاً لأفصح لك عن اسمه.

 

دارت أفكارها في دوامة متلاطمة:

ـ كل ما اخبرتني به كذب، ومساعدتك لي لأصل لبيت سيرادور، والشبه المصادف الغريب بيني وبين زوجته، كل هذا كان خطة مدبرة. 

ـ أنا لم أعلم عن هذا الشبه أبداً، ولا أعرف سبباً يدعوكِ للاهتمام بهذا الإعلان.

 ومساعدتي لك في هذا الموضوع كانت بعيدة عن التعليمات الصادرة لي، صدقيني لقد وضعت نفسي في مأزق لمساعدتك. 

ـ ألم يريدني سيدك أن أعمل لدى سيرادور

ـ لا أعلم ما يريده، ولكنني نفذت لك رغباتك.

ـ لم أفهم، هل يعرف سيدك هذا من أكون؟؟؟

ـ أيضاً لا أعرف صدقيني معلوماتي شحيحة جداً في هذا الأمر. 

ـ إذن لماذا ساعدتني؟؟؟

ـ لأنني أحببتك. 

أمسكت بيده بنظرة جادة:

ـ إذن ساعدني، لا أملك في الوقت الحالي المبلغ الكافِ، ولكنني أعدك، 

ربت على يدها بحنان:

ـ ماذا تريدين؟؟

ـ ابحث عن هويتي، وأخبرني من يكون هذا السيد.

 

ـ سأساعدك في الشق الأول، ولكن الثاني، لن أقدر، أعدك أن افعل عندما ينهي مكتبي العقد معه، وقتها لن أخالف القانون بإخبارك. 

ـ حسناً، نلتقي الأسبوع القادم في نفس المكان.

 

ـ زوديني بكل التفاصيل التي تتذكرينها من اللحظة التي فتحت فيها عينيك في ذلك المشفى، كل تفصيلة مهما كانت صغيرة وبرأيك لا تهم، قد تساعدني في بحثى. واعتبري أنك دفعت لي كل مستحقاتي، جزاءً لي على خداعي لك.

رفعت أحد حاجبيها قائلة بتصميم:

ـ اتفقنا. 

ـ نبدأ بــ، من أين جئت باسمك، فيولا ؟؟؟

***************

ـ بابا، هل تظن أن فيولا تأخرت؟؟؟

كان لوجان يقف أمام النافذة شارداً وجمانا ترتاح على صدره في غفوة بعد عذاب. تمتم هامساً:

ـ هذا يوم إجازتها، هي حرة في استغلال كل لحظة فيه، ولا تنس أنها تنازلت عن كل إجازاتها في الشهر المنصرم


ـ نعم، أنت على حق، ولكنني أفتقدها كثيراً وكذلك جمانا، وهذا سبب مزاجها النزق اليوم، لقد اعتادت وجود فيولا. 

فجأة انتبه لوجان لحركة ما في الحديقة، انتظر حتى تأكد من وجود شئ ما غير طبيعي، سلم جمانا لأخيها هامساً:

ـ لا تتحرك من مكانك، اعتني باختك وسأعود خلال لحظات

ـ بابا، ولكن، ما الخبر. 

وضع لوجان إصبعه على فمه كي يصمت ابنه فأومأ بتفهم وراقب والده يتسلل للحديقة، اتخذ مكانه في النافذة وأخذ يراقب ما يحدث حتى تململت جمانا مستعيدة قدرتها على البكاء بعد غفوتها القصيرة فانشغل بها عما يحدث بالأسفل.

 

بخطوات خفيفة كالفهد اقترب لوجان بدون أن يصدر صوتاً واحداً، كان متأكداً من وجود شخص يراقب بيته، شخص يتوارى بجوار الحائط، قرر أن يمسكه قبل أن يبلغ الشرطة خوفاً من أن يهرب. 

أخذ عدة أنفاس عميقة قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة التي سيقبض بها على ذلك المتسلل، ثم انقض عليه وأمسكه من تلابيبه ليتوقف فجأة مذهولاً أمام تلك العيون المذعورة تتوسله أن يسامحها، وما تزال يداه قابضتان على تلابيبها هتف من بين أسنانه:

ـ فيولا، ماذا تفعلين هنا تتسللين كالصوص. 

بعد محاولات لاستجماع أنفاسها التي انقطعت بالقبض عليها واقترابه منها لحد احتراق جلدها بأنفاسه:

ـ سيد سير، دور، سامحني أنا لم، أقصد أنا كنت. 

خفف قبضته دون أن يتركها تماماً:

ـ كنتِ ماذا، تراقبينا..

ـ لا، لا أقسم لك، أنا... أنا. 

وفجأة انسحب الدم من عروقها لتتحول لخرقة بيضاء بين يديه وعيناها الجاحظتان تزوغ وساقيها تتراخيان وكانت ذراعيه آخر إحساس ستحتفظ له للأبد قبل أن تفقد الوعي. 

ازداد صراخ جمانا وزعر ألكسيس ووالده يدخل حاملاً مربيتهم فاقدة الوعي بين ذراعيه تصدر صوتاً مزعجاً في محاولة التقاط أنفاسها:

ـ بابا، ماذا بها فيولا؟ 

ـ لا أعلم، اصطحب أختك للداخل وأنا سأحاول إعادتها للوعي. 

أومأ له ألكسيس وهم بتنفيذ الأمر عندما توقف فجأة، في ثوان سريعة جال بخياله مشاهد من الماضي، ازدرد لعابه بصعوبة وهتف وكأنه لا يصدق ما يحدث أمامه:

ـ بابا... 

التفت له لوجان صائحاً:

ـ قلت لك اذهب بسرعة أختك مذعورة، سأتصل بالطبيب فهي لا تستجيب لأي.... 

ـ بابا. 

انتبه لوجان لنبرة ابنه الجادة هذه المرة:

ـ فيولا، مصابة بنوبة ربو.


اتسعت عينا لوجان بذهول، وأعاد النظر لها عيناها غائرتان وشفتاها يغلب عليهما اللون الأزرق وجسدها ينتفض باختناق، لم ينتظر ليحلل فأسرع لغرفة مكتبه وفتح أحد الأدراج ليخرج منها جهاز الاستنشاق.

 

وضعه في فمها وأفضى دفعة من الدواء بكبسة واحدة، لتبدأ فوراً بالتنفس من جديد وتختفي الأعراض ليعود صدرها للتنفس بشكل طبيعي..فقط عيناها ظلتا مغمضتان.

التفت لوجان لابنه قائلاً بنبرة مجهدة:

ـ اذهب لغرفتك..وحاول إشغال جمانا بأي شئ

توقف ألكسيس:

ـ بابا. 

ـ ليس الآن، عندما أفهم أولاً، ستعرف بالتأكيد

ـ ولكن ألا يمكن أن تكون هي... 

صرخ لوجان مما أثار رعب جمان لتعود للبكاء مرة أخرى:

ـ لا مستحيل، لا يمكن أن تكون هي..وأنت تعلم هذا جيداً.


ـ ولكن. 

ـ ألكسيس، أختك تبكي، من فضلك إذهب الآن.

 

انتزع أحد المقاعد من مكانه ووضعه أمام الأريكة التي تتمدد عليها وجلس يتأملها بمشاعر متضاربة، ولم يعرف ماذا يتمنى، هل يتمنى أن تكون هي شيارا، أم لا..

هل يمكن أن تكون هي وحصل لها حادث ما وفقدت الذاكرة، ولكن.

 

عادت عيناه تزوران شفتيها العامرتان ويدقق النظر في طرفها السفلي يبحث عن خاله، وكأنه سيظهر من العدم، الواقع يقول أنها لا يمكن أن تكون هي، شيارا مدفونة في قبر وعليه شاهد باسمها، وهذه تكون، 

تململت فأخرجته من شروده:

ـ أين أنا؟ 

ثم وضعت يدها على صدرها تتأوه:

ـ ما الذي حدث لي؟

بنبرة اتهام:

ـ أصابتك نوبة ربو..

رددت بانشداه:

ـ ربو، هل أنا مريضة بالربو؟؟

رفع حاجبيه بتهكم:

ـ على ما يبدو 

ـ لماذا تتحدث معي بهذه الطريقة وكأنك تتهمني بشئ؟؟

ـ لماذا ضبطتك تتسللين خارج بيتي؟؟

هتفت بصوت متحشرج:

ـ أنا لم، لم أفعل، كل مافي الأمر أنني، أنني تسكعت كثيراً ولم أعرف ماذا أفعل بباقي يومي، فكرت أن أنتظر بجوار البوابة حتى يحين موعد عودتي؟؟

كتف ذراعيه على صدره يرمقها باستغراب:

ـ هل تقولين أنني أجبرتك على الإجازة..


دمعت عيناها فنكست رأسها يكفيها ذلاً ومهانة أن يعرف أنه ملجأها الأول والأخير، رفع رأسها متمتماً:

ـ أتعلمين، شيارا أيضاً كانت مريضة بالربو. 

اتسعت عيناها رعباً وهزت رأسها بعلامة عدم التصديق:

ـ هذه أكثر من صدفة، أليس كذلك؟؟

أومأ بالموافقة:

ـ نعم، ضعي نفسك مكاني، 

ـ أنا لا أعرف فيم تفكر، ولكن، أنت حضرت مراسم دفنها، ومتأكد من موتها، أليس كذلك؟؟؟

*******************

ـ لماذا تسأل عن اسم المشفى يا زاك، ألم أطلب منك أن تحل أي ارتباط لك بما يتعلق بهذه الفتاة، لقد تسببت في إغضاب السيد، أشكر الرب أنه لم يفسخ عقده معنا.

 

ـ لم يفسخ عقده معنا لأنه ما يزال بحاجة لخدماتنا وليس من أجل غرامه بنا. 

ـ كف عن هذرك وافعل ما أمرتك به واترك قضية هذه الفتاة لا شأن لك بها. 

ـ وإن لم أتركها، أنت تعلم جيداً أنني أستطيع الحصول على المعلومات التي أريدها عن طريقكك أو من الف طريق غيرك، تلميذك أستاذي..


ـ لن تحصل مني على معلومة واحدة..واذهب أنت مطرود. 

أومأ زاك بنظرات متهكمة وحياه ساخراً:

ـ أسعدت مساءاً..

خرج ينفس عن غيظه المكتوم بزفرة غاضبة حتى وقعت عيناه على السكرتيرة الشابة للمكتب تراقبه بتساؤل..تهللت أساريره عندما وجد المخرج أخيراً:

ـ مرحباً، كيف حالك. 

أومات بحذر:

ـ أهلاً بك، هل تشاجرت مع المدير..

ألقى نظرة ساخطة على الباب المغلق واقترب منها:

ـ ليس تماماً، مجرد اختلاف في وجهات النظر، ليس بالأمر الهام، هل أطلب منك خدمة؟ 

انبسطت أساريرها وععيناها ترمشان بقوة:

ـ أي شئ يا سيد زاك، أطلب فقط. 

ـ أشعر بصداع يكاد يشطر رأي نصفين، هل أثقل عليك بطلب قهوة وحبتا للصداع من الصيدلية المجاورة، لا أكاد أرى أمامي وأخشى أن أصطدم بحافلة أثناء عبوري الطريق. 

ـ أوووه، مسكين، بالطبع، سأصنع لك قهوة فوراً، ولكن مسكن الصداع موجود أحتفظ به دائماً في حقيبتي، لحظة واحدة سأعد القهوة وأجلب لك كوب من الماء.

ضم شفتيه بامتعاض بابتسامة شاحبة، وفور خروجها بدأ بالعبث بدولاب الملفات، بنظرة انتصار عثر على ضالته. 



 الفصل السابع عشر

لم تستعب ما قاله، وأخذت تستعيد كل محادثته معها، وكلما حاولت تشعبت علامات الاستفهام حولها حد الاختناق، ماذا يعني هذا؟


 زوجته هربت قبل ولادة جمانا بشهور، عادت الطفلة الصغيرة ومعها عنوان قبر أمها، هذا كل شئ، لماذا لا تساوره أي شكوك بها، فقط من أجل اختفاء ذلك الخال عن شفتيها، هل هذا دليل برائتها الوحيد، ولكن هذا ليس الدليل الوحيد، نعم رأته في عينيه، كأنه يتمنى ألا تكون هي..؟؟

شردت وهي تعود بذاكرتها عدة شهور في الماضي. 

ذراع تمتد ..تراها من خلال عيناها النصف مغمضتين تفتح ستائر النافذة المعتمة لتدخل أشعة الشمس تحتل الفراغات المظلمة بجرأة، كانت تترقب بلهفة معرفة من يكون صاحب ذلك الجسد الضخم، استدار عندما شعر باستيقاظها. 

استقبلته بنظرات غير مستوعبة رغم ابتسامته المهللة وكأنه يتوقع أن تتعرف عيله فوراً، أسرع وأمسك بيدها:

ـ حبيبتي، حمدا لله على سلامتك، مر وقت طويل ولكنني لم أيأس أبداً كنت أعرف أنك مقاتلة ولا تهزمين أبداً. 

سألته بصوت مجهد بالكاد استطاع سماعه:

ـ من، أنت، هل أعرفك؟؟

أطرق رأسه لحظات ثم رفعها بنظرة غريبة يغلب عليها الحزن والاشتياق:

ـ لقد أخبرني الطبيب أنك ربما تفقدين بعضاً من ذكرياتك، ولغروري الأحمق ظننت أن ذكرياتي في قلبك أقوى من عقلك، استحققت هذه الضربة، لا بأس. 

هزت رأسها بعدم فهم! 

ـ ماذا تعني، من أنت، و، من أنا، ولماذا لا أتذكر أي شيء؟؟

ربت مرة أخرى على يدها بحنان:

ـ اهدأي، سأخبرك بكل شئ، ولكن سننتظر حتى يطمئنني الطبيب عنك، سأذهب وأخبره أنك أفقت. 

مر وقت طويل قبل أن يدخل الطبيب تتبعه الممرضة ولكن الرجل الغامض لم يدخل، سألها الطبيب بابتسامته الهادئة:

ـ كيف تشعرين يا آنسة أليسندرو؟؟

حدجته بنظرة مبهمة ثم للممرضة الصامتة كالتمثال:

ـ هل هذا اسمي!! 

ـ نعم..فيولا أليسندرو، ربما تجدين صعوبة في تذكر بعض الأشياء في الماضي وربما تستعيدين بعضها، ولكنك في النهاية ستكونين بخير أنتِ في رعايتنا الفائقة لا تقلقي.

ـ لماذا؟؟ 

تبادل الطبيب وممرضته النظرات المستفهمة ثم سألها:

ـ عم تسألين بالضبط؟

ـ لماذا لا أتذكر، ولماذا أنا فر عياتكم الفائقة، ومن هذا الرجل الذي كان هنا، ومن أكون أنا. 

زفر بإحباط ثم اشار للممرضة. 

تابعتها فيولا تدور حول الفراش حتى وصلت للسائل المغذي المعلق ينزل منه أنبوب ينتهي في ذراعها، أفرغت محتوى محقنة فيه وعادت لتقف بجوار الطبيب بصمتها المعهود.

 

ضاقت عينا فيولا دون أن تفهم ما يحدث، وصلها الإدراك متأخراً عندما حاولت إعادة السؤال عندما شعرت بثقل رهيب في لسانها وأجفانها التي أخذت تنطبق على عيناها دون إرادة منها، كلما حاولت فتحها غلبتها بثقلها.

 

هنا أشار الطبيب للممرضة إشارة أخرى فغادرت الغرفة لتعود ومعها الرجل الغامض، بالكاد كانت تراه من خلال غلالة من الضباب وهو يرمقها بنظرة غريبة ويحدث الطبيب والممرضة بصوته الآمر، ماذا كان يقول لهما، لم تعرف أبداً.


عاد مبكراً على غير عادته، لم يستطع منع نفسه اليوم، ربما منذ الغد سيعود لسابق عهده ولا يعود إلا بعد أن تنام، اليوم مختلف، هذا ما حاول أن يقنع به نفسه، خاصة ألكس لأول مرة يذهب في رحلة مع المدرسة خارج الولاية.

 

خطا داخل البيت ليصطدم بالهدوء المعتاد، اصنطت حوله، ولا شيء، وهذا غير معتاد بالطبع، شهوراً قضاها في البيت مع أولاده ولا ساعة من نهار كانت بمثل هذا الهدوء ما عدا في الليل عندما يخلد الجميع للنوم، ولكن، مهلاً، يوجد صوت بعيد.

 

تتبع مصدر الصوت، حتى وصل لغرفتها، وقف أمام الباب المغلق لحظات يحاول التعرف على الصوت، كان كصرخات مكتومة أو، ربما تأوهات، بدأ دمه بالغليان وهو يتخيل المربية الحسناء تستغل غياب ألكسيس لتتبادل غرامياتها مع ذلك الزاك اللذي تعرفه، لا شك أنها أعطت جمانا منوماً ما لتضمن هدوئها، كانت يداه ترتجفان من شدة الغضب وهو يحاول أن يتمالك نفسه.


 وفي النهاية لم ينجح فقد اقتحم الغرفة ليضبطها بالجرم المشهود ولدهشته كان الفراش خاليا ولكن التأوهات ما تزال تداعب أذنيه بوقاحة، زفر ساخطاً وقد حدد مكانها أخيراً، القذرة تتبادل غرامياتها في الحمام مع عشيقها، وهب كثور أعمى ينفث الدخان الأسود من منخاريه وهو يقتحم الحمام صارخاً:

ـ أيتها القذرة الخــ...

صرخات رعب أوقفت سيل اندفاعه، في البداية لم يفهم فقد حدث ارتباك في ماء حوض الاستحمام عندما انزلق الجسدان العاريان يحاولان الفكاك من المياه التي أحاطت برأسيهما أحدهما مرتبك والآخر قد انفطر من البكاء.

********************

ـ ليو. 

توقف ليو مكانه متسمراً بعد سماعه لنداء والده بهذه اللهجة الصارمة، التفت بهدوء يرسم ابتسامة هادئة:

ـ بابا، لم أعرف أنك هنا، عن إذنك عندي اجتماع عاجل ولا... 

ـ أنت لن تذهب لأي مكان. 

رمش ليو في محاولة لاستشفاف ما يدور بخلد والده الذي يبدو وكأن الغضب قد استولى على تعقله:

ـ بابا ولكن الاجتماع. 

ـ لا تكذب، أنت لن تذهب لأي اجتماعات، لو ذهبت للجحيم لن أبالي ولكن لا تكذب على أبوك الذي رباك، لم تفعلها وانت صغير، وأحذرك أن تعيدها مرة أخرى. 

زفر ليو وهو يقبض على أصابعه محاولاً تمالك أعصابه:

ـ بابا صدقني أنا لا أعرف عما تتحدث، هل لك أن تهدأ من فضلك وتخبرني لماذا أنت غاضب لهذا الحد وتتهمني بالكذب

اقترب منه لتتحول لتزيد تجاعيده طولياً وعرضياً من شراسته:

ـ لقد تجرأت وكذبت في وجهي يا ليو عندما سألتك عن تلك المرأة، لم تخبرني بحقيقتها أبداً..

تراجع ليو خطوة واحدة ثم عاد يتمالك نفسه في اللحظة التالية كي لا يبدو عليه ما يعتمل داخله من غليان:

ـ أي امرأة؟ 

ـ لا تتذاكى، أنت تعرف عن أي امرأة أتحدث.

 

نكس ليو رأسه فهو يعرف والده جيداً، إعصار قد يمر بجانيه دون أن يحرك شعرة في رأسه، ووصوله لهذه الحالة معناه ورطة لا محالة.

ـ حسناً، يبدو أنك تتحدث عن المرأة التي... 

أكمل والده بزفرة نارية:

ـ التي تهتم بأمورها وترسل تحرياً خاصاً لتقصي تحركاتها، سألتك من تكون، ولم تخبرني كل الحقيقة..

ـ صدقني يا والدي.

ـ لا، لن أصدقك، إلا عندما تقول الحقيقة، ما سر اهتمامك بها، ولماذا هي تعمل في بيت سيرادور بالذات. 

اتقدت عينا الأب بنيران مندلعة فبهت ليو مرة أخرى ولم يستطع هذه المرة إخفاء شحوبه وهو يدافع بارتباك:

ـ طلبت مني أن أبتعد عنها، وفعلت، ثم ذهبت لتعمل في بيت سيرادور كمربية لأولاده بعد، بعد وفاة شيارا. 

اتسعت شفتا العجوز بابتسامة أشبه بعبوس ضاري:

ـ كم أنت رقيق القلب، لترسل مربية لأولاد سيرادور. 

ـ لم أرسلها..كانت مصادفة، والتحري أعفيته من مهمته

ـ لو كنت أعفيته لماذا ما تزال فواتيره تصل لمكتبنا في الشركة، هذا ما أكده لي المحامي. 

هز ليو رأسه بتفهم وعيناه تلمعان ببريق متوعد:

ـ المحامي، حسناً..لا تقلق سأسوي أموري ربما نسيت أغلاق هذا الملف، أعدك أن أفعل في أقرب وقت. 

أوقفه صوت والده الصارم مرة أخرى وهو يهم بالخروج:

ـ توقف ليو، عد أمامي هنا. 

لحظات متوترة مرت قبل أن يقرر ليو التعقل وتنفيذ أمر والده الغير قابل للنقض، 

وقف أمامه ولكنه لم ينكس رأسه كما كان يفعل في الماضي، ولا حتى من باب الاحترام، ما أوجع قلب الأب أن ابنه وضع عيناه في عينيه بتحدي لا يلين:

ـ من أنت، لست ابني الذي ربيته على دماثة الخلق، لست ليو الذي أعرفه منذ نعومة أظافره. 

ـ بابا...ما هذا الذي تقول؟

ـ أقول ما أرى، منذ إصابتك بذلك الحادث الملعون لم تعد، شهور وانت حبيس الجبائر، لم أفقد الأمل في شفائك، واستجاب الرب لدعواتي، وتم لك الشفاء، ولكنك لم تعد، تحولت لإنسان غريب، لا أعرفه، قد تكون ترتدي جلد ولدي ليو، ولكنك هنا. 

وضغط بإصبعه بقوة على قلبه مردفاً:

ـ من هنا، لا أعرفك، أنت غريب تماماً

ـ بابا، أنت تتخيل

ـ لا، لم أصل لسن الخرف بعد.

وضع يده في جيبه مقهقهاً بسخرية قالباً شفتيه بامتعاض:

ـ أحقاً، أيها العجوز لقد جاوزت السبعين ماذا تريد بعد، يبدو أنني سأفكر جدياً بالحجر على أموالك، بأفكارك هذه قد يظنونك مجنوناً

ـ هل أنت واع لما تقول يا ول. 

انقلبت ملامحه فجأة لتحتل خطوطاً حولته لوجه شرير في لحظات:

ـ لا تقل لي ولد، لا تستغل لطفي في معاملتك كثيراً. 

ثم اتجه ناحية الباب عندما توقف واستدار له:

ـ بالمناسبة، لو كانت تصرفاتي لا تعجبك بإمكانك الانتقال في أي مكان آخر.

 

تهالك السيد كوتشيانو على مقعده مذهولاً محدقاً في الباب المغلق بصدمة بالغة، أمسك تليفونه المحمول بأصابع مرتعشة، أكثر من مرة سقط من يده ثم عاد يمسكه ويكمل اتصاله:

ـ ألو، دكتور أومالي، نعم أنا متأكد تماماً هذه المرة، هذا المسخ ليس ابني ليو، هل يمكن لضربة على الرأس أن تغير من سلوك إنسان، . نعم، فهمت، أحقاً، يمكنك إصلاح الأمر عن طريق عملية جراحية، بالطبع، ولكن المشكلة كيف يمكننا إقناعه؟؟؟

**********

ـ أنا آسف، لم ظننت أن... 

من بين أسنانها هتفت دون أن تستطيع الحركة:

ـ هل تسمح بحمل الصغيرة الباكية وتخرج من حمامي لأستطيع الخروج.

وكأنه انتبه لصوت جمان الباكي وهو تنظر له بخوف، ازداد إحراجاً وهو يمد يديه ليلتقط الطفلة المتعلقة بعنقها في حوض الاستحمام، ولكنها التفتت صارخة لتزداد تشبثاً بعنق فيولا.

 

بهت لوجان بينما أخذت فيولا تهمس بأذنها لتهدأ، ولم تجدي المحاولة بأي نتيجة، فظلت على تمسكها رافضة اقتراب والدها، نظرت لأعلى:

ـ لا فائدة، وأنا لا أستطيع الوقوف وهي متشبثة بي بهذا الشكل، ستقع كلانا، 

تهدلت ذراعيه بإحراج مضاعف وأطرق خجلاً من تصرفه:

ـ أعتذر حقاً. 

ـ اعتذارك لن يحل الموقف، شئ واحد فقط، يمكنك أن، أن تمسك بالمنشفة الكبيرة وتشيح بوجهك بعيداً، وأنا سأحاول الوقوف ثم تلفنا أنا وجمانا بها، هل تستطيع فعل هذا؟؟

اتسعت عيناه محاولاً التركيز على ما تقول ومئات المشاهد تتوالى أمام عيناه ولكن، ولا مشهد يرى فيها شيارا تستحم أو هو يحاول بشقاوة مباغتتها، أو، 

ـ سيد سيرادور. 

انتفض وأمسك بالمنشفة مشيحاً بوجهه بالفعل:

ـ أنا جاهز.

 

رمقته بنظرة شقية ثم تمسكت بالصغيرة جيداً وبعد المحاولة الثانية استطاعت الوقوف، شعر لوجان بالمنشفة المفتوحة بين يديه تمتلئ فلفها حولها متنشقاً عطر الياسمين في كليهما وشعورهما تتقاطر لتصيبه بعضها، وقف الثلاثة يرمقون بعضهم بإحراج، وقبل أن تتكلم فيولا، فوجئت به يزيد المنشفة حولهما إحكاماً ويحمل كلاهما بدون أي مشقة. 

وضعهما على الفراش وتراجع مرتبكاً:

ـ سأكون في مكتبي.

 

نظرت لجمان بعد ذهابه ومسدت شعرها المبلل:

ـ حبيبتي ليس عليكِ أن تخافي من بابا، هو أحياناً يغضب بدون سبب ولكنه يحبك كثيراً، أومأت جمان وكأنها تفهم ما يقال لها، ألبستها فيولا ملابسها وعندما انتهت كان النعاس قد غلب مقاومتها، ارتدت ثيابها هي الأخرى وذكرى ظلال نظراته لا تفارقها، زفرت بإحباط.

 

كانت ترغب بأي شعور آخر، الغضب، الغيرة، أي شيء إلا هذه النظرات التي تبتلعها وتحتويها وتحفها، ولكن هذا لا يعني أن تتجاوز عن اقتحامه لحمامها بدون استئذان، أي أفكار شيطانية راودته ليقتحم هذا الاقتحام الجائر؟؟؟

ـ أنا لا أعرف، أعتذر مرة أخرى، ظننت أن.... 

ضاقت عيناها تحاولان استشفاف ما يقصد:

ـ ظننت أن رجلاً معي. 

ضربت قدمها في الأرض باعتراض عندما أطرق زاعناً:

ـ كيف تجرؤ؟ 

ـ لآلاف المرات سأعتذر، لم أدر أي شيطان لعب بأفكاري. 

ـ سأسامحك هذه المرة فقط، بشرط..؟


الفصل التالى

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-